الفصل49
حينما هرع البوّاب إلى الداخل ليرشدني، تبعته أنا أيضًا على عجل.
وما إن وطئت قدماي ذلك القصر الهائل، الذي لا يُقارن حجمه بفيلا صغيرة كانت في قريتنا، حتى أخذني الإعجاب بجلاله وأنا أتقدّم داخله.
هنالك، وقعت عيناي على وجه مألوف.
وإذ تذكّرت تلك الملامح العزيزة من أعماق ذاكرتي، ارتسمت على شفتَي ابتسامة مشرقة بغير وعيٍ مني.
” سيدي كبير الخادم!”
“لقد مرّ زمن طويل، فيفيان.”
“كيف حالك؟”
“بل كيف حالك أنتِ؟ لم أرك منذ زمن، وإذا بالطفلة الصغيرة قد غدت آنسة حقيقية.”
“هيهي، وأنت يا سيّدي كما أنت لم تتغيّر أبدًا.”
“شكراً لك، حتى ولو كان مجرّد مجاملة.”
“ليست مجاملة حقًّا.”
وما إن التقيت بالوجه المألوف حتى غدت الأجواء الغريبة التي خيّمت عليّ منذ قليل، قريبةً ودافئة.
“لكن ماذا عن سيدي الدوق؟ إن كان مشغولًا، يمكنني أن أعود في وقتٍ آخر.”
“هو دائم الانشغال، لكن لا أظنه سيرفض لقاء صديقة قدِمت من بعيد.”
قادني سيّد الخدم إلى غرفة الاستقبال، وقال إنّه سيبلغ الدوق بوصولي.
‘لابدّ أنّ لديه أشغالًا في القصر، لذا قد يستغرق بعض الوقت حتى يفرغ.’
وبينما كنتُ أتأمّل المناظر من نافذة القصر في انتظاره، سمعت فجأة صوت الباب يُفتح.
دلكاك―
ظننتُها الخادمة جلبت الشاي، فالتفتُّ، لكنّني فوجئت.
“فيفيان.”
كان الدوق واقفًا عند الباب.
بملامح تكاد لا تختلف عن تلك التي ارتسمت في ذاكرتي منذ عشرة أعوام.
وفي غمرة اختلاط شعوري بين الحنين والارتباك، وقبل أن أعرف بأيّ تحية أبدأ، بادر هو بالكلام.
“لقد مرّت عشر سنوات… وما زلتِ صغيرة كما عهدتك.”
كلماته لم تكن مفعمة بالودّ، لكنّها حملت في طيّاتها حرصًا على تلطيف الجو وكسر البرود.
ذلك الأسلوب بالذات، هو عين ما كان يميّزه قبل عشر سنوات.
وبمجرد أن نطق بتلك الجملة، تلاشى جدار السنوات العشر بيننا.
قهقهتُ وأجبتُ:
“وأنت ما زلتَ ضخمًا كما عهدتك يا سيّدي الدوق.”
“وما زلتِ تجادلين في كلّ كلمة.”
ورغم نبرة العتاب، فإنّ ابتسامته المرسومة أفشت سرّ سروره.
جلسنا معًا على الأرائك، وبعد أن جال بنظره حول يديّ والفراغ من حولي، سألني:
“أهكذا جئتِ خالية الوفاض؟”
“آه! أعذرني، كنتُ على عجل فلم أُعِدّ أيّ هدية…”
“هدية؟ هل ترينني شيخًا طامعًا في الهدايا؟”
توقّفت مرتبكة، غير مستوعبة قصده، فأوضح:
“أقصد أنّك أتيتِ بلا امتعة. رحلتك إلى العاصمة استغرقت أيّامًا، فهل جئتِ دون أيّ أمتعة؟”
“آه، تركتُ أغراضي في النُزل.”
فانقبض جبينه متبرّمًا وقال:
حين كنت صغيرة، كنتِ تطلبين طعامًا مباشرة من دون تردد. أين ذهبت تلك الجرأة؟ أصبحتِ مملة.”
“لقد كبرتُ الآن وصرتُ أعرف معنى الحياء.”
“وأنا أبغض المملّين أكثر ممّن لا يعرفون الحياء. اتركي عنك هذه الترهات، وانتقلي للإقامة هنا.”
“لكن… الاميرة ليست موجودة في القصر…”
“وأنا، ألسْتُ صديقك أيضًا؟ أم تودّين أن أُصبح شيخًا متجهّمًا يصدّ أصدقاءه؟”
“ذلك كان كلام طفلة صغيرة آنذاك…”
“هاه! أتقولين إنّكِ كنتِ تعبثين بصداقتي؟”
“لا، بالطبع لا! أنت تعلم أنّني لا أقصد هذا.”
وبينما ارتبكت من مراوغته، حوّل مسار الحديث فجأة.
“دعكِ من هذا. قولي لي، ما الذي جاء بك فجأة إلى العاصمة؟”
“ذلك…”
فجأة هبطت الكآبة على قلبي إذ تذكّرت هدفي.
“…أبي اختفى.”
“ماذا؟”
“الظروف تدلّ على أنّه ذهب إلى العاصمة، لكنّي لا أعلم أين ولا ما الذي يفعله. لذلك…”
“لذلك جئتِ تبحثين عنه.”
اكتفيتُ بهزّ رأسي.
نظر إليّ الدوق وقد خيّم الحزن على وجهي، فتنهد متأففًا.
“كنت أظنه أبًا مناسبًا، حتى لو كان متباهيًا بعض الشيء… لكنه لم يكن إلا أبًا رديئًا.”
استغربتُ وصفه لأبي بالمتكبّر، غير أنّ كلمة “رديئًا” غطّت على كلّ شيء.
بل إنّي وجدتني أُوافقه بقوة!
“أليس كذلك؟ لا يفعل سوى أن يقلق ابنته. أبٌ سئ حقًّا.”
وما إن افصحت بهذا السرّ الذي لم أبح به لأحد إلا الى له، رجل أثق به، حتى شعرت براحة تتسلّل إلى صدري.
غير أنّه لم يكتفي بالتفهّم، بل مدّ يد العون قائلًا:
“سأساعدكِ في العثور على والدك.”
“حقًّا؟”
“لكن بشرط.”
‘كما توقعت…’
إنه رجل ذو دهاء سياسي، ذو دهاء لا يغفل عن أي فرصة.
“ما الشرط؟”
“أوّلًا لا تدعي القلق ينهشك.”
تململتُ من وقع كلماته، فقد مسّت همّي العميق.
“قد لا أعرف والدك معرفةً وثيقة، لكنّي أوقن أنّه لن يُؤذى بسهولة. أضمن لكِ ذلك.”
كانت نبرته مليئة باليقين.
لكنّي، وأنا العالمة بما سيؤول إليه قدره من الرواية الأصلية، لم يزل القلق الذي يخنقني.
“ثانيًا ابقي هنا وتعلّمي أشياء عدّة.”
اتّسعت عيناي دهشة.
“اتعلم؟ ماذا أعني بذلك؟”
“أي شيء ترغبين به. ركوب الخيل، فنون الأرواح، أو حتى العلوم.”
ثمّ أردف بجدّية:
“لستُ أقول هذا عبثًا. لقد وعدتُك يومًا أن أكون سندًا لك.”
وكم كان ذلك الوعد راسخًا في ذاكرتي!
لقد كان أوّل اعتراف في حياتي، وأغلى ما نلته.
“كنتُ يومها أريد أن أجعلكِ مساعدتها راشيل. لكن لم يُكتب لذاك الوعد أن يتحقق.”
“…”
“وإن لم تكوني مساعدتها، فلا بأس. أريد على الأقل أن أفي بذلك الوعد الآن.”
كنتُ أحبّ قريتي الصغيرة، لكن قلبي كان يحنّ دائمًا إلى العالم الأوسع الذي لم أعرفه.
وقد بقيتُ هناك فقط حبًّا بأبي ورغبته في حياة بسيطة.
غير أنّ ما يعرضه الدوق الآن، هو نافذة على ذلك العالم الكبير.
لا شيء يمنعني من القبول.
“أشكرك جزيل الشكر… لكن هل أستحقّ حقًّا مثل هذه العناية؟”
“تبا! صرتِ تفكّرين أكثر من اللازم، وهذا مملّ أيضًا.”
ثمّ أردف بلهجة مطمئنة:
“نعم، تستحقين يا فيفيان. لقد غيّرتِ حياة راشيل نفسها.”
فشعرتُ للحظة أنّني إنسانة عظيمة، فخفق قلبي بعنف.
“لكن فلنؤجّل ذلك إلى حين، أما الآن…”
قام من مجلسه ليكسر رهبة اللحظة.
“لنخرج قليلًا ونتنزه.”
رفعتُ بصري إليه متسائلة، فابتسم مشيرًا برأسه نحو النافذة.
“أتظنين أنّني سأدع صديقةً قدمت من بعيد ترحل دون أن أريها أحياء العاصمة؟”
***
أوّل ما اصطحبني إليه الدوق، كان أشهر متجر حلويات في العاصمة.
ولمّا ذكرتُ أنّني لم أتناول غداءً بعد، انتقاه خصيصًا لي.
“لكن، يا سيّدي الدوق، أليس لا يُسمح بالدخول هنا إلّا بالحجز المسبق؟”
إنّه المقهى الذي أسّسه طاهٍ سابق في البلاط الإمبراطوري بعد تقاعده!
شهرته وصلت حتى إلى قريتنا الصغيرة، وكان حلمي أن أزوره يومًا.
‘لكن الأسعار باهظة، والحجز صعب، لذا لم أتوقّع يومًا أن أضع قدمي فيه…’
غير أنّ الدوق لم يبالي بقلقي، بل دفع الباب قائلًا:
“هيا، لندخل أولًا.”
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 49"