الفصل 47
كان ذلك مساعدها الوفيّ لوفير.
“ك… كارثة يا سيدتي. البارحة هطلت أمطار غزيرة، فتسبّبت بفيضانات أغرقت إحدى القرى المجاورة.”
انعقد حاجبا إيغراين بقلق عميق، فأجابته بصوت منخفض:
“وماذا بعد؟”
“ما إن بلغ الخبر مسامع سموّ الأميرة، حتى انطلقت بنفسها إلى هناك.”
ولكي يُقدَّم الدعم للقرية بشكل رسمي، لابدّ من موافقة الإمبراطور.
غير أنّ الإمبراطور ووليّ العهد خرجا في رحلة صيد، غير عالمَين بما يجري، حتى في مثل هذا الطقس العاصف.
وحدها الأميرة هيلدغارد بادرت بالتوجّه.
تمتمت إيغرين، وهي تمرّر يدها على جبينها وتزفر أنفاسها الثقيلة، ثمّ أمرت لوفير:
“…اذهب وجهّز العربة. سنتوجّه إلى القرية.”
كان لا بدّ أوّلًا من الاطّلاع على الوضع عن قرب.
***
“ها قد انقضى الصيف، ومع ذلك أيّ مطرٍ مجنون هذا الذي يهطل!”
تذمّر سائق العربة العجوز، وهو يسوقها فوق الأرض الموحلة التي بلّلها المطر طوال الليل.
جلستُ بجواره، وأيّدته بحماس:
“صدقتَ. فلو واصل المطر هكذا في الخريف، فالمحاصيل ستتعفّن كلّها.”
“لكنّكِ غريبة يا فتاة. عادة ما تجلس الصبايا هادئات في الخلف، خوفًا من الغريب الذي معهم، وأنتِ جلستِ هنا بجانبي.”
أجبته بخفّة:
“الجلوس وحدي يبعث على الملل. وما دمنا نتشارك الطريق، فلِمَ لا نتشارك بعض الحديث أيضًا؟”
كان هذا العجوز أحد سائقي العربات في النُّزل حيث بتُّ البارحة، وقد وافق أن يقلّني إلى العاصمة بأقلّ أجرة.
‘مجرد هطول مطر أمس جعل الآخرين يطلبون ضعف الأجرة المعتادة!’
وبما أنّه وافق بالسعر الأرخص، فقد عقدتُ العزم أن أؤنسه بالحديث طيلة الطريق.
ففي حياتي السابقة، كان من الأدب أن يبادل من يجلس بجوار السائق حديثًا يقطع وحشته.
‘وفوق هذا، قد أظفر ببعض المعلومات عن العاصمة.’
ويبدو أنّ العجوز داستكتع بصحبتنا، إذ أطلق ضحكة صافية وهو يقول:
“جيّد إذن، لم تعد الرحلة موحشة. لكن أخبريني، ما الذي يدفعكِ للذهاب إلى العاصمة؟”
“آه، ذلك أنّ…”
فجأةً خيّم الحزن على وجهي.
“ثمّة شخصٌ لا بدّ أن أعثر عليه.”
فمنذ اليوم الذي عرفتُ فيه باختفاء والدي، لم أتردّد فقد تركتُ رسالة لراشيل، وحزمتُ أمتعتي، وانطلقتُ نحو العاصمة.
كان هذا هو التوقيت عينه الذي يبدأ فيه مجرى القصة الأصليّة.
كنت أعلم أنّ ذهابي إلى العاصمة في هذا الوقت قد يجرّني إلى مجرى الأحداث كما وردت في الأصل.
ومع ذلك لم أستطيع إلا أن أذهب.
‘لا يمكنني أن أفقد أبي هكذا!’
مهما كلّفني الأمر، كان عليّ أن أجد والدي قبل أن يحلّ به أيّ مكروه.
“وهل هو من العائلة؟”
“نعم. لم يترك سوى ورقة كتب فيها أنه ذاهب ليجني المال، ثمّ رحل.”
“يا للأسى! لا عجب إذن أن تكوني قلقة.”
راح العجوز يضغط بلسانه في أسى، ثم خطر له شيء فقال:
“أها! لمَ لا تجرّبين الذهاب إلى النقابة؟ هي مكانٌ يقبل أيّ طلب مقابل المال، حتى البحث عن الأشخاص.”
“النقابة؟”
“نعم… ما اسمها؟ تير… تيرلاس؟ لا، تيرلاك كان اسمها. المهم، هي الأشهر هذه الأيام.”
حين سمعت ذلك، شعرتُ فجأة أنّ القصة قد تبدّلت فعلًا.
إذ في الأصل، كانت النقابة الأشهر في هذا الوقت بالعاصمة هي كارما، تلك التي رعَتها راشيل.
وكان زعيم كارما يعمل من خلف الستار متحالفًا معها، حتى صار أعضاؤها بمثابة أذرعها الخفيّة.
لكنّ راشيل في هذا العالم لم تبقَى بالعاصمة لتُنمّي قوّتها، بل تظاهرت بالموت وفرّت إلى دولةٍ أخرى.
ولعلّ لذلك السبب لم تظهر نقابة كارما أصلًا.
‘تيرلاك… أليس هذا الاسم يذكّرني براشيل؟’
كان تيرلاك اسم الشجرة الضخمة التي ودّعنا تحتها آخر مرّة في طفولتنا.
‘على الأرجح محض صدفة، فالاسم شائع.’
هززتُ كتفي غير عابئة بالاسم، ثمّ عدتُ أفكّر بالمشكلة الأهم:
‘هل عليّ أن أوكِل للنقابة البحث عن أبي؟’
وبينما كنتُ أخطّط لما سأفعل فور وصولي العاصمة، قال العجوز:
“أوه! ذاك السائق يبدو مبتدئًا. انظرِي، انغرست عجلة عربته في الوحل!”
نظرتُ حيث أشار، فرأيت عربة غاصت عجلاتها في الطين. وكان السائق و رجل يبدو مساعدًا له يحاولان دفعها بلا طائل.
فلم أملك إلا أن التفتُّ إلى العجوز:
“هل يضايقك إن توقّفنا قليلًا لنساعدهم؟”
“همم، لا بأس. لسنا على عجلة.”
توقّف العجوز بسرور، فنزلتُ من العربة واقتربتُ من الغارقة في الوحل.
‘أملك القدرة على المساعدة، فكيف أمرّ متجاهلةً ذلك؟ سيؤنّبني ضميري.’
لكنّني ما إن دنوتُ، حتى وقعت عيناي على امرأة لافتة للنظر.
شَعرٌ فضّي ممشوق مصفَّف بعناية، وعينان بنفسجيّتان عميقتان خلف نظّارة رقيقة، وملامح حادّة تفيض ذكاءً ووقارًا.
امرأة في منتصف العمر، جمالها طاغٍ، لكنّ هالتها الجليلة تفوق حسنها.
‘يا للروعة…’
كانت “أنيقة” أنسب من “جميلة” لوصفها.
“ما حاجتكِ؟”
انتبهتُ على صوتها البارد، فاستعدتُ هدفي الأصلي على عجل.
“آه، رأيتُ أنّكم في مأزق. هل تسمحون أن أساعد؟”
“ها! فتاة هشة مثلك؟ أيّ قوّة تملكين!”
تهكّم السائق و الرجل على هيئتي الصغيرة.
لكنّ المرأة النبيلة قاطعتهم قائلة:
“حسنًا، سأعتمد عليكِ.”
كانت نظرتها باردة صارمة، لكنّها خالية من الاحتقار أو التحيّز.
وقد بعث ذلك في نفسي حماسة، فابتسمتُ وتقدّمتُ نحو العربة.
حينها قفز كامانغ، رفيقي الأسود الصغير، من فوق رأسي إلى كفّي.
“سأعتمد عليك يا كاما.”
“مِوآغ!”
امتصّ كامانغ المانا الزرقاء من يدي، ثمّ قفز عاليًا، وإذا به يَكبر فجأة حتى صار أضخم من العربة نفسها، وفتح فاه ليبتلعها!
“ماذا…!”
شهقت العيون جميعًا من هول المشهد، حتى المرأة الفاتنة وقعت في ذهول.
ثمّ ما لبث كامانغ أن قفز بعيدًا إلى أرضٍ يابسة، وتقيّأ العربة من فمه سليمة.
“ها قد انتهينا! يمكنكم الركوب مجدّدًا الآن..”
قلتُ بفرح، لكنّني تجمّدت حين التفتُّ فرأيت السائق و الرجلين يرمقانني بعيون يتناوبها الغضب والفزع.
“أأنتِ… مستحضِرةُ روح الظلام؟”
“نصف دماء نجسة تجرؤ على…!”
لم أكن أبتغي جزاءً ولا ثناءً مقابل ما فعلت.
لكنّني أيضًا لم أتوقّع أن يُقابل عوني باحتقار وظلم.
آه… لا بدّ أنّ سموّكِ تشعرين بالعار لتلقّي عونٍ من نصف شيطانة ملوّثة. ما رأيكِ؟ هل أعيد العربة إلى الوحل إذن؟”
“أيّتها الوقحة، كيف تجرئين!”
صرخ السائق بغضب، لكنّ المرأة النبيلة نطقت بصوتٍ كالثلج:
“لوفير. فالتر.”
لم تكن قد رفعت صوتها، ولم تقل سوى اسميهما. ومع ذلك، غشي الجوّ رهبة ثقيلة.
“اعتذرا فورًا.”
“…عفوًا؟”
“”إلا إن كنتما ترغبان أن أُهان أمام من أنقذتنا.”
“لكن يا سيدتي! هذه الفتاة تحمل دماء ال…!”
“وهل سفكت دمًا؟ هل قتلت أحدًا؟”
ارتبك لوفير، وتجمّد السائق.
وتحت ثقل نظرتها الحادّة، انحنَوا في النهاية.
“…نعتذر. لقد انجرفنا وراء أحقادنا، وأخطأنا خطأً جسيمًا في حقّ من أحسنت إلينا.”
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 47"