أخفت كارين الرسالة المجعّدة خلف ظهرها ، لكن عيني جود كولين كانتا قد اتّجهتا نحو يدها بالفعل.

 

“أخبرت أختي برسالة أنني سأزوركَ ، سيدي”

 

في جوٍّ أصبح محرجًا بشكل غريب ، تحدّث دافيد بنبرة مشرقة كصبي طائش.

 

“ربما خافت أن أكشف ماضيها ، فهرعت إلى هنا؟”

 

ابتلعت كارين ريقها ، تنظر بالتناوب إلى دافيد و جود كولين.

 

عندما حدّق بها جود كولين مباشرة، أنزلت عينيها دون وعي.

 

كانت تخشى أن يكون دافيد ، ذلك المجنون ، قد قال شيئًا طائشًا …

 

لا يمكن أن يكون قد فعل ، لكن ماذا لو كشف الحقيقة حقًا؟ لم تستطع مواجهة عيني جود كولين.

 

منذ نزولها من العربة ، عبرت الحديقة الواسعة و صعدت السلالم دون توقّف. بالنظر إلى حجم الحديقة و القصر ، لم تكن المسافة قصيرة.

 

لكن الآن ، لم تكن كارين تلهث حتى. 

كانت مشغولة بابتلاع ريقها. لم يكن لديها متّسع لالتقاط أنفاسها. كان الهواء ثقيلًا لدرجة أنها شعرت بالاختناق.

 

“كارين.”

 

ناداها جود كولين بنبرة منخفضة.

 

إذا لم ترفع رأسها الآن ، ستبدو الأمور أكثر إحراجًا. رفعت كارين رأسها المتصلّب بصعوبة لتنظر إلى جود كولين.

 

هل بسبب صلة الدم؟ أم لأنه ربّى أكتوروس بنفسه؟

 

أحيانًا ، كان جود كولين يشبه أكتوروس بشكل مذهل ، كما في هذه اللحظة.

 

حدّق بها بنظرة حادّة لا تكشف عن أفكاره. 

 

شعرت كارين بارتجاف يدها الممسكة بالرسالة خلف ظهرها. كانت تخشى أن ينتشر هذا الارتجاف إلى جسدها كلّه.

 

“جـ-جدّي …”

 

تلعثمت كارين كأنّها مذنبة. 

 

أخيرًا ، رأت جود كولين يفتح شفتيه ببطء ليتحدّث. 

لم تستطع تحمّل الخوف و أغلقت عينيها.

 

“أخوكِ مرح جدًا.”

 

“…”

 

“بفضله ، سمعت الكثير عن طفولتكِ”

 

لكن الكلمات التي سمعتها لم تكن توبيخًا باردًا أو إدانة بازدراء.

 

رمشت كارين عدّة مرات ، غير قادرة على إخفاء دهشتها ، و حدّقت في جود كولين.

 

كان يبتسم كالرجل العجوز الطيّب و المرح الذي تعرفه.

 

“قال إنّكِ كنتِ ترقصين جيدًا منذ صغركِ ، أهذا صحيح؟”

 

“ألم أخبرك ، سيدي؟ كانت أختي مرنة منذ صغرها ، تبدو جميلة دائمًا و هي ترقص”

 

بديا جود كولين و دافيد ماير و كأنّهما أصبحا صديقين ، يتحدّثان بودّ.

 

‘لم يقل شيئًا …’

 

بالطبع.

هل هو مجنون ليكشف أنني جاسوسة؟ من الذي جعلني جاسوسة في الأساس؟

 

إذا كُشف أمرها ، سينتهي جميع العملاء الآخرين المختبئين في غلوريتا.

 

و مع ذلك ، هرعت إلى هنا بسبب تلك الرسالة السخيفة … لقد وقعت تمامًا في قبضة دافيد ماير.

 

“هل كان أخي وقحًا؟”

 

“إطلاقًا. كانت لحظات ممتعة”

 

أجاب جود كولين بنبرة أكثر طيبة و سكينة من المعتاد.

 

أخيرًا ، تمكّنت كارين من كبح ارتجاف أصابعها ، مبتسمة ببراءة.

 

“هذا جيّد.”

 

ثمّ اتّجهت نظراتها إلى دافيد.

 

“إذًا، سآخذ أخي و أغادر.”

 

اقتربت كارين من دافيد و سحبت ذراعه.

 

“أختي تعطيني إشارات ، يجب أن أذهب”

 

“وداعًا.”

 

خشيت كارين أن يدعوهما جود كولين للعشاء ، لكن لحسن الحظ ، لم يحدث ذلك. ودّعهما بوجه هادئ.

 

كان دافيد يضحك بخفّة ، بينما كارين تسحبه ، مما جعل المشهد يبدو كأخت تهتمّ بأخيها الطائش.

 

لكن بمجرد أن استدارت كارين ، تحوّل وجه جود كولين ، الذي كان يبتسم بدفء أثناء المحادثة ، إلى قناع بارد خالٍ من الابتسام.

 

“بعد فترة طويلة ، يبدو أنّ عليك العمل نيابة عني”

 

عندما اختفى صوت خطوات كارين و الرجل ، تحدّث جود كولين إلى خادمه بنبرة منخفضة.

 

“أمرك ، سيدي”

 

“يجب التحقيق في شخص ما.”

 

“تقصد لوي شانير؟”

 

“نعم. و أيضًا …”

 

تردّد جود كولين للحظة ، ثمّ ذكر اسمًا آخر.

 

“كارين أيضًا”

 

“أليس لدينا معلومات عن الآنسة كارين منذ بداية علاقتها بالدوق؟”

 

“أريد معلومات أكثر دقّة و تفصيلًا. حقّق في الأخوين بعناية.”

 

كان جود كولين ، لسنوات طويلة ، يدير شؤون عائلة كلوين نيابة عن أكتوروس الصغير ، و هو من وضع الأسس لشركة أكتوروس العسكريّة.

 

لكنّه الآن، بعد تقاعده، تحوّل إلى عجوز ودود يبحث عن متع الحياة.

 

لكن، لأوّل مرّة منذ زمن، عادت إليه نظرته الحادّة القديمة.

 

“لا تُخبر أكتوروس.”

 

أومأ الخادم بإخلاص.

 

كان كلاهما ، السيد و الخادم ، يأملان أن يكون شعورهما السيء مجرّد قلق مبالغ فيه. لكن الخادم كان يعلم جيّدًا.

 

عندما يظهر سيّده هذه النظرة الحادّة، لم يخطئ حدسه أبدًا.

 

***

 

هربت كارين من قصر كولين كما لو كانت تفرّ ، و وصلت إلى المنطقة التجاريّة ، تنظر حولها. 

 

بينما كانت تبحث عن مكان لتجنّب أعين الناس ، دخلت زقاقًا بالقرب من منطقة المطاعم و دفعت دافيد بقوّة إلى الحائط.

 

على الرغم من إمكانيّة دافيد دفعها بسهولة بسبب فارق الحجم ، سمح لها بدفعه إلى الحائط. 

 

رفع يديه كأنّه يستسلم ، دون أن يمحو ابتسامته الساخرة.

 

“ما الذي …!”

 

دون وعي ، ارتفع صوتها ، لكنها نظرت إلى داخل الزقاق و خارجه. على الرغم من أنّها في مكان منعزل ، إلا أنّ الصوت العالي سيجذب الانتباه.

 

“هه …”

 

“تضحك؟”

 

نظر إليها دافيد كمن يشاهد مهرّجًا، وانفجر ضاحكًا.

 

“لا، تبدين و كأنّك …”

 

“…”

 

“حيوان يُساق إلى المسلخ ، تنظرين بحذر”

 

تصاعد القلق و الغضب المكبوتان. لكن كارين لم تستطع إطلاقهما ، فعضّت شفتها السفلى بقوّة. اعتادت على أسلوب دافيد الوضيع ، لكن النكهة الساخرة في ابتسامته كانت مقزّزة.

 

“لماذا ذهبت إلى جدّي! لماذا ، بحق السماء!”

 

كلّ ما استطاعت كارين فعله هو توبيخ دافيد بنبرة منخفضة.

 

“كانت الأمور تسير جيّدًا. لقد فتح قلبه لي تمامًا … و كدتَ أنت تدمّر كلّ شيء! أتفهم؟”

 

“ما الذي كان يسير جيّدًا؟”

 

“لا تعرف؟ بالطبع ، المعلومات …!”

 

“…”

 

“الخطوة الأولى كانت كسب قلب جود و أكتوروس. لقد نجحت أخيرًا! لماذا لم تستطع الصبر و كدتَ تفسد كلّ شيء!”

 

كانت قلقة ، خائفة ، مضطربة.

 

لكنها لم تستطع الصراخ أو إطلاق غضبها.

 

كانت تمسك بملابس دافيد و تهزّه ، و تدوس بقدميها ، كطفلة سُرق منها شيء عزيز ، مما جعل المشهد ممتعًا.

 

“هل تعلمين؟ أحبّ عندما تتوسّلين إليّ.”

 

“دافي ، أخ …!”

 

لم تستطع كارين إكمال اسم “دافيد” ، و ابتلعته مرّة أخرى.

سدّ دافيد فمها و دفعها إلى الحائط بدوره.

 

انعكست الأوضاع. 

 

أصبحت كارين محصورة بين الحائط و جسد دافيد. رغم الوضع غير المواتي، لم تستسلم. حدّقت به بنظرات شرسة.

 

“كانت الأمور تسير جيّدًا؟ كان هناك حفل عائلي في عيد الميلاد.”

 

“…”

 

“في مناسبة يمكن أن تكشفي فيها أمورًا مهمّة، استبعدتِ ‘أخاكِ’ عمدًا.”

 

كأنّه سيخنقها، زاد الضغط على يده التي تسدّ شفتيها وأنفها.

 

حاولت كارين التنفّس من بين يديه. 

 

لم يسمع الناس خارج الزقاق أنفاسها الضعيفة ، لكن دافيد شعر بها بوضوح: أنفاسها القاسية، شفتيها وأنفها المسحوقان تحت يده، يدها التي تخدش الحائط الوسخ بتوتر.

 

رأى و سمع و شعر بكلّ شيء.

 

“حتّى طريقة مخاطبتكِ الآن. تنادين جود كولين ودوق كلوين بألفة زائدة”

 

“…”

 

“استفيقي ، أختي. هذه ليست قصّة خرافيّة”

 

توقّفت يد كارين ، التي كانت تخدش الحائط ، و بدأت تخدش ذراع دافيد و ظهر يده بعنف.

 

“أنتِ إذا أصبحتِ عديمة الفائدة ، مصيركِ التخلّص منكِ. مثل كلاب عائلة النقيب سكايبر”

 

“أخ ، أخ!”

 

“لكن إذا لم تعرفي حدودكِ ، ماذا نفعل؟ الكذب يجب أن يكون معقولًا. تقولين إنّ الأمور تسير جيّدًا؟”

 

“أخ …”

 

“هل يجب أن أتخلّص من أختي بيدي؟ هل تريدين ذلك ، أختي؟ أم …”

 

كان دافيد يناديها “أختي” باستمرار بسخرية ، و ألصق جسده بها ، مقربًا رأسه إلى أذنها.

 

“هل تريدين حقًا أن تتبعي ‘لوي’ الحقيقي؟”

 

كان يسأل إن كانت ستفسد الأمور عمدًا لتنتحر. 

 

لم تستطع كارين ، التي يُسدّ فمها و بالكاد تتنفّس ، الإجابة.

 

و لم يبدُ أنّ دافيد يريد إجابة حقًا.