1
الفصل 001
كانت يد ريجيوس تمتد نحو تلك اليد المتشبثة بجذر الشجرة بيأس، فمدّ ذراعه إلى أبعد حدّ استطاعه. لكن أيديهما لم تمسك ببعضها. قليلٌ فقط، لو استطاع أن يمدّ ذراعه أكثر بقليل لكان قد أمسك بتلك اليد لسحبها نحوه. غير أنّ المسافة لم تضق أبدًا.
هبت الرياح العاتية على شعر إيفيليا الناعم، البني الكراميلي، ذلك الشعر نفسه الذي لامسه بشفتيه من قبل، والآن أصبح متشابكًا وفوضويًا. توسّل ريجيوس بيأس.
“إيفيليا. أرجوكِ، أمسكي يدي.”
لم تنظر إليه إلا بعينين حزينتين.
“ألهذا الحدّ كنتَ تكرهني؟”
“عمّ تتحدثين؟”
لو أنها فقط مدّت يدها وسمحت له بالإمساك بها، لفعل أيّ شيء. تساقطت الحصى الصغيرة والتراب من جذر الشجرة إلى الفراغ أسفلها.
“إذا رَحلتُ…هل سيجعلك ذلك سَعيدا؟”
لا. أرجوكِ، لا تقولي مثل هذه الأشياء. كانت على وشك السقوط، ولم يستطع أن يدع ذلك يحدث. لم يكن بوسعه أن يفقدها بهذه الطريقة.
امتلأت عيناها بالحزن، وخلفه يأسٌ، واستسلام. كان ريجيوس يعلم بالفعل ما ستقوله تاليًا. أرجوكِ، لا. لا تقولي تلك الكلمات مجددًا. صرخ الرجاء في قلبه، لكن شفتيه لم تنطقا بشيء.
“…سأعطيك هذا. أظنّ أنك ستعجب به.”
بقسوة، نطقت إيفيليا تلك الكلمات مجددًا. كلماتٍ قد سمعها مئات، آلاف المرّات. ولم تفشل يومًا في تمزيق قلبه.
“قد لا تصدّق، لكن يا ريجيوس…أ-أنا حقًا أحبك.…”
عندما قالت تلك الكلمات، أدرك ريجيوس ما كان يدور في ذهنها. في عينيها الجميلتين انتشر الاستسلام كالحبر. وكأنها قبلت أن تترك مصيرها للمجهول. والذي دفعها إلى ذلك لم يكن أحدًا سواه، بل هو.
“لا، لا، إيفيليا، لا تفعلي هذا.”
أرجوكِ. مالَ ريجيوس بجسده إلى الأمام، مخاطرًا، ليحاول الوصول إليها مجددًا.
لكن، هل كان قد حاول حقًا بما يكفي؟
هل حاول إنقاذها حقًا؟
“…وداعًا.”
كيف استطاعت قول ذلك؟ انغرس ذلك في ذاكرته، ممزقًا قلبه.
“إلى اللقاء.”
وبتلك الكلمة الأخيرة، تلاشت قوتها، وتركت يدها ما كانت تتشبث به.
“هاه!”
شهق ريجيوس مستيقظًا، واعتدل جالسًا فجأة.
جسده مبلل بالعرق البارد، وكان قلبه يخفق بعنف في صدره. التقط أنفاسه، ثم زفر بارتجاف، قابضًا على صدره كمن يحاول تخفيف الألم.
كان الظلام ما يزال مسيطرًا خارجًا. نهض من السرير وأشعل المصباح. كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحًا.
آخر مرة نظر فيها إلى الساعة كانت الثانية. لا بد أنه غفا قبل أقل من ساعة بعد طول تقلّب.
ارتمى على الأريكة. كان يعلم أنه لن يتمكن من النوم مجددًا. ساعة أو ساعتان من النوم، كان ذلك أقصى ما يناله هذه الأيام، وقد استمرّ الأمر لسنوات.
كان هذا كابوسه. لا، ماضيه وحاضره. لم يكن حلمًا على الإطلاق؛ لقد حدث حقًا. وفي كل ليلة، يعاود المشهد الظهور أمام عينيه.
اللحظة الأخيرة للفتاة التي عجز عن إنقاذها.
“إيفيليا.…”
همس باسمها.
لقد مرّت سنوات. صار فتى الأمس رجلاً، أطول، وأعرض، مكتمل البنية. لكن الفتاة التي فقدها ظلّت شابة إلى الأبد في داخله.
“إنها غلطتي.”
طلب الغفران، ولم يكن هناك من يسمعه.
“أرجوكِ، عودي. كنتُ مخطئًا.”
ما يزال يبحث عنها. منذ ذلك اليوم، جاب الإمبراطورية، ينشر بلاغات البحث، ويسافر من مدينة إلى أخرى. ومع ذلك، لم يجد إيفيليا في أي مكان.
“أنتِ على قيد الحياة…أليس كذلك؟”
ارتجف صوته. غطّى وجهه بيديه المرتجفتين.
“أرجوكِ، قولي إنكِ ما تزالين على قيد الحياة. لا تجبريني على الاستسلام.”
لم تمدّ يدها نحوه في ذلك اليوم. ولو فعلت، لو أنها فقط فعلت، لكان استطاع سحبها. كانت فجوة صغيرة جدًا، لكنها لم تفعل، وتلاشى الأمل معها.
“أرجوكِ، عودي.”
كان هو من دفعها إلى ذلك، كبرياءً أو خوفًا، أنكر مشاعره. أقنع نفسه أن الحب الذي شعر به تجاه تلك الفتاة الثمينة، المشرقة، لا يمكن أن يكون حبًا. وهكذا فقدها.
في كل ليلة، كان يشهد رحيلها مجددًا. ولم يكن يستطيع البكاء. كان ذلك عقابه.
***
“تبدو متعبًا.”
تحدّث الإمبراطور إلى ريجيوس، ابنه، وليّ عهد الإمبراطورية.
“أنا بخير.”
“ما زلت لا تنام جيدًا، أليس كذلك؟”
كان القلق يتجلى في نبرة الإمبراطور.
منذ أن فقد ابنه شريكته المقدّرة قبل سنوات، بدا كما لو أنه فقد صوابه. طوال العام الأول، أهمل ريجيوس كل مسؤولياته كوليّ عهد، باحثًا عن إيفيليا كمن أصابه الجنون.
“لقد اعتَدتُ على ذلك الآن.”
حتى بعد سنوات، ظلّ ريجيوس يعتقد أنها تعيش في مكان ما، وظلّ يبحث عنها. لكن الجميع كان يعلم الحقيقة. إيفيليا رحلت. غير أنهم لم يستطيعوا قول ذلك للرجل الذي فقد شريكته المقدرّة.
بعد عام، استعاد ما يكفي من اتزانه ليعود إلى مسؤولياته، لكنّه لم يتوقف عن البحث.
“لا تُرهق نفسك فوق طاقتك.”
“لا تقلق، يا أبي. سأقوم بالجولة الإمبراطورية.”
“حقًا؟”
بدت الدهشة على الإمبراطور. لقد أدّى ريجيوس كل واجباته دون تقصير باستثناء واحدة. الجولة الإمبراطورية.
فكلما سمع إشاعة عن امرأة تشبه إيفيليا، كان يهرع إليها، ولهذا لم يغادر العاصمة أبدًا.
“نعم.”
كانت كلماته تحمل معنى آخر، أنه قرر أن يتوقف عن البحث.
“إذًا…ستتوقف عن البحث عن إيفيليا؟”
“نعم.”
لقد اتخذ ذلك القرار الليلة السابقة.
“لماذا؟”
“إيفيليا….”
انخفض صوت ريجيوس، وارتجفت أنفاسه.
“إيفيليا ليست على قيد الحياة.”
كان صوته هادئًا، هادئًا أكثر مما ينبغي، لكن الإمبراطور كان يدرك حجم الألم المختبئ تحته.
“كان الجميع يقول ذلك، لكنك لم تصدّق يومًا. لماذا الآن؟”
“لأنه لو كانت على قيد الحياة…لعادت إليّ.”
وهكذا توقّف عن البحث.
لم يُمنَح الجميع شريكًا مقدّرًا. فالإمبراطور نفسه كان يحب الإمبراطورة ويعتز بها، رغم أنها لم تكن شريكته القدرية. ولهذا لم يكن بوسعه أن يفهم بالكامل، لكنه كان يتخيّل. فلو فقدها يومًا، لفقد هو الآخر عقله.
“لا تلُم نفسك. لم يكن ذلك ذنبك.”
كان الجميع يقول ذلك. لكن ريجيوس كان يعرف.
“لا. كان ذنبي.”
كان يعلم أن ما حدث مرتبط به.
لقد كانت لحظة خاطفة، لكن في تلك اللحظة، تحررت منه ومن قدرها. لأنه رفض ذلك القدر، ورفضها.
كان يمكنها أن تعيش. لكنها رحلت بسببه.
لم يقل الإمبراطور شيئًا أكثر، بل غيّر الموضوع.
“إذًا، متى ستغادر للجولة؟”
“حالما تكتمل الاستعدادات.”
كان قراره يحمل تبعات كبيرة. رسميًا، سيصبح منصب ولية العهد، المسجّل باسم إيفيليا، شاغرًا. وقد تم اختيار مرشّحة جديدة بالفعل: سيلونا، ابنة عمّ إيفيليا وأختها غير الشقيقة.
لكن رفض ريجيوس الاستسلام أبقى كل شيء متوقفًا. والآن، بقراره، يمكن أن يبدأ كل شيء من جديد.
“حسنًا. استعد جيدًا، وسافر بأمان.”
“نعم، يا أبي.”
بعد أيام قليلة، غادر ريجيوس العاصمة ليبدأ الجولة الإمبراطورية.
كان ذلك واجبًا قديمًا لوليّ العهد، أن يجول الأراضي التي سيحكمها يومًا ما. وسارت الأمور بسلاسة.
“سأخرج في نزهة.”
“هل أرافقك، صاحب السمو؟”
“لا. أرغب في أن أكون وحدي.”
انحنى مساعده، تايل، وتراجع خطوة. وغادر ريجيوس النُزل ببطء.
كانت الجولة قد تجاوزت نصفها الآن، على وشك الاكتمال. لم تكن هذه البلدة الصغيرة ضمن الجدول الأصلي، مكان هادئ، مسالم، بين المدن. أقام فيها متخفّيًا، متظاهرًا بأنه نبيل عادي.
وأثناء تجواله في الشوارع الهادئة، لفت شيءٌ نظره، ملصق مطلوب.
ابتسم ابتسامة مريرة. ربما لم يتخلى حقًا بعد.
كان وجهها. وجه إيفيليا، باهتًا ومغبرًّا على ملصق قديم لم يُنزَع بعد.
برفق، أزال الغبار عنه، وقد ارتعشت يده كأنها تخشى أن يتمزق الورق. ثم، بنفس هادئة، أزال الملصق بعناية، وطواه بدقة، ووضعه في معطفه. لم يستطع التخلص منه، بل سيحرقه بنفسه لاحقًا، على انفراد.
عاد أدراجه نحو مقرّ إقامته. ثم توقّف.
هل تخيّل ذلك؟
لا، لا بد أنه خطأ.
لقد اشتاق إليها كثيرًا، وتمنى رؤيتها بشدة. أقنع نفسه بالمضي قدمًا، لكن قلبه رفض. لا شك أنه كان مجرد خداعٍ من عقله.
ومع ذلك، تحرّك جسده قبل أن يفكر. اندفع عبر الحشد.
تلك المرأة التي مرت قبل قليل، كان عليه أن يجدها. لقد كانت تشبهها فقط، لا أكثر.
ولكن مع ذلك….
اندفع ريجيوس عبر الشوارع كالمجنون، يبحث.
“لا بد أنني أتخيل. حتى لون شعرها ليس نفسه.…”
ومع ذلك، لم يستطع أن يجبر نفسه على التوقف. جاب البلدة بأكملها، لكنها لم تكن في أي مكان.
“ليست هي. لا يمكن أن تكون. لقد رحلت.”
ردد ذلك لنفسه مرارًا، لكن قدميه لم تتوقفا. كان عليه أن يتأكد.
قبل أن يدرك، كان قد بلغ أطراف البلدة. كان يتنفس بصعوبة.
فكّر في سؤال أحدهم، لا بد أن سكّان البلدة سيعلمون إن كان غريب قد وصل.
لا، ذلك جنون. لا يمكن أن تكون إيفيليا هنا. كان مجرد هوس متبقٍ.
“لا…أنا فقط متعب. هذا كل شيء.”
استدار ليعود.
لكنّ شيئًا ما جذبه. شعور غريب، حاد، بالمعرفة. ركض باتجاهه.
هناك، امرأة تمشي في المسافة.
“انتظري، أرجوكِ انتظري!”
لم تلتفت.
لحق بها وأمسك بذراعها. ارتجفت من اللمس المفاجئ، وبالطبع، فأن يمسك غريبٌ بشخصٍ ما قد يثير الخوف.
“أنا آسف. لقد بدوتِ كشخص أعرفه.…”
التفتت المرأة. انعكس الخوف في وجهها. كانت ملامحها مختلفة، لكن مألوفة جدًا. لو أن تلك الطفلة اللطيفة قد كبرت، لبدت هكذا تمامًا.
حدّق ريجيوس بلا وعي، وخرج الاسم من شفتيه.
“إيفيليا؟”
اتسعت عيناه. لم يستطع التصديق. تلك العينان، حمراوان بلون الغروب. كانت أطول، أكبر سنًا، لكن بلا شك هي.
لقد وقفت أمامه.
حلم؟ لا. لم يحلم أبدًا بأن يراها مجددًا، بل بأن يفقدها. لم يستحق أحلامًا كهذه. كان هذا حقيقيًا.
خفق قلبه كما لم يفعل منذ سنوات. كان يعلم، كان يعلم أنها هي.
لقد أحبّها منذ البداية، منذ كانت طفلة، مرورًا بسنوات صباها، كلما رآها كان قلبه يخفق. لكن الإيمان بأنه قدرٌ جعله يرتعب. ظنّ أن مشاعره مجرد خدعة قاسية من القدر. فأنكرها.
وبذلك فقدها.
الآن، حين استسلم أخيرًا، ظهرت أمامه من جديد.
أراد أن يسأل ألف سؤال، لماذا لم تعد، كيف نجت، لكن عقله كان عاصفة، ولم تخرج أي كلمة.
بدلًا من ذلك، جذبها إلى ذراعيه. كانت حقيقية، دافئة، حيّة.
“إيفيليا…أنتِ على قيد الحياة.”
رمشت المرأة بدهشة، وظهر القلق على ملامحها.
لماذا كانت تنظر إليه هكذا؟ هل صدمها لقاؤه إلى هذا الحد؟
لا، كان شيئًا آخر. ارتباك، خوف، خجل، كلّه مختلط في عينيها.
وكأنها تنظر إلى غريب.
ثم، بصوت مرتجف، قالت.
“من…أنتَ؟”
يتبع في الفصل القادم.
التعليقات لهذا الفصل " 1"