الحلقة الرابعة والعشرون
كان شعر صوفيا كثيفًا ومجعدًا، وكأنه يرفض أن يمرّ في هدوء بين عيون المارة. في كل مكان، كان يبدو وكأنه يبرز في الزحام، لا يمكن تجاهله، وبينما كنتُ أتلاعب بخصلات شعرها الطويل، رأيتُ جيو يلمحنا بنظرة سريعة، ثم أطبق الصحيفة التي كان يحملها بإحكام، مستعدًا لما سيحدث بعد ذلك.
“هل تلاحقيننا بدافع الشك؟”
قال، وهو يلتفت ليؤكد ما كان يدور في ذهنه.
“إن كنتِ تشكين، لما لا تدخلي وتتفحصين الأمر بنفسك؟”
تبعتُه إلى الغرفة الثانية في المبنى، حيث كان الهواء مشبعًا بالهمسات والأسرار ، صوت خطواتنا كان يتناغم مع صمت المكان، بينما أخذ جيو يضع الصحيفة على الطاولة.
“ذلك الصحفي المشبوه… طرح أسئلة غريبة ومربكة، وكان مقاله مليئًا بالمبالغات.”
قال جيو وهو يتحدث عن الرجل الذي أثار فضولنا.
“إنه من أتباع ‘كيبان’، أليس كذلك؟ هؤلاء الناس يتفاخرون بأنهم يكشفون الحقائق، بينما يركضون خلف الشهرة بكل قوتهم.”
أجاب جيو، ساخرا:
“الماركيز كيبان يُعتبر مشكلة بحد ذاته الابن الثاني، أصبح فارسًا بفضل نفوذ العائلة، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد عائلة كيبان لها تاريخ طويل في تكوين الثروات المشبوهة، فهي مرتبطة بأموال مشبوهة وأعمال غير قانونية.”
ثم أضاف قائلاً:
“لكن تأثيرهم بدأ يتراجع في الآونة الأخيرة، يقال أنّ الابن الأكبر أصبح مدمنًا على القمار، مما أدى إلى خسائر كبيرة لذا عائلة كيبان تعاني من تدهور مستمر، خصوصا أنّ كل الأتباع يواجهون مشكلات لا تعد ولا تحصى، مما جعل نفوذهم تتراجع تدريجيًا.”
لكن جيو لم يُبدِ اقتناعًا كاملاً، كان يشعر أن هنالك شيئًا خفيًا وراء تصرفات العائلة الغريبة، همس قائلاً:
“ويقال إنهم يجرون تجارب سرية ومعقدة، يبدلون الأعضاء البشرية ويجرون تجارة غير شرعية بها.”
“هل تقصد كونامو؟” تساءلتُ بدهشة.
فجأة، تدخل كايين وهو يرفع كتابًا بين يديه قائلاً بنبرة هادئة:
“في الصفحة الأخيرة من المجلد الثاني، تجدون شرح واضح يتعلق بـ’كونامو’.”
لقد فتحت الورقة وقرأت المكتوب بعناية، حيث كان الشرح يوضح:
“كونامو هي إحدى أقدم المنظمات التي تعمل في الظلال، لا يتعاملون مع القذارة مباشرة، بل يوجهونها من بعيد ويستثمرون فيها وقت الحاجة.”
قال كايين مبتسمًا، وهو يغلق الكتاب:
“لا يوجد دليل قطعي يثبت أنهم يديرون هذه الأمور، لكن لا أحد يجرؤ على نفي علاقتهم بكل ما يحدث.”
“هل هذا ممكن حقًا؟”
تساءلتُ، بينما كان الفضول يغلبني.
“ربما لا يظهر بشكل واضح، لكنهم متورطون بشكل ما.”
قال كايين.
“متورطون؟”
“نعم، الأغنياء يتاجرون بالمخدرات تحت رعايتهم، وينقلون الأموال إليهم حتى أولئك الذين يقومون بالأعمال القذرة، لهم ارتباطات خفية مع كونامو.”
قال جيو بتساؤل مفاجئ:
“أتعني أن تجارة الأعضاء واستغلال البشر يتم عبر كيبان، تحت حماية كونامو؟”
هز كايين رأسه بثقة:
“من وجهة نظر كونامو، الكيبان ليسوا سوى أدوات لجني الأموال.”
قال جيو، قلقًا:
“وماذا لو قرروا الانتقام منا؟”
أجاب كايين بثقة:
“لن يفعلوا.”
ثم أضاف مبتسمًا بحزم:
“من يجرؤ على مهاجمتنا؟”
كلامه كان صادمًا رغم أنهم كانوا يفتقرون للمال والدعم، كان كايين واثقًا جدًا من أنهم في مأمن، وأن لا أحد يستطيع المساس بهم.
“نحن لا نخوض معركة خاسرة ، فقط علينا إتمام الحسابات حتى النهاية.”
قال كايين بنبرة قاطعة:
“كل شيء يسير حسب المخطط، نحو سقوط العائلة ونهاية عهدهم.”
ثم نظر إليّ وسألني:
“ما رأيك؟”
أجبته بابتسامة مترددة:
“صراحتك لا تضاهى… أنت حقًا الأفضل.”
ضحك كايين بخفة وهو يرد:
“لم أسمع أحدًا يمتدحني بهذه الطريقة من قبل، يا له من شرف.”
نهض فجأة وقال بحماسة:
“حسنًا، لنبدأ الخطوة الأولى الآن، أليس كذلك؟”
صافحني بقوة، بينما كان جيو يفتح الباب مرتديًا معطفًا غريبًا، وفجأة، صاحت صوفيا من الخلف:
“وااه!”
استدارت صوفيا بسرعة، وأخفت جسدها خلف الباب كان هناك رجل مقيدًا على كرسي، جسده مشدود بإحكام وكأنه سُحب قسرًا إلى الداخل صُدمتُ، وحدقت عيناي عليه في دهشة.
“من هذا؟ من يكون؟”
قال كايين بهدوء:
“إنه رئيس منظمة ‘كونامو’ أردت أن أسمع منه شيئًا بنفسي، لذا أحضرته.”
سألتُ، وأنا أبحث في ذاكرتي إن كنت قد رأيته من قبل: “هل هو الرئيس؟”
ابتسم كايين ابتسامة خافتة وهو يلوّح بيده قائلاً:
“نعم، هذا هو.”
“جيو.”
سحب جيو الرجل من كتفيه وأجلسه بجانب الباب، ثم قيّده مجددًا بإحكام. وقال له بنبرة حازمة:
“من أنت؟ لست الرئيس الحقيقي، أليس كذلك؟”
أجاب الرجل بهدوء:
“أجل، أنا مجرد بديل… الرئيس الحقيقي لم يكن ليرسل نفسه إلى هنا.”
سحب جيو ورقة مطوية من جيب الرجل وسلمها إلى كايين.
“ما هذه؟”
قال جيو: “الرسالة التي أرسلها الرئيس بنفسه، بها اسم المكان والموعد المحدد للّقاء.”
تفحص كايين الورقة بتمعّن، ثم نظر إليّ وقال:
“هل تودين المجيء معي إلى هناك، يا آنسة؟”
“سيكون الأمر ممتعًا.”
***
فتح كايين عينيه ببطء، وكأنه يستيقظ من حلم ثقيل، وقد أثّرت فيه كلمات جيو بقوة. قال بهدوء:
“هل ستذهب الآنسة!؟”
أومأ برأسه.
“نعم. انتقامها ليس مجرّد ثأر، أنا هنا لأرافقها وادعمها، هي من تستحق أن ترى بعينيها كيف يُسحق أولئك الذين دمروا حياتها.”
تنهّد جيو وقال:
“لكن…”
قاطعه بصلابة:
“ما تريده الآنسة هو أن تسمع صرخاتهم، أن تراهم وهم يسقطون واحدًا تلو الآخر فلا تُقلل من نيران قلبها. ”
أطرق برأسه وكأن الكلمات أغرقته في تأمل مؤلم، ثم استكمل حديثه بنبرة مكسورة:
“أجل… من عاش في الجحيم مثلها، لا بد أنه رسم ألف مشهد لما سيفعله بهم حين تحين ساعة الانتقام.”
لم يرد جيو فقط خفّض رأسه، وتقبّل قسوة الواقع بصمت. ثم تابع:
“لا أظن أن مجرّد كلامٍ سيقنع شخصًا كـ’الآنسة ‘ بالتراجع، وليس من العدل أن نطلب منها أن تغفر.”
كان كايين قد تخلى عن جدول أعماله المعتاد، فلم يكن ليغادر المنزل طوال الأسبوع، ولم يتسلّم أية مهمّة، حتى كتابة المقالات اليومية التي عُرف بها، أهملها لكن الأمر كان أعمق من مجرد كسل… كان يراقب بصمت.
يتناول طعامه على عجل، يخرج في الليل متسللًا، ويعود فجأة دون إنذار لم يكن هذا سلوكه المعتاد.
وفي صباح ذلك اليوم، حينما دوّى صوت خافت في الممر، أدرك الجميع أن الأمور على وشك أن تبدأ.
“هل أنتِ جاهزة؟”
كان صوته هادئًا لكنه يفيض بحزم.
ابتسمتُ بهدوء وأنا أرتدي المعطف الأسود الطويل، فأنا بالفعل قد حزمت أمري.
“بعد الظهر، سيكون كل شيء قد انقلب… ألا تريد أن تراجع خطتك للمرة الأخيرة، أيها الدوق؟”
ضحك بخفة وهو يهبط الدرج نحو العربة.
“لا وقت للمراجعة… نحن نعمل على عقارب ساعة لا تتوقف.”
وقفت فيلوميل عند الباب، مترددة، ثم سألت:
“هل نُخفي وجوهنا؟” قال كايين:
“دعيهم يعرفوننا… من الأفضل أن تصلهم الرسالة بوضوح.”
ركبت فيلوميل العربة، ووضعت قبعتها، ثم استقرت.
وصلوا إلى مقهى صغير يعمل على مدار الساعة.
أومأ العامل بتعب واضح وقال:
“أهلًا بكم… تفضلوا.”
في الزاوية، كان هناك رجل يجلس قرب النافذة، قد أعدّ مسبقًا كوبًا من الماء وحلوى بسيطة.
همس النادل:
“لم يطلب شيئًا بعد، كان ينتظركم فقط.”
غطّت فيلوميل الطاولة بهدوء، ثم تقدّمت بخطوات محسوبة.
الرجل الجالس هناك كان يبدو واثقًا، هادئًا أكثر مما ينبغي.
“أوه… شرفٌ لي أن أراكِ، كان اللقاء الأول بنا لابد أن يكون بهذه الطريقة.”
كان صوته سلسًا كالنصل، يختبئ خلفه تهديد مريب.
سأله جيو بنظرة مباشرة:
“هل أنت فعلاً رئيس ‘كونامو’؟” ابتسم ابتسامة باهتة، ثم قال:
“ربما… هذا ما قيل لكم ، من يدري؟ في هذا العالم، ليس كل ما نراه هو الحقيقة.”
ثم ارتفعت نظراتهم إليه، وكان التوتر يعلو في الأجواء… هذا اللقاء لن يكون مجرد كلام.
عبست فيلوميل التي كانت تستمع لحديثهم كان هناك شيء مألوف، لا، في الحقيقة، كان أسلوب الحديث نفسه يبدو مألوفاً.
“إذن، لماذا خطفتم أحد تابعيّ، يا دوق؟”
“هل التقينا في مكان ما من قبل؟”
“ها؟ لا فائدة من هذه الأساليب القديمة.”
“توقف عن الكلام.”
أطلق كايين صوتاً بحركة لسانه في استهجان.
“لننتقل إلى الموضوع مباشرة يبدو أنني سأتمكن من قطع أحد مصادر تمويلك.”
“من أي جهة؟”
“من عائلة ماركيز كيبان.”
“…….”
“أوه… يبدو أنه مصدر تمويل ضخم أكثر مما توقعت؟”
“لا تبالغ، أنا بالفعل على علم بكل شيء. عائلة ماركيز كيبان ليست بهذا الحجم الكبير في النهاية.”
“ما هذا الكلام؟ بالنسبة لي، كل مصدر تمويل يعتبر كبيرًا بالمناسبة.”
” هل لي أن أعرف السبب؟ فأنا فضولي.”
“هو الخطيب السابق لخطيبتي.”
“آه، إذاً هو…؟”
ألقت فيلوميل نظرة جانبية على الرجل كأنها نظرة خفية، رغم أن وجهها لم يكن مرئياً، إلا أن فيلوميل احنت رأسها بلا وعي.
“نعم. لهذا السبب، أنا أنوي القضاء على تلك العائلة لعدة أسباب.”
رغم أنه دوق، كان كايين يتحدث عن تدمير عائلة الماركيز بنبرة هادئة، خالية من أي حماس أو انفعال.
لكن فيلوميل كانت غارقة في أفكارها، وكأن ذهنها كان يغوص في أعماق الماضي.
‘كونامو لماذا يبدو لي مألوفًا؟ هل هي ذكرى من حياتي السابقة؟’
كان هناك شيء غريب في ذهنها، شيء يبدو كعنوان.
“كونامو…” “كونامو…..” “كونامو…” “…….!!”
فجأة، ضربت فيلوميل الطاولة بكل قوتها، ونهضت فجأة من مكانها، وكان صوتًا قويًا قد دوى في الأجواء.
التعليقات لهذا الفصل " 24"