الفصل 48
“لا حاجة لأن اتلقى اعتذارهم. لقد فعلتُ ما فعلتُ فقط لأريح ضميري.”
وكأنّ السيّدة قرأت في نفسي انزعاجي فأضافت قائلة.
أشارت بعينيها إلى المستشار والسائق أن يدخلا، وبقيتُ معها على انفراد.
وبينما كنتُ مرتبكة من الموقف المحرج، بادرتني بالكلام.
“إنّ في وقاحتهم نصيبًا من مسؤوليّتي أنا. أعتذر لكِ بصدق.”
“آه، لا، ليس الأمر خطأ سيادتك أصلًا.”
“لقد فقد أولئك بعض أحبّتهم على يد الشياطين، لذلك يتصرّفون هكذا.”
وفي لحظة ذكرت فيها الأحبّة ، خُيّل إليّ أنّ بريقًا من الحنين مرّ في عينيها.
لكن قبل أن ألتقط ذلك الشعور، كانت قد تمالكت نفسها وأكملت الحديث.
“طبعًا، لا أقول هذا لأتغاضى عن سوء أدبهم. لكنّي أردتُ أن أطمئنكِ، إذ يبدو أنّكِ أوّل مرة ت-تين للعاصمة.”
“هَاك! وكيف عرفتِ ذلك؟”
لم تُجب على سؤالي، بل تابعت كلامها بهدوء.
“لذلك أردتُ أن أقول إنّ الجميع في العاصمة لن يخافوكِ أو يكرهوكِ فقط لذلك السبب.”
كان صوتها رتيبًا كأنّه يورد حقيقة باردة، ومع ذلك بدا كلامها هذا وحده دافئًا لطيفًا.
“لم أظنّ أنّ أولئك الفتيان سيهابون حتى سيّدة الأرواح المظلمة هكذا. كما تعلمين، من النادر أن يلتقي المرء بسيّدة أرواح مظلمة.”
“…….”
“سأتكفّل أنا شخصيًّا، باعتباري المسؤولة عنهم، بأن أعلّمهم حتّى لا يتكرّر مثل هذا الأمر، فلا تحتفظي بوقاحتهم في قلبك.”
“أنا بخير حقًّا. في الحيّ الذي كنتُ أعيش فيه، كان بعض الناس يُبدون ردود الفعل ذاتها.”
فقد اعتدتُ على مثل تلك النظرات، فلم تكن تصيبني بالدهشة ولا بالجرح.
“وربّما يكون ما حدث اليوم سببًا يجعلهم يغيّرون نظرتهم تجاه مستحضري الظلام.”
“…….”
“أهل قريتي كانوا يخافونني، لكنّهم الآن جميعًا يحبّونني.”
هكذا كنتُ أقاوم التحيّز دائمًا.
كلّما ازداد خوفهم مني، بذلتُ لهم الخير، حتى يتغيّر الظنّ الذي في قلوبهم.
‘……طبعًا، بعض الأوغاد الذين اقتربوا بسوء نيّة… سحقتُهم بالقوّة.’
أطلقتُ العبارة بخفّة كأنّها قصّة عابرة، فإذا بالسيّدة تضحك فجأة.
“لقد كنتُ قلقة بلا داعٍ إذن.”
في تلك اللحظة، وبينما كانت تبتسم بذلك النور الآسر، تراءى لي وجه مألوف يغشى ملامحها.
‘…أبي؟’
لكنّي ما لبثت أن هززتُ رأسي.
‘مستحيل.’
صحيح أنّ شعرها الفضيّ المتلألئ يشبهه، وصحيح أنّها آية في الجمال تضاهي أبي…
لكنّها تختلف عنه، فهي سيّدة عظيمة تتحمّل المسؤولية، لا كأبي الذي ترك ابنته القلقة وهرب!
لقد كان تشبيهها بأبي إساءة في حقّها.
“على أيّ حال، أشكركِ. لقد أنقذتِيني من مأزق في وقتٍ كنتُ أستعجل فيه أمرًا هامًّا، وأودّ أن أجازيكِ.”
وبينما أسرح للحظة في وجهها الشبيه بوجه أبي، لم أنتبه إلا متأخّرًا إلى يدها الممدودة نحوي.
فأمسكتها مرتبكة.
“آه… وأنا أحبّ المكافآت فعلًا. لكن أليس عليكِ أن تذهبي سريعًا لأمركِ العاجل؟”
“لهذا لا أسألكِ الآن إلا عن اسمكِ ومكان إقامتكِ.”
“أنا فيفيان هِيسِن. وأمّا مكان الإقامة… فلم أحدّده بعد، هاها.”
حككتُ وجهي بخجل، متهرّبة بابتسامة بلهاء.
فأجابت السيّدة، تحدّق بي مليًّا:
“إيغرين لووْسويذ.”
“عفواً؟”
“هذا اسمي. وحين تحدّدين مقامكِ، تعالي إلى بيت لووْسويذ.”
لووْسويذ!
اتّسعت عيناي دهشة.
لم يكن السبب فقط أنّها أرفع مقامًا ممّا توقّعت، بل لأنّ…
‘هذا يعني أنّها أخت دايْن لووْسويذ التي قرأتُ عنها في كتب التاريخ!’
إذن، رغم أنّها تعرف أنّني من الشياطين الذين قتلوا شقيقها فإنّها لم تعاملني بغير إنصاف.
صحيح أنّ الأحكام المسبقة شرّ، ولا يصحّ أن يكرهني أحد لمجرّد ذلك.
‘لكن حين يتعلّق الأمر بعائلتكِ شخصيًّا، فاستبعاد العاطفة ليس هيّنًا.’
وبينما كنتُ أحدّق بها مدهوشة، قالت وهي تلوّح لي:
“لنلتقي مرة اخرى.”
ثمّ استدارت عائدةً نحو عربتها.
“……همم، لكن قد يكون لقاؤها ثانية صعبًا.”
فهي قد طلبت أن أزورها في بيتها، لكن أن أذهب لأجل مكافأة صغيرة كهذه يبدو محرجًا.
مع ذلك…
شعرتُ أنّ العاصمة ستُهديني مزيدًا من الطيّبين مثلها.
كذلك كان وقع كلماتها اللطيفة التي غمرتني:
“لستِ وحدكِ، ولن يكرهكِ الجميع بسبب ذلك فقط.”
***
وبعد حين، وصلتُ إلى العاصمة.
“واو…”
حقًّا، كانت جديرة بلقب أكبر مدن الإمبراطوريّة، أبنية شاهقة وبشرٌ كُثُر.
سلبني المنظر حواسّي لحظة، ثمّ أفقتُ سريعًا.
‘لا عليّ أن أبدو ابنة قرية ساذجة! فالسذَج يسهل أن يكونوا هدفًا للنشّالين!’
السائق الطيّب، لمّا سمع أنّي بلا مأوى، أنزلني عند فندق في المدينة.
“هذا من أأمن فنادق العاصمة. قريب من المركز أيضًا. ولأنّكِ ستقيمين وحدكِ، فالأمان أهمّ شيء.”
“أوصلتني بسلام، بل وساعدتني في السكن. شكراً لاهتمامك.”
“أتمنى أن تجدي عائلتكِ.”
آمنة لي الخير ثمّ انصرف.
دفعتُ ثمن الغرفة لصاحب الفندق وصعدت.
وكان المكان صاخبًا كعادة فنادق المركز، لكنّه بدا آمنًا حقًّا كما قال الرجل.
‘وعندي كَامانغ أيضًا إن احتجتُ!’
داعبتُ رأس رفيقي الأسود الذي ساعدني في حمل الأمتعة، ثمّ ارتميتُ على السرير بتعب.
لم تكن الرحلة اليوم طويلة، لكن إرهاق الأسابيع الماضية أثقلني.
وبينما أحدّق في سقف الغرفة الخشبي، رتّبتُ خططي.
‘هل أزور النقابة التي أوصى بها السائق؟ أم…’
فجأة تذكّرتُ وصيّة الدوق:
” إن جئتِي إلى العاصمة فلا تتردّدي في زيارتي.”
منذ أن غادرت راشيل القرية، واظبتُ أنا والدوق على تبادل الرسائل مرّة كلّ نصف عام.
كنتُ أخشى أن أكون مجرد طفلة عابرة في ذاكرته، لذلك لم أكتب له أوّلًا.
لكنّه هو من بادرني بالرسالة.
أبي في البداية استنكر قربنا من الدوق.
لكن لمّا علم أنّ راشيل صارت في نظر الجميع ميّتة، وأنّ اهتمام الإمبراطور بها انقطع، قبِل بالأمر على مضض.
وهكذا استمرّ التواصل بيني وبين الدوق لسنوات…
‘لكن لا ينبغي أن أزعجه.’
فما كان يراه جميلاً يوم كنتُ طفلة بريئة، قد يُعدّ وقاحة الآن وقد كبُرت.
‘ومع ذلك… ما دمتُ هنا، فلا بدّ أن أزوره ولو لمرة.’
وفي اللحظة نفسها خطرت صورة راشيل بوجهي.
صديقتي الغالية التي لم أرها منذ عشر سنوات.
‘هي ما زالت في مملكة إيروان، لذا لن أستطيع رؤيتها الآن أيضاً، على الأرجح.’
تنهدتُ بأسى، ثمّ خطرت لي فكرة منسيّة.
‘صحيح، مذكّرتي!’
قفزتُ من السرير، وأخرجتُ الدفتر من قعر الحقيبة حيث خبّأته منذ أن أخبرتُ راشيل بقدومي للعاصمة.
وكانت الماسة السحريّة على غلافه تتلألأ بإلحاح.
فتحتُ الدفتر على عجل.
***
وبعد قليل، وجدتُ نفسي أمام قصر دوق ايدلبين.
فقد كان مكتوبًا في المذكرة:
“فيفيان، إذا وصلتِ العاصمة، اذهبي إلى قصر الدوق.”
كنتُ أعتزم زيارته أصلًا، لكن لم أتوقّع أن أجد ذلك مكتوبًا.
‘هل يليق أن أظهر فجأة هكذا؟ ألن يكون مشغولًا؟’
ربّما أخبرتْه راشيل مسبقًا، وإلّا فلماذا كتبت ذلك؟
ومع ذلك، مرّت في داخلي رهبة من لقاء بعد قرابة عشر سنين.
طردتُ الهواجس، وتقدّمت نحو البواب.
إن لم ألتقي به، فلن أرتاح.
“مرحبًا، جئتُ لمقابلة الدوق.”
هممتُ بذكر اسمي، لكنّ البواب ما إن لمح ملامحي حتى ارتبك وقال:
“تفضّلي إلى الداخل.”
‘هاه؟ لم أخبره بعد من أكون!’
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 48"