“أنا من اتّهمتُ سييرا ميلر زورًا”
“لا أثق بكلام كايترو. جئتُ إلى هنا لأنّني قلقٌ عليك و على كارين”
في البداية، لم يكن جوّ الحديث ثقيلًا إلى هذا الحدّ.
كان أكتوروس ، على وجه الخصوص ، يحبّ جدّه من أمّه و يُقدّره كثيرًا، حتّى إنّه كان يحرص دائمًا على عدم إزعاجه بأيّ تصرّف.
لكنّه الآن، لسببٍ ما…
بدت نفسيّته منخفضة بشكلٍ ملحوظ.
بالتأكيد ، عندما كان مستلقيًا على السرير صباحًا ، كان يبدو في مزاجٍ جيّد …
“لستُ هنا لأطلب منك إظهار الرحمة لسييرا ميلر بسبب كايترو. سأتولّى هذا الأمر بنفسي و أرتب مشاعر كايترو جيّدًا. فقط ، أنا …”
“سأستأذن بالانصراف الآن”
“أكتور!”
لم تستطع كارين، مهما حاولت التفكير، أن تفهم السبب.
‘ما الذي أثار استياءه إلى هذا الحدّ …؟’
لم يكن مظهر أكتورس الآن يُعبّر عن مجرّد الغضب.
كيف يمكن وصفه؟ كأنّه … قد تأذّى.
“أعتذر عن إحباطك.”
“…”
“لم أتمكّن من الارتقاء إلى مستوى توقّعات جدّي.”
توقّفت يد جود كولين ، التي كانت تمتدّ لتمسك بحفيده الغاضب ، في الهواء.
كأنّ جسده تجمّد بالكامل، لم يتحرّك جود كولين قيد أنملة بينما كان أكتوروس يمرّ من جانبه ، كما لو أنّه تحوّل إلى تمثالٍ حجريّ.
“…جدّي.”
أمسكت كارين بيد جود كولين بقوّة مرّة أخرى.
رمش جود كولين عينيه عدّة مرّات ، ثمّ ابتسم لكارين بتصنّع ورفع كوب الشاي.
لكن يده التي تحمل الكوب كانت ترتجف بشدّة … حتّى إنّه أسكب الشاي على ملابسه بدلًا من أن يرتشف منه.
نهضت كارين، التي لم تكن تعاني أيّ مشكلة في الحركة، بسرعة من كرسيّها المتحرّك و مسحت ملابسه وذقنه بمنديل.
“لا بأس ، لا بأس …”
أخذ جود كولين المنديل من كارين و مسح ملابسه بنفسه. هرع الخادم بمناشف لمساعدته في تنظيف ملابسه.
“كان يبدو في مزاجٍ جيّد حتّى الصباح …”
“…”
“ربّما أصبح حسّاسًا عندما ذُكرت قصّة سييرا ميلر. أرجوك ، جدّي، حاول أن تتفهّمه.”
حاولت كارين مواساته ، لكنّ مزاج جود كولين لم يتحسّن على الإطلاق.
“كارين.”
“نعم.”
“لا تقلقي. أنا أفهم أكتوروس …”
كانت عينا جود كولين، اللتان أخفضهما، تبدوان فارغتين ، كما لو أنّهما غارقتان في الماضي البعيد وليس الحاضر.
“لقد قرأ ذلك الفتى نظرة عينيّ في لحظةٍ قصيرة”
“نظرتك … تقصد ماذا؟”
“نظرت عائلة تشعر بالاشمئزاز منه”
لم تستطع كارين فهم ما يقصده جود كولين.
صحيح أنّ قصّته العائليّة المؤلمة باتت منسيّة لدى الكثيرين الآن ، لكنّها كانت قصّة معروفة إلى حدٍّ ما.
لكن ، ألم يكن جود كولين هو من تولّى رعاية حفيده الوحيد و قام بدور الوالدين في تلك القصّة العائليّة المؤلمة؟
نظر جود كولين، الذي لم يستطع إخفاء مرارته، ببطء إلى كارين.
كانت عيناه مليئتين بالكلام الذي يرغب في قوله لها.
***
طاخ-! طاخ-!
كان أكتوروس يطلق النار بلا توقّف في ميدان الرماية.
كان التدرّب على الرماية بدلًا من الصيد هوايته القديمة.
لكن، على عكس المعتاد، لم تصب رصاصاته، وهو القنّاص الماهر، مركز الهدف ولو مرّة واحدة.
كان تعبير وجهه هادئًا كالمعتاد، لكنّ الرصاصات التي أخطأت الهدف كانت تكشف عن اضطرابه العاطفيّ.
***
برع رجلٌ في الأعمال التجاريّة، مدعومًا بحظّه، فبدأ يطمح تدريجيًا إلى شيءٍ آخر.
كان يرغب في أن يُعترف به كجزء من طبقة “النبلاء”، التي تُعتبر الدم الأنقى بعد العائلة المالكة.
لحسن حظّه، عاش في عصرٍ يسمح فيه المال بشراء الألقاب، حيث كان نظام الطبقات قد خفّت حدّته مقارنةً بالماضي.
لكنّ لقب النبلاء كان يُورّث فقط للذكور.
بعد إجهاضين ، أنجبت زوجته طفلها الأوّل. المشكلة أنّ الطفل، الذي وُلد بعد مخاضٍ طويل وشاقّ، كان أنثى.
حتّى لو اشترى لقب النبلاء بالمال ، لم يكن بإمكانه توريثه لابنته.
بينما كان يسعى لشراء لقب النبلاء ، ظلّ يضغط على زوجته لإنجاب ولد.
كان الرجل قد وقع في حبّ زوجته من النظرة الأولى ، وما زال يحبّها ، لكنّ طموحه ورغبته فيما لا يملكه أعميا بصره.
بعد إجهاضين آخرين، وبعد أن لاحظ تدهور صحّة زوجته بشكلٍ واضح، تخلّى أخيرًا عن حلمه بإنجاب ولد.
“لم أعد بحاجة إلى ولد. أنتِ الأغلى بالنسبة إليّ.”
تحوّلت طموحاته إلى اتّجاهٍ آخر.
على أيّ حال ، لم يكن هناك لقب نبيل يرضيه بين الألقاب التي يمكن شراؤها بالمال. أولئك الذين يملكون ألقابًا رفيعة كانوا يتشبّثون بها حتّى لو كانت أوضاعهم الماليّة سيّئة.
لكن ، حتّى لو لم يستطع امتلاك لقبٍ بنفسه ، كان بإمكانه السيطرة على عائلة تملك لقبًا عبر “الزواج”.
كانت ابنته الوحيدة جميلة جدًا ، ممّا يعني أنّ قيمتها في سوق الزواج ستكون مرتفعة.
لكن هذا لا يعني أنّ الرجل لم يكن يحبّ ابنته.
“أميليا ، أعدكِ أنّ والدكِ سيجعلكِ تتزوّجين من رجلٍ من عائلةٍ نبيلة جدًا.”
في تلك الأثناء ، سمع أنّ عائلة دوق كلوين تعاني من ضائقةٍ ماليّة. بل إنّ دوق كلوين نفسه أصبح جنديًا.
ما زال بين النبلاء جوٌّ يحتقر كسب المال مباشرة ، إذ كانوا يعيشون من الضرائب التي تأتي من أراضيهم.
لكنّ دوق كلوين اختار أن يلتحق بالأكاديميّة العسكريّة و يصبح جنديًا. كان من المشرف أن يكون النبيل جنديًا في أوقات الحرب ، لكن في عصر السلم هذا ، كان ذلك يُعتبر أمرًا مضحكًا.
اكتشف الرجل أنّ هناك ديونًا هائلة تركها الجيل السابق ، و أنّ أراضي العائلة رُهنت بسبب هذه الديون.
قرّر دفع الديون مقابل زواج ابنته من الدوق.
لحسن الحظّ ، وقعت أميليا في حبّ دوق كلوين ، الذي كان وسيمًا، من النظرة الأولى، وعاشت أيّامها في سعادةٍ وبهجة.
هكذا، أكملت أميليا مراسم زواجها وتوجّهت إلى قصر دوق كلوين.
طوال هذه العمليّة ، كان الرجل يخفي سرًا عن ابنته و زوجته.
كان من الصعب جدًا و مؤلم للضمير أن يخدع أحدًا ، لكن عندما رأى وجه ابنته السعيد في حفل الزفاف، اقتنع بأنّه فعل الصواب بعدم إخبارها.
في الواقع، قبل إتمام الزفاف، اكتشف الرجل سرًا كبيرًا عن دوق كلوين.
“لديكَ امرأة مخفيّة ، أليس كذلك؟”
“هذا صحيح”
لم يقدّم دوق كلوين أيّ أعذار لصهره المستقبليّ.
بل بدا واثقًا من نفسه.
“إذا أردتَ ، يمكنكَ فسخ الخطوبة”
“أليس لديك ديون؟ ألا تخشى الجلوس على كومة ديون تتراكم فوائدها؟”
“عندها ، سأبيع لقبي. و أنا متأكّد أنّ عائلة كولين ستدفع أعلى سعرٍ له”
“إذًا، لأنّك لا تريد التخلّي عن المرأة التي تحبّها، تريدني أن أفسخ الخطوبة؟”
ضحك جود كولين ضحكةً ساخرة أمام جرأة الشاب.
“سأنهي الأمر.”
لكنّ الجواب الذي تلقّاه كان خارج توقّعاته.
“سأنهي علاقتي ، لكن إذا كانت علاقاتي النسائيّة تزعجك ، فلا مفرّ من قبول فسخ الخطوبة. الخيار ليس بيدي ، بل بيد عائلة كولين ، أليس كذلك؟”
بالنسبة إلى جود كولين ، لم يكن الصهر هو الأهمّ.
كان الأهمّ هو الولد الذي سيولد من زواج ابنته و صهره.
حفيدٌ يرث أعماله و ثروته ، و لقب النبلاء الذي حصل عليه عبر “الزواج” كعملٍ تجاريّ.
كان الرجل يملك لقبًا رفيعًا لكنّه مفلس ، ممّا يجعله تحت سيطرته ، و كانت ابنته واقعة في حبّه بما يكفي لتكون مفتونة بمظهره الجذّاب.
إذا كان سينهي علاقته بامرأةٍ كان يواعدها منذ زمن ، فلم يكن هناك سبب لفسخ الخطوبة من وجهة نظره.
“هل يمكنك إنهاء علاقتك بها؟”
“سأنهيها.”
“غدًا.”
قال جود كولين بحزم.
“غدًا ، أخبرها مباشرةً أنّ لديك من ستتزوّجها ، و انهِ علاقتك بها.”
“…”
“لماذا لا تجيب؟”
“…سأنهيها”
“سأثق بكلامك هذا”
شعر جود كولين بتأنيب الضمير لأنّه يحبّ ابنته ، لكنّه برّر لنفسه الأمر.
‘أميليا تحبّ هذا الرجل، فما الخيار الآخر؟ لقد وعد بإنهاء علاقته بصرامة، لذا يجب أن أتجاوز الأمر. إنّه لا يلتقي بامرأة أخرى أثناء زواجه بابنتي ، أليس كذلك؟’
إلى جانب ذلك، في وضعٍ يعتمد فيه ماليًا على عائلتنا، هل من المعقول أن يسبّب مشاكل مع النساء بعد الزواج؟
“إذا جعلتَ دموع ابنتي تنهمر، فاستعدّ لأن تنهمر دموع الدم من عينيك.”
“سأحتفظ بكلامك في قلبي.”
في العام التالي للزواج ، أنجبت أميليا ولدًا.
كان جود كولين قد بدأ ينهي أعماله السابقة ليبدأ أعمالًا عسكريّة باسم عائلة دوق كلوين.
اختار اسم حفيده بنفسه ، و سمّى شركته باسمٍ مطابق لاسم حفيده ، بنيّة أن يرث الطفل هذه الشركة.
“أميليا، لقد بذلتِ جهدًا عظيمًا”
في اليوم الذي وُلد فيه أكتوروس ، كانت أميليا تنظر إلى والديها و طفلها حديث الولادة ، مبتسمة بسعادة رغم وجهها المتعب.
كان دوق كلوين متحفّظًا ، لكنّه بدا يهتمّ بابنته ، و كانت أميليا لا تستطيع رفع عينيها عنه عندما يكون موجودًا.
بعد ذلك ، كبر حفيده ، أكتوروس ، الذي طالما تمنّاه.
كان قليل الدلال مقارنةً بعمره و ناضجًا بعض الشيء ، لكن جود كولين كان يُقدّر هذه الصفات في حفيده. كان الحفيد ذكيًا ، يحقّق درجاتٍ تفوق التوقّعات في جميع المواد الدراسيّة.
كان حفيده ، الذي يعتبره خليفته ، متميّزًا أكثر من أيّ شخصٍ آخر …
حقق جود كولين كلّ ما تمنّاه ، و كان سعيدًا حقًا. كان يؤمن بلا شكّ أنّ هذه السعادة ستدوم إلى الأبد.
التعليقات لهذا الفصل " 51"