الحلقة الثانية والعشرون.
ظهر كايين فجأة خلفي، صوته هادئ لكنه مشبع بهالة من الثقة التي تتجاوز العادي.
“لماذا؟” سألت بدهشة وهي تلتف نحوه، تحاول أن تفسر ظهوره المفاجئ.
ابتسم ابتسامة ماكرة، تلك الابتسامة التي تتسلل بخفة إلى القلوب دون إذن.
“لأن رؤيتك تنتظرين على أمل أن أوافق ستكون مشهدًا أكثر إمتاعًا.”
حدقت إليه بصمت، ثم قلت ببطء، وكأن الكلمات تنزلق من بين شفتَي:
“دوقي العزيز، هل أنت عبقري؟”
ضحك بهدوء، رافعًا حاجبًا بسخرية خفيفة، وقال بثقة قاتلة:
“أسمع هذا الوصف منذ طفولتي.”
كنت أرغب برفع إبهامي إعجابًا، لكنه كان يتحدث وكأنه يعلم بالفعل تأثيره الساحر.
“يا له من نموذج للبطل النادم!”
حتى في نص الرواية، كان يجيد تعذيب القراء، والآن، ها هو يُظهر نفس المهارة على من حوله.
حين رفعت نظري إليه، كانت عيناي تلمعان بشيء من الفضول والغضب المتلاشي، لكن كايين مد يده بهدوء، وكأنها دعوة للعالم بأسره.
“آنسة، هل تودين تناول الإفطار معي؟”
أجبت على الفور، وكأن صوته لم يترك لي خيارًا:
“نعم، بكل سرور.”
في تلك اللحظة، لاحظت إيمون يحاول الدخول إلينا، وقبل أن يتمكن، أمسكت بذراع كايين، متشبثة به كما لو كنت أتجنب قدوم عاصفة.
صعدنا السلالم المؤدية إلى الطابق العلوي، حيث تقع غرفة الطعام، وعلى الجانب الآخر، سمعت سيباستيان يُحيي إيمون بلباقة مشبعة بالسخرية:
“إن أردت، انتظر في غرفة الاستقبال…”
رأيت من زاوية عيني وجه إيمون، مملوءًا بالغضب الذي حاول إخفاءه لكنه فشل.
بالكاد تمكنت من كتم ابتسامة ساخرة.
“هذا الرجل؟ من يظن نفسه؟”
ذلك اليوم مر بسلاسة؛ تناولت الإفطار مع كايين في هدوء لم أختبره من قبل، ثم قمنا بجولة خفيفة في الحديقة بعيدًا عن أنظار الجميع.
ما كان مميزًا أن كايين لم يكن لديه أي خطط خارجية لذلك اليوم، ما سمح لي بقضاء الغداء والعشاء برفقته أيضًا.
في المساء، وبينما كان الوقت مخصصًا لشرب الشاي، جلست أمام نافذة كبيرة تطل على الأفق ، كان غروب الشمس ينشر ألوانه ببطء على السماء، لكن خطوات غاضبة قطعت المشهد.
التفتّ لأرى إيمون يغادر القصر بخطى ثابتة، كأنه يهرب من شيء لا يحتمله.
تمتم كايين وهو يقف بجواري، ونظراته تتبع خطواته المبتعدة:
“أخيرًا قرر المغادرة.”
ابتسمت وأنا أراقب، ثم سألني بصوت مليء بالثقة الممزوجة بالسخرية:
“برأيك، كم من الوقت سيستغرق قبل أن يعود؟”
فكرت للحظة، اضقت عينيّ بينما أزن الموقف.
“لا أعلم ما الذي جاء به في المقام الأول، لكني أظن أنه سيأتي غاضبًا غدًا.”
ضحك كايين، بابتسامة تحمل شيئًا من التحدي.
“غدًا؟ إن صبره لا يدوم حتى بمقدار ذاكرة سمكة ذهبية.”
ضحكت بدوري، ثم أجبت:
“بصراحة، إنه أقل حتى من سمكة ذهبية.”
هز رأسه بابتسامة:
“ماذا لو قمنا بمراهنة؟ أنا أقول إنه سيصمد أربعة أيام ثم يثور.”
رفعت حاجبًا بدهشة:
“أربعة أيام؟ هذا مستحيل.”
تسللت نبرة مرحة إلى صوته وهو يضيف:
“أوه، إذًا، هل تدعمين رجلاً آخر أمام زوجك المستقبلي؟”
ضحكت بصوت خافت، ثم قلت بمكر:
“الأمر ليس كذلك، لكنك تبالغ في تقديره كثيرًا.”
“حسنًا، إذًا لنراهن.”
“بشرط أن يتضمن الأمر أمنية ، لكن بدون أمور مالية أو طلبات تتعلق بالأعمال.”
أومأ كايين بابتسامة متساهلة، وقال:
“كما تشائين.”
كنت واثقة من الفوز.
إيمون؟ ذلك الرجل يغضب إذا تأخرت خمس دقائق فقط عن موعد ما ، أربعة أيام؟ مستحيل تمامًا.
***
“هذا لا يُعقل…”
وقفتُ أمام النافذة، أحدّق من خلالها بعيون يكسوها اليأس ، خطواته الثقيلة التي تنبض بالضيق كانت تتراجع بهدوء، إيمون كان يتحكم بغضبه ويعود دون أدنى مقاومة أو احتجاج.
صرختُ بصوت يملؤه الذهول:
“ظننتُ أن رجلًا غبيًا مثله سيفقد أعصابه فورًا!”
التفتُّ لأجد كايين يبتسم ابتسامة المنتصر، وكأنما كان ينتظر تلك اللحظة ليُظهر تفوّقه.
“لماذا تبدين خائبة بهذا الشكل؟ لقد خسرْتِ هذه اللعبة منذ البارحة أساسًا.”
اعترضتُ بشيء من التوتر:
“لكن هذا لا يُحتمل!”
لثلاثة أيام كاملة، كان إيمون ينتظرني في غرفة الاستقبال طوال النهار قبل أن يغادر بخيبة أمل، وكأن ما حدث اليوم ليس سوى امتداد لهذا الروتين ، وبالرغم من معرفتي أن فرصتي بالفوز قد تلاشت تمامًا، كنت أؤمن أن صبره سينفجر اليوم.
رأيته من بعيد،يفرّغ غضبه على أحد خدمه بلا مبرر، يا للأسف، كنتُ أتمنى أن يكون هذا الغضب موجّهًا إليّ ونحن في قصر الدوقية.
تمتمتُ لنفسي بتساؤلٍ حائر:
“ما الذي يمكن أن يكون لديه ليقوله لي ويدفعه لإخماد غضبه بهذا الشكل؟”
بدأ القلق يسيطر على أفكاري، وكأنني لم أعد أعرف كيف أتعامل مع هذا الرجل، مدّ كايين يده ليطبطب على كتفي برفق، ثم قال بنبرة هادئة واثقة:
“ما رأيك يا آنسة؟ أعتقد أن الوقت قد حان لأفكر بما سأطلبه كأمنية.”
صرختُ محتجة:
“لكن لا يزال الوقت مبكرًا! من يدري إن كان سيتمكن من كبح غضبه غدًا؟”
ابتسم كايين وهزّ كتفيه بخفة، وكأن الأمر لا يستحق القلق:
“غدًا سنعرف.”
كانت ثقته الزائدة تجعلني أكثر اضطرابًا.
فكرة أن ينفجر إيمون غضبًا غدًا كانت تطاردني، ومع ذلك، حدث ما كنت أخشاه…
“فيلوميييييييييييل!”
ارتجّ المنزل بصوته الصاخب الذي شقّ طريقه إلى أذنيّ من طابقين أعلى، فأطلقتُ تنهيدة عميقة، تجمع بين الانزعاج والمرارة، ليس فقط لأنني لا أريد سماع صوته الغاضب، بل لأنني أيضًا كنت قد خسرت الرهان مع كايين.
كانت صرخاته ملحّة لدرجة أنني شعرت بثقل استغاثته، وكنت حينها أتناول الغداء مع كايين، نتشارك كوبًا من الشاي بينما النافذة مفتوحة، مما جعل صوته يصدح أكثر وضوحًا في الأرجاء.
“لدي شيء مهم لأقوله!”
صوته كان مليئًا باليأس، وكأن الأمر لا يحتمل التأجيل.
“أقسم أنه مهم!”
سمعتُ أصواتًا تحاول تهدئته، لكنّه بدأ يسبّ ويلعن بلا خجل، عندها عبستُ ووقفتُ من مكاني، متجهة نحو النافذة لإغلاقها.
تمتمتُ بنبرة حازمة:
“يا دوق هذا يكفي، سأعترف بخسارتي في الرهان، لكن رجاءً، دعنا نمنع حدوث هذا الأمر مجددًا، أخبر الخدم أن يمنعوه من الدخول بدءًا من الغد.”
لكن قبل أن أتمكن من إغلاق النافذة، سمعتُ صوته يصرخ بشيء مختلف:
“الأمر يتعلق بي وبناديا!”
تجمّدتُ لثوانٍ، مترددةً، ثم أغلقت النافذة تمامًا وأطلقتُ زفيرًا ثقيلًا.
“عليّ مقابلته، لا مفر من ذلك.”
كايين، الذي كان يتلذذ بشرب شايه، رفع حاجبه بدهشة وقال بابتسامة ماكرة:
“هل حقًا ستفعلين ذلك؟”
وضعتُ كوب الشاي جانبًا وقلتُ بجدية:
“نعم، عليّ ذلك.”
***
ابتسمت ابتسامة حبست فيها غضبي العميق.
“كنت أتساءل بشغف، أي هراء ستتقيؤه حين نلتقي مجددًا.”
لقد كنت أرغب في سماع شعوره تجاه المرأة التي تخلى عنها وأصبحت الآن خطيبة دوق المستقبل.
“آخ! بمهلٍ! افعلها بمهلٍ من فضلك!”
من خلف الباب، ارتفعت صرخات إيمون الذي بدا وكأنه يعاني، تنهدتُ ببرود بينما أراقب الموقف.
وبإشارة من كايين، أسرع الخادم بفتح الباب.
كان إيمون يترنح تحت قبضة الفرسان الذين أمسكوا بمعصميه، وبمجرد أن وقعت عيناه عليّ، ابتسم كعادته ابتسامة مشرقة خالية من الشعور بالعار.
“فيلوميل!”
لكن سرعان ما تلاشت ابتسامته عندما نظر خلفي ورأى كايين ، يبدو أنه الآن فقط أدرك وجوده.
“هذا يكفي.”
بكلمات كايين الحاسمة، تركه الفرسان يرحل.
إيمون، الذي بدا عاجزًا ومهانًا، حاول بجهد أن يخفي شعوره بالخزي، سعل متصنعًا بينما اتجه نحوي بخطوات مترددة.
لكن كايين، وكأنما كان الأمر بديهيًا، وضع يده برفق على كتفي وسحبني نحو الأريكة ليجلس بجانبي، غير آبه بوجود إيمون الذي تجمد مكانه.
إيمون، الذي بقي واقفًا بحرج، حاول كسر الصمت بسعلة متكررة قبل أن ينضم إلينا على الأريكة.
“أخرجوا.”
بأمر كايين، غادر الفرسان والخدم الغرفة، تاركيننا وحدنا.
“هممم، فيلوميل، يبدو أنك كنت مشغولة للغاية، أليس كذلك؟ أتعلمين؟ لقد جئت إلى هنا كل يوم على مدار الأيام الأربعة الماضية فقط لرؤيتك.”
“آنستي، هل ترغبين في شرب الشاي؟”
“نعم، رجاءً أحضر لي كوبًا.”
“ربما قد سمعتِ من خلال الخادم عن زياراتي المتكررة، ولكنني أردت أن أشرح ذلك لك بنفسي، أتعلمين؟ أنا لست شخصًا صبورًا لهذه الدرجة.”
“هل أضيف السكر إلى الشاي، آنستي؟”
“نعم، ضع قطعة واحدة فقط.”
“فيلوميل، هل تستمعين إليّ؟”
“شكرًا، آه، نعم، أنا أستمع.”
تناولت الكوب الذي قدمه لي كايين وأومأت برأسي بهدوء.
“أنا أستمع.”
“وأنا كذلك أستمع.”
علق كايين ببرود، بينما كان إيمون ينظر إليه بين الحين والآخر بحذر وريبة.
“أه… أجل…”
وبصوت ممتعض، سألته أخيرًا: “إذن، ما السبب الذي جعلك تنتظر أربعة أيام متتالية لرؤيتي؟”
“أريد أن أبرر موقفي.”
“تبرير؟”
“نعم، أريد أن أوضح علاقتي بناديا.”
أخيرًا، وصل الحديث الذي كنت أنتظره. قبضت على الكوب في يدي بإحكام، وقلت له ببرود:
“تفضل، دعنا نسمع.”
“عليك أن تصدقيني يا فيلوميل ، أتفهمين؟”
“قلت لك، تحدث.”
“آنستي طلبت منك تتحدث، أليس كذلك؟”
مرة أخرى، تدخل كايين بهدوء، ما جعل إيمون يحدق فيه بانزعاج ظاهر.
“أوه، أيها الدوق، أعذرني، لكن هل يمكنك الخروج لبعض الوقت؟”
“ماذا؟”
شعرت بالذهول من وقاحة إيمون.
حتى كايين نظر إليه باندهاش، قبل أن يجيبه بسخرية مريرة:
“يبدو أنك نسيت أين أنت بعد أن أمضيت أربعة أيام في التسكع هنا، هذا منزلي، فأين تظن عليّ أن أذهب؟”
“هل تطلب مني الرحيل إذن؟”
قالها بصوت يحمل في طياته غرورًا وكأن الأرض بأسرها تدور حوله.
“إنه أمر يخصنا نحن فقط… خصوصية لا ينبغي أن تُدنس بالآذان الغريبة، نحن خطيبان بعد كل شيء، أليس كذلك؟ وحتى أنت يا فيلوميل، لا أعتقد أنك ترغبين أن يسمع الدوق هذا الحديث ، أليس كذلك؟”
لم أستطع إلا أن أبتسم بسخرية ممتزجة بألم خفي، وأنا أنظر إلى وقاحته التي تتجلى وكأنها طبيعة متجذرة فيه.
“خطيبان؟ منذ متى؟ ألم تنتهِ علاقتنا عندما تركتني يوم خطوبتنا وهربت مع ناديا؟ لقد حرمتنا حتى من الاحتفال الرسمي بخطوبتنا، إن كنت قد نسيت.”
اهتزت ملامحه للحظة، لكنه سرعان ما حاول استعادة رباطة جأشه، وقال بلهجة خافتة، وكأنه يقدم عذرًا لمن يدرك أنه لا يُغتفر:
“فيلوميل، أفهم أنك غاضبة.”
ثم أخذ يهز رأسه بتثاقل وكأنه يسعى لتخفيف وطأة خطيئته.
“على كل حال… إن لم يمانع الدوق، يمكنه البقاء والاستماع.”
“حقاً؟”
جاء صوت كايين باردًا كرياح شتوية تعصف بأروقة قصر مهجور، بينما اكتسى وجهه بملامح سخرية مختلطة بازدراء، وذراعاه معقودتان في موقف تحدٍ واضح.
كانت نظرته وحدها كافية لتقلب كيان إيمون رأسًا على عقب، فرأيته يبتلع ريقه في توتر ويطأطئ رأسه كطفل مذنب.
ثم، وكأنه يتمسك بخيط واهن من كرامته المتهاوية، تمتم بصوت خافت:
“لم أتركك أبدًا، يا فيلوميل.”
“ألم تتركني؟ يوم الخطوبة، عندما اخترت صديقتي، وذهبتما معًا؟ ألا يُعد هذا تخليًا عني؟”
أجاب وكأنه يثق بأن منطقه سيفحم الكون بأسره:
“كلا ، ليس كذلك.”
مشاعر القهر والغضب تجتاح السطور كعاصفة، والمشهد الدنيء يتراقص أمامنا كما لو كنا شهودًا على مأساة خيانة لا يمكن محوها.
التعليقات لهذا الفصل " 22"