الحلقة مئة واثنان.
حين أخذت يده الدافئة تفرك يديها برفق، ارتسمت على وجه فيلوميل ابتسامة خفيفة.
رأى يوهانس أنهما قد انغمسا تمامًا في عالمٍ لا يخصّ سواهما، فتنحنح بصوتٍ مفتعل ليجذب الانتباه.
“كَح، هُم!”
قطّب كايين جبينه وهو يلتفت نحوه، منزعجًا من مقاطعة الحديث.
“ما بالك تثرثر؟”
قال يوهانس على عجل: “إنما أردت القول، ألم يشهد الدوق بنفسه ما قد صنعته سيّدتنا القديسة؟”
“صنيع؟”
“نعم، بلا شك يعرف أهل الإقطاعية كلهم عظمة إنجازها! الكل يكنّ لسيّدتنا القديسة امتنانًا عظيمًا.”
ردّ كاين ببرود: “فماذا تريد من ذلك؟”
إذ سمعه يجيب بتلك النبرة الجافة، أدار يوهانس عينيه في ضيق.
لقد أراد أن يغتنم الفرصة لتحظى القديسة بكلمة ثناء من كايين أمام الناس، فيظهر ذلك بمهابة، لكن يبدو أنه فشل.
فما كان منه إلا أن يسارع لتغيير الموضوع.
“على أي حال، مع كونها قديسة جليلة، أترى أن الآنسة فيلوميل تُخاطبها بلا تكليف ولا احترام لمجرّد أنهما كانتا صديقتين قديمًا!”
هزّ يوهانس رأسه متأففًا ثم واصل: “لقد تغاضيت في البداية، لكن الأمر فيما يبدو يحتاج إلى ضبط واضح.”
قال كايين، عاقدًا ساعديه: “ضبط؟ حسنٌ، فلنضبط إذن.”
ارتبك يوهانس إذ لم يتوقّع أن يوافق بهذه السهولة. ألم يكن يحرص على خطيبته أشد الحرص؟
وكانت ناديا، التي حاولت أن تثنيه، قد وقعت في الحيرة ذاتها. ألعلّه… لم يعُد يحب فيلوميل؟ هل أدرك أخيرًا أنّي أنا قدَره الحق؟
امتلأ قلبها رجاءً وتوقّعًا، حتى أنها غفلت عن أن كايين قد طبع منذ قليل قبلةً حانية على وجنة فيلوميل.
قال كايين بنبرة واثقة: “صحيح أننا لم نعقد المراسم بعد، لكن جلالة الإمبراطور قد وافق على زواجنا، وبذلك، أليست فيلوميل تعدّ دوقة ويندفيل بالفعل؟”
“ماذا؟!” قال يوهانس مذهولًا.
“ففي حالة كهذه، مَن أولى بالتوقير والاحترام؟”
ثم حوّل كايين بصره من يوهانس المبهوت إلى ناديا مباشرة.
“قوليها بنفسك، أيتها القديسة.”
لكنها لم تستطع أن تنبس بحرف، بل عضّت شفتها وأسقطت عينيها أرضًا.
ابتسم كايين ساخرًا: “أما يكفيها أنها تُخاطبك بلا ألقاب؟ أليس ذلك أكثر مما تستحقين؟ خطيبتي تعامل عشيقة خطيبها السابق بغاية الكرم.”
شهقت ناديا من الذهول ورفعت رأسها فجأة. لم يخطر لها قط أنه سيفضح ماضيها.
“ماذا؟”
أمال كايين رأسه قليلًا وعينيه تلمعان ببرود: “ألستِ راضية عن هذا الماضي؟ لقد ظننتك تودّين أن يُذاع، وأنتِ من هرب يوم خطوبة فيلوميل مع خطيبها السابق.”
“كلا… لقد كنتُ ساذجة فخُدعت! أنا أيضًا كنت ضحية!”
“ضحية؟ من قِبل إيمون؟ غريب… فإن روايته تقول العكس، إنه أنتِ من أغريته أولًا.”
“مـ… مستحيل! أيّ كذبٍ هذا!”
قفزت ناديا من مكانها، والغضب والخذلان قد أعماها حتى نسيت خطة فيلوميل التي ورّطتها.
صرخت بصوتٍ مرتجف: “أحقًّا قال عني ذلك؟!”
تجعد جبين كايين: “لا تصبّي جام غضبك عليّ، بل اذهبي لمواجهته هو.”
عندها فقط أدركت أنها أفرطت في ردّ الفعل، فالتفتت حولها مرتبكة. كان الموقف قد هدأ بعد القضاء على الوحوش، واجتمع عدد غير قليل من الأهالي. ولم يكن صوت كايين منخفضًا.
ارتسمت على وجوه الناس نظرات باردة اخترقت قلبها كالشوك.
كنت أريد فقط أن يراني الناس عظيمة… وأن أذلّ فيلوميل قليلًا لا أكثر… لم أقصد ما هو أبعد…
أنفاسها تعالت وهي تكاد تختنق.
فجأة قال يوهانس بصوتٍ حاد: “سيدي الدوق، ما الذي تقوله؟ هل لك أن تتحمّل مسؤولية هذه الكلمات؟ هذه إساءة عظيمة لسيّدتنا القديسة! أنزعم أنها كانت على علاقة غير شرعية بخطيب الآنسة فيلوميل؟! سيّدتي القديسة، قولي كلمة! وإلا فستُلطّخ سمعتك ظلمًا!”
نظر إليها دون أي ذرة شك، بل بدا غضبه مصوّبًا نحو كايين.
ارتجفت ناديا خوفًا؛ فما إن يظهر الحق حتى لا تدري أيّ وجه سيكشفه يوهانس لها.
“سيّدتي؟” ناداها وهو يراها تصمت بشفتين ترتجفان.
ابتسم كايين باستهزاء وأطلق ضحكة قصيرة:
“فلنترك الماضي إذن، حتى لو تجاوزناه، فهل يوجب ذلك أن تُخاطَبها فيلوميل بلهجة الاحترام؟”
تعلّق نظره بها من جديد.
“أجيبي، أيتها القديسة.”
ازدردت ريقها وأغمضت عينيها ببطء ثم فتحتهما ثانية، متمنيةً أن يتوقف الزمن في تلك اللحظة.
لماذا أنا من يتعرّض لهذا؟ أنا القديسة… فكيف أعجز عن مجاوزة فيلوميل؟
عادت تبحث بعينيها في الجموع عن وجه الأمير الثالث، علّه وحده قادر على كبح كايين، لكنّه لم يكن حاضرًا.
أغمضت جفونها بقوة وأخيرًا تمتمت بصوتٍ خافت متقطّع: “أ… آسفة… لقد… التبست عليّ الأمور.”
قال كايين بصرامة: “لستِ مدينة لي بالاعتذار، بل لفيلوميل.”
شهقت ناديا وأدمعت عيناها، ثم التفتت نحو فيلوميل، مغالبةً غصّة مريرة:
“أعتذر… آنسة فيلوميل.”
ابتسمت فيلوميل بهدوء، مجيبةً بلهجة مستخفّة: “نعم، حسنًا.”
كان ذلك التسامح البارد أشبه بصفعة.
اشتدّ ارتجاف قبضة ناديا حتى شعرت أنها تكاد تتحطّم.
“… أستأذن.”
“سيّدتي القديسة؟! هل أنتم بخير؟!” صاح يوهانس وراءها قلقًا.
لكنها هرولت نحو القصر دون أن تلتفت، دامعة العينين، حتى وصلت إلى غرفتها.
لماذا يجب أن أُهان هكذا؟!
لقد ساعدت بكل قوتها في قتال الوحوش أيامًا متواصلة، رغم خوفها وضيق أنفاسها، قتلت الكثير منها.
لم يكن بدافع نبلٍ خالص، بل أملًا أن يعترفا كايين وفيلوميل بعظمتها ويقدّراها، بل ويندما على ماضيهما معها.
لكن النهاية أن الاعتذار لم يخرج إلا من شفتيها.
لن أغفر… أبدا!
فتحت صندوقًا تحت سريرها، أخرجت منه قارورة، وشربت ما فيها حتى آخر قطرة، ملأ فمها طعم الدم الفاسد.
لهثت قليلًا ثم همست:
” سأجعلهم يندمون… أيًا كان الثمن.”
قبضت على القارورة بقوة حتى كادت تتحطّم بين أصابعها.
***
“ما بالك، أناديا تشغل بالك؟”
استفاقت فيلوميل من شرودها على سؤال كايين، كانا قد عادا معًا إلى مكتب الدوق بعد فراغهما من المهام.
“آه… نعم، بعض الشيء.”
“أخشيتِ أني ضغطت عليها أكثر مما ينبغي؟”
“كلا، بل كان ذلك مُرضيًا حقًا… لكن المشكلة…”
استحضرت صورة ناديا وهي تعتذر بعبارات رسمية.
“كانت عيناها تنطقان بأنها ستُقدم على كارثة في أي لحظة.”
ابتسم كايين بثقة: “لا تقلقي، سأوصي وصيفتها أن تراقبها جيدًا.”
لم يستخفّ بكلمات فيلوميل، لكنها أحسّت في قرارة نفسها أن ذلك وحده لا يكفي، ومع ذلك لم تجد ما تصنعه، فاكتفت بهز رأسها.
اقترب منها كايين، طابعًا قبلة على صدغها وهو يهمس:
“فما رأيك أن تصرفي اهتمامك إليّ بدلًا منها؟”
ابتسمت برفق وأرخت رأسها على صدره.
“وهل بعد أن ألتصق بك هكذا أملك حرية القرار؟”
تلألأت عيناه بذلك الرد، كما لو كان ينتظره: “أتريدين أن أُريك كيف؟ أتعدينني أن تفعلين ما أطلب؟”
ارتبكت: “لقد عبّرت بطريقة خاطئة، أليس كذلك؟”
ضحك ماكرًا: “فات الأوان.”
ثم طوّق خصرها بذراعه بينما أصابعه تعبث بخصلات شعرها.
التعليقات لهذا الفصل " 102"