في البداية كان الألم شديدًا، لكن سرعان ما تلاشى، وإذا بها قادرة على استخدام قواها المقدّسة من جديد.
غمرت ناديا سعادة خفية، إذ أيقنت أن اختيارها لم يكن خطأ، وظنّت أن كل ما سيأتي سيجري كما خططت وتخيّلت.
كانت غارقة في أوهامها لدرجة أنّ مجرد استغراقها في خيالاتها السعيدة كان يكفيها لقضاء يوم بأكمله.
لكن اللحظة الراهنة لم تكن يومًا جزءًا من تلك الخيالات.
القبو القذر والبارد كان واسعًا على نحو مبالغ فيه، حتى أنّ أضعف الأصوات كانت تتردّد صدًى في أرجائه.
انكمشت ناديا على نفسها، لكنها لم تجد في ذلك دفئًا؛ فالريح الباردة، التي لا تدري من أين تتسلل، راحت تخترق ثنايا ثيابها.
وحين عجزت عن الصمود أمام البرد، زحفت مترنحة على الأرض حتى اقتربت من القضبان الحديدية.
وعلى الجهة المقابلة، غير بعيد، كان ويستون جالسًا على الأرض شارد الذهن.
نادته بصوت مرتجف، شفتاها ترتعشان من شدّة البرد:
“سمو الأمير الثالث…”
ثم علا صوتها وقد اشتد فيها رجاء اليائس.
“سمو الأمير الثالث! أرجوك، اتصل بجلالتها الإمبراطورة!”
ما زال في داخلها بصيص أمل.
“لا يمكن أن تتخلى عنك! أنت ابنها! آه… أو ربما… ماذا لو اتصلت بجلالته الإمبراطور؟! اخبره إن دوق ويندفيل احتجزك تمهيدًا للخيانة! سيصدقك!”
اعتقدت ناديا أن كلماتها قد تحمل بعض المعقولية، ولم يخطر لها ولو لحظة أنهم هم أنفسهم الجناة.
بل خُيّل إليها أن فكرة كون كايين يستعد للانقلاب قد تبدو منطقية حقًا.
“سمو الأمير الثالث؟!”
نادت عليه بحرقة، وقد كان جالسًا يحدّق في الفراغ بعينين زائغتين.
“أرجوك، استفق قليلًا! أرجوك!”
وما هي إلا ساعات قليلة مضت على ما جعله على هذه الحال.
حين تقدم رجل غريب بثياب عسكرية فاخرة، وقف مباشرة أمام ويستون.
ومن زاوية ناديا لم تستطع أن ترى ملامحه جيدًا، لكن شيئًا في هيبته جعلها تدرك أنه ذو مقام رفيع، فكتمت أنفاسها متوجسة.
ويستون، بعينين مرتجفتين، تمتم بخفوت.
“… صاحب السمو ولي العهد.”
شهقت ناديا مبهوتة.
كانت تعلم أنه في الأربعين من عمره، لكن الملامح التي لمحَتها بدت أكثر شبابًا مما توقعت، وجسده متين كمبارز متمرس.
تنهّد ولي العهد متمتمًا بنبرة أسف ممزوجة باللوم:
“لم تُدرك آخر رحمة منحتها لك، ما كان ينبغي لك أن تعود إلى هذا المكان.”
لم يجد ويستون جوابًا، بل خفض رأسه بخزي.
أما ناديا فارتبكت بادئ الأمر لسماعها أنه ولي العهد، لكنها سرعان ما اعتبرت أن غياب أي عداء ظاهر منه فرصة لها.
فاندفعت متوسلة:
“صاحب السمو! أرجوك، أنصفنا من هذه المظلمة!”
لأول مرة ألقى عليها ولي العهد نظرة مباشرة. وبالرغم من اتساخ وجهها، أمالت رأسها قليلًا بزاوية اعتادت أنها تُظهر جمالها بأفضل صورة.
“أنا وسمو الأمير الثالث ضحايا بريئون، لا بد أن الدوق ويندفيل قد وقع في سوء فهم كبير!”
وانهمرت دموعها فجأة.
“لم نفعل شيئًا، ومع ذلك يعاملوننا هكذا؟! أليس هذا ظلمًا فادحًا؟! يا صاحب السمو، أنت وحدك قادر على تصحيح الأمر!”
“ناديا! كُفّي!”
قاطعها ويستون بيأس، لكنّها لم تُصغِ.
“ألا ترَ؟ حتى في هذا الظرف القاسي، حيث هو سجين ظلمًا، لم يكف سمو الأمير الثالث عن التفكير بالآخرين، شخص مثله لا يمكن أن يكون قد ارتكب جرمًا فظيعًا!”
رفع ولي العهد يده إلى ذقنه، متأملًا، ثم حوّل نظره إلى ويستون:
“وأنت، أترى ذلك كذلك؟”
خفض ويستون رأسه منكسًا دون جواب.
ناديا، وقد ضاقت صدرًا من صمته، انفجرت صارخة:
“قد يكون لسمو الأمير خطأ ما… لكن أنا! أنا لم أفعل شيئًا! أنا مظلومة!”
يا للظلم!
كم كان مُرًّا أن تُهان وتُحطم دون أن تتمكن من رد الصاع صاعين.
ناديا، التي بلغت إلى هنا بعد أن رهنت كل ما لديها، لم تكن قادرة على الاستسلام كما فعل ويستون، كان لا بد أن تفعل شيئًا… أي شيء.
تعلقت بالقضبان حتى كادت تنحني لتقبّل حذاء ولي العهد، وهي تبكي بحرارة:
“مولاي، أرجوك… أخرجني من هنا! سأفعل أي شيء… أي شيء على الإطلاق!”
كان ويستون قد سمع أن ولي العهد ليس على علاقة وثيقة بكايين.
لكن رؤية ولي العهد حاضرًا بنفسه في الشمال أثبتت له أن ذلك محض وهم.
أما ناديا فما زالت تجهل.
“إن كانت تقلقك قوة دوق ويندفيل… فلنُسقطه معًا، حسنا؟”
تكرارها لنفس الكلمات التي ألقتها على ويستون قبل قليل صعقه. لكنه لم يجد فائدة في الغضب الآن، فاكتفى بعضّ شفتيه وإدارة وجهه.
واصلت ناديا حماستها اليائسة:
ـ”آه، ثم إنني القديسة! حتمًا سمعت عني في العاصمة، أليس كذلك؟ قوتي المقدسة جبارة! يمكنني أن أكون عونًا عظيمًا لك، صدقني!”
رمقها ولي العهد طويلًا، عيناه تتمعنان في كل خلجة من خلجاتها، قبل أن يعلّق ببرود قاطع:
“كان كايين على حق.”
تسمرت ناديا، وقد أربكها سماعه ينطق اسم كايين بهذه الألفة.
ثم أردف ساخرًا:
“قال إن ذبابة غبية ستطنّ بإزعاج متواصل… وكان محقًا.”
لم تستوعب إلا بعد لحظة أنه يقصدها هي.
ثم انصرف عنها بغير التفات، تاركًا خلفه صدى قسوته.
منذ تلك اللحظة، صار ويستون كمن فقد روحه.
أما ناديا، فقد أصابها كلام ولي العهد القاسي بصدمة أفقدتها القدرة على الرد، حتى أن قسوة البرد جعلتها تنسى وقع كلماته.
صرخت في ويستون بحدة:
“كفّ عن التحديق هكذا في الفراغ! افعل شيئًا، أي شيء!”
لكن حين لم يتحرك، التقطت حجرًا ورمته نحوه. ارتد معظمها عن القضبان، لكن بعضها أصاب وجهه، فاحمرّ من الألم.
فغرت ناديا فمها مذعورة، ثم تلعثمت:
“مَن… مَن طلب منك أن تتجاهلني إذن؟!”
غير أنّه ظل على حاله. أدركت عندها أنها لن تجد عنده جوابًا، فعادت تنكمش على نفسها.
البرودة القارسة كادت أن تصيبها بالتجمد قبل أن تُساق إلى العاصمة.
التفتت بعينيها تفتش المكان، فوقعت على بطانية مهترئة كان أحد الحراس قد رماها نحوها.
لم تكن بطانية بقدر ما كانت قطعة قماش أشبه بالخرقة.
مغطاة بالوسخ والبقع، خشنة الملمس إلى حد الخدش. كانت قد رمتها في غضب حين وصلت إليها، لكنها لم تعد تحتمل البرد.
فزحفت مجددًا والتقطتها، ثم لفتها حول جسدها رغم خشونتها، وضغطت عليها لتكسر صلابتها قليلاً، فحجبت عنها شيئًا من الريح.
تنفست بعمق، فارتسمت غمامة بيضاء من بخار أنفاسها أمام عينيها.
“هاه…”
تنهدت بيأس، والدموع تتجمع في عينيها. لم تستوعب حتى الآن كيف آلت بها الأمور إلى هذا الحال.
وانفجرت تبكي، حتى غدا صدى نشيجها يتردّد في القبو الكئيب.
ازدادت شهقتها خوفًا وحزنًا، ثم، بعد أن أنهكت نفسها بالبكاء، أحسّت بوهَنٍ يسحب جسدها.
لم تكن قد تناولت طعامًا، فوق اضطرارها لمكابدة البرد القارس، فإذا بالبكاء يزيد إنهاكها. وتدريجيًا، أخذ بصرها يتلاشى… كان آخر ما رأته وجه شخصٍ يبتسم في وجهها بابتسامة عريضة تكاد تشق شفتيه.
***
في المساء، شارك ولي العهد في مأدبة العشاء. وبما أنه كان ذا روح اجتماعية مرحة، انخرط في حديث سلس مع فيلوميل، ولم ينسَ أن يمازح ليازيل ويُشعرها بالقرب منه.
ليازيل، في البداية، كانت متحفظة، لكنها ما لبثت أن أضاءت عيناها حين علمت أنه صديق قديم لوالدها.
وكان ولي العهد قد بلّغ من كايين بوجودها في الشمال، فأعد لها هدية خاصة، صورة لوالدها الحقيقي، كايزن، في لوحة فنية تجمعه به.
كانت تلك أول مرة ترى فيها صورة لوالدها.
لم تستطع أن تزيح عينيها عن اللوحة حتى بعدما انسحبت لغرفتها للنوم.
عندها فقط زفر ولي العهد زفرة طويلة. وقد أدرك الحاضرون معناها، فالتزموا الصمت وكأن شيئًا لم يكن.
ابتسم ابتسامة مُرّة، ثم التفت نحو ثيودور وناتاشا قائلًا:
“أعتذر إليكما… أخي، يا زوجة أخي.”
أجابت ناتاشا بلطف:
“أظن أنّ هذه الجملة أكثر ما سمعناه من جلالتك.”
ابتسمت بخفة، لكن وجه ولي العهد ظل متجهمًا. وكيف لا، وهو السبب في أن عائلتهم غدت هدفًا للتصفية وقُتلوا بسببه؟
على مدى عشرة أعوام لم ينسَ ذلك قط.
عندها، سألت فيلوميل لتخفف الجو الثقيل:
“هل كانت زيارتك إلى القبو على ما يرام؟”
“نعم… لقد بدا ويستون وكأنه استسلم تمامًا.”
ومعنى ذلك أن ناديا لم تستسلم بعد.
ناديا… لا بد أنها ما زالت حتى الآن تصرخ وتنتحب على “ظلمها”.
كان أمرًا متوقعًا، فلم تتفاجأ فيلوميل. فناديا، حتى آخر لحظة من حياتها، لن تعترف بخطأها، بل ستظل تزعم أنها مظلومة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 114"