– في اليوم التّالي ، كان الصّباح.
كانت كارين تسرع خطواتها للقاء أكتوروس كما اتّفقا.
كانت تقيم في شقّة قديمة تحت حماية أشخاص من عائلة كلوين ، و اليوم كان يوم انتقالها أخيرًا إلى منزل جديد.
المنزل الجديد كان شقّة فاخرة على بُعد خمس عشرة دقيقة سيرًا من بوّابة منزل أكتوروس.
كان من المخطّط أن يلتقطا صورًا لهما و هما يدخلان المنزل الذي اشتراه أكتوروس ، كما لو أنّ الصّور التُقطت خلسة لتنشر على نطاق واسع في الصّحف.
سييرا ميلر ، التي كانت تطارد أكتوروس و تضايقه بشدّة ، كانت هادئة بشكل غريب. لكن لا أحد يعرف كم سيدوم هذا الهدوء.
و أيضًا ، جوزيف مارلون …
توقّفت كارين فجأة عن المشي و هي تتابع أفكارها. كان ذلك بسبب عربة متوقّفة أمام مبنى فرقة الباليه حيث اتّفقت على لقاء أكتوروس.
كان أكتوروس يستخدم السّيارة عادةً ، باستثناء بعض الحالات ، و لم تحمل العربة ختم عائلة كلوين ، لكن …
علمت كارين.
علمت من هو صاحب هذه العربة.
عندما رآها ، نزل شخص من العربة. كان رجلًا غريبًا.
خلع قبّعته ، و مع تحيّة محترمة اقترب من كارين.
“تشرّفتُ بلقائكِ ، يا آنسة”
“…”.
“إذا لم يكن ذلك إزعاجًا ، هل يمكنكِ ركوب العربة للحظة؟ سيّدي يرغب في لقائكِ”
أومأت كارين برأسها ، مشدودة الشّفتين من التّوتر ، ثمّ صعدت طواعية إلى العربة التي فتح الرّجل بابها.
أُغلق باب العربة بنقرة.
حيّت كارين صاحب العربة بإيماءة و جلست مقابله.
“لا تبدين متفاجئة”
“أحاول فقط ألّا أبدو متفاجئة”
لم يبتسم العجوز بلطف ظاهريّ كما فعل في المرّة السّابقة.
“التقينا بالأمس فقط ، لكن لا يزال من الجيّد رؤيتكِ”
“… و أنا كذلك”
“لا أعتقد أنّكِ سعيدة برؤيتي ، يا آنسة كارين”
و مع ذلك ، لم يهدّدها أو يتصرّف بطريقة مخيفة.
حدّق جود كولين في كارين من تحت قبّعته ذات الحافة الطّويلة.
“لم أكن أنوي القدوم للقائكِ بهذه العجلة … لكن عندما سمعت أنّ ذلك الفتى اشترى لكِ منزلًا ، شعرتُ أنّ عليّ التّعجيل ، فجئتُ”
كان هذا متوقّعًا بالفعل.
كان أكتوروس قلقًا من أنّ جدّه ، الذي بدا أكثر تملّكًا ممّا توقّع ، قد يضع أشخاصًا لمراقبتها. لذا ، كانت كارين مستعدّة نفسيًّا لهذا اللقاء المفاجئ.
“قيل لي إنّ عائلتكِ ماتت ، و لم يبقَ سوى أخيكِ الأصغر ، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“كيف علاقتكِ بأخيكِ؟”
“جيّدة. لأنّنا الوحيدان في هذا العالم ، فنحن …”
“إذن ، أعتقد أنّكِ ستفهمين شعور أن تكون أكثر تعلّقًا و حساسيّة تجاه العائلة الوحيدة”
كان نبرته ناعمة، لكن كلامه التّالي كان قاطعًا و باردًا.
“أتمنّى أن يلتقي أكتوروس بامرأة جيّدة و يبني أسرة سعيدة. استقرار الإنسان و سلامته يأتيان من أسرة متينة كجذور شجرة راسخة. أكتوروس فتى يحتاج إلى مثل هذه الأسرة”
إذا كان هدفه في اللقاء الأوّل هو تخويفها لإبعادها ، فهل ينوي الآن إثارة انفعالاتها لإقناعها؟
“لستُ أقلّل من شأن مهنتكِ. و بالطّبع ، لستُ أرفضكِ كشخص قد يصبح جزءًا من عائلتنا بسبب مهنتكِ …”
“…”
“أتمنّى أن تكون المرأة التي يلتقيها حفيدي شخصًا نشأ في أسرة دافئة ، بقلب سليم و قويّ. و كما تعرفين بنفسكِ ، أنتِ لستِ هذا الشّخص ، أليس كذلك؟”
فتاة يتيمة فقدت والديها في الحرب ، عاشت أسيرة لفترة طويلة في بلد العدوّ ، ثمّ عادت إلى وطنها مع أخيها الأصغر.
امرأة تعمل في مجال فنّي تنافسيّ حيث تكثر الرّعاية بأغراض غير أخلاقيّة.
أدركت كارين ما الذي يقلق جود كولين.
لم تكن كارين من النوع الجريء. كان من الصّعب جدًّا كسب ودّ شخص يرفضها بشتّى الطّرق.
لكنّها لم تستطع الاستسلام بسهولة.
“أستطيع فهم الدّوق”
كرّرت كارين: “أستطيع فهم الدّوق”
لم تتحدّث معه بعد عن تجاربهما في الحرب.
لكنّها كانت تؤمن أنّه إذا جاء الحديث عن تلك الفترة المؤلمة ، فسيتمكّنان من فهم بعضهما و التّعاطف معًا.
“شارك الدّوق في الحرب كجنديّ و هو صغير. أمّا أنا ، فقد فقدتُ والديّ في الحرب و عشتُ حياة طويلة كأسيرة”
كانت كارين مشدودة ، تمسك يديها المعقودتين على ركبتيها ، تراقب تعبيرات جود كولين بعيون متوتّرة.
أومأ برأسه قليلاً ، كأنّه يشجّعها على مواصلة الحديث.
استجمعت المزيد من الشّجاعة من ردّه.
“حتّى لو التقيتُ بشخص طيّب القلب …”
“…”
“إذا لم يفهمني ، سأشعر بالوحدة و الفراغ بجانبه”
في عربة تجوب شوارع العاصمة بلا وجهة ، تحدّثت كارين بصدق دون حراك.
“أستطيع فهم الدّوق”
“هل هذا كلّ شيء؟”
“لا، ليس كذلك!”
شعرت كارين ، لسبب ما ، أنّ التّوقّف هنا لن يكون جيّدًا ، فأسرعت لتجد المزيد لتقوله.
“قلبي ليس قويًّا ، لكنّه دافئ … سيكون كذلك. و أيضًا …”
“آنسة كارين”
لكن جود كولين قاطعها بحزم.
“لا يهمّ ما تقولينه.”
نظر إليها بعيون تعكس شفقة ، لكن نبرته و موقفه لم تظهر أيّ تراجع.
“أنا لا أريدكِ لتكوني امرأة حفيدي”
أدركت كارين.
حتّى لو كان هناك شخص بليغ الكلام هنا ، فلن يجدي ذلك نفعًا.
“لا أريد إهانة فتاة شابّة لم ترتكب أيّ خطأ ، أو الغضب عليها لفصلها عن حفيدي”
لكن كلامه بدا كما لو أنّه إذا لم تتراجعي الآن ، فقد يلجأ إلى مثل هذه الأفعال القاسية.
“أتمنّى أن تنفصلي عن أكتوروس”
“حتّى لو بذلتُ جهدًا ، ألا يمكنني تغيير رأيكَ؟”
“لا فائدة. لذا ، لا داعي للمحاولة”
كانت كارين مرتبطة بأكتوروس بعقد بالفعل.
و حتّى لو لم يكن بسبب العقد ، كان عليها البقاء إلى جانبه.
على الرّغم من أنّها ليست بليغة الكلام ، كان عليها بطريقة ما كسب قبول جود كولين.
اختارت كارين كلماتها بعناية ، و حرّكت شفتيها بحذر.
في تلك اللحظة-
“هييي!”
سمعت صهيل الحصان كما لو كان في حالة هياج ، و فجأة زادت سرعة العربة.
لو لم يحدث ذلك ، لكانت كارين قالت شيئًا.
لكن الحدث وقع بالفعل ، و لم يكن الوقت مناسبًا لمواصلة الحديث.
“ما الذي يحدث؟!”
صرخ جود كولين ، الذي كان يتكئ على عصاه و جدار العربة ليحافظ على توازنه ، بينما ردّ الخادم الجالس بجانب السّائق: “الحصان هاج فجأة و بدأ بالرّكض! لا نستطيع السّيطرة عليه!”
كان جود كولين هو من أسّس شركة الأسلحة “أكتوروس”.
كان يعرف جيّدًا الأشياء المصنوعة من الحديد ، و كان يثق بها أقلّ بسبب معرفته. هذا هو السّبب في إصراره على استخدام العربة البطيئة في عصر بدأت فيه السّيارات تنتشر.
لكن اليوم بدا كما لو أنّ عناده أثبت خطأه.
“آه …!”
عندما بدأ الحصان بالرّكض بكامل قوّته ، لم تستطع كارين الحفاظ على توازنها بسهولة.
بينما كانت تحاول التمسّك بالجدار ، سقطت للأمام و وجدت نفسها جالسة بجانب جود كولين.
“يا فتاة ، انتبهي!”
صرخ جود كولين ، متخلّيًا عن الأدب ، و لفّ ذراعه حول كارين.
حتّى مع تقدّمه في السّن ، لم ينسَ واجب الرّجل النّبيل في حماية السيّدات.
لكن مهما كان ظهره مستقيمًا مقارنة بعمره ، كان عجوزًا يعتمد على عصا.
في عربة يقودها حصان هائج ، كان من المستحيل عليه حماية سيّدة شابّة.
تمايلا كارين و جود كولين ، يطيران للأعلى و يسقطان للأمام بالتّناوب دون أن يسبق أحدهما الآخر.
عندما فقد جود كولين توازنه ، أمسكته كارين ، و عندما تمايلت هي بشدّة ، أمسكها هو.
“افعل شيئًا!”
صرخ جود كولين، لكن السّائق والخادم كانا عاجزين مثله.
لا يمكن إيقاف حيوان هائج لا يفهم الكلام.
“سنواجه كارثة بهذا الشّكل!”
“أعرف ذلك!”
“أليس هناك طريقة؟!”
“لو كنتُ أعرف ، هل كنتُ سأبقى هكذا؟!”
في العربة التي كانت تهتزّ بشدّة ، تبادلت كارين و العجوز الصّراخ كمحادثة.
“سأحاول إيقافه!”
صاحت كارين بثقة رغم عجزها عن التحكّم بجسدها.
“لكن إذا نجوتُ بسلام ، يجب أن تلبّي طلبًا واحدًا لي!”
بدت تعبيرات جود كولين كما لو أنّه لا يفهم. في عينيه ، لم تبدُ كارين شخصًا قادرًا على حلّ هذا الوضع.
“ماذا ستفعلين؟!”
“يجب فصل الحصان عن العربة أوّلاً!”
“من الأفضل ألّا تفعلي شيئًا!”
رغم اعتراض جود كولين القلق ، فتحت كارين باب العربة و هي تترنّح.
“آنسة كارين!”
صرخ جود كولين مذهولًا وهو يرى كارين كأنّها ستقفز من العربة.
“لا تقلق، سأحميكَ!”
“لا حاجة لذلك، لا تعرضي نفسكِ للخطر!”
لكن رغم تمسّكه بها ، مدّت كارين يدها خارج العربة.
تعلّق جسدها الهشّ بصعوبة على هيكل العربة.
“هييي!”
عندما رفع الحصان قدميه الأماميّتين ، اهتزّ جسد كارين.
التعليقات لهذا الفصل " 21"