وقد ازدادت ملامحه وضوحًا وحدةً، مظهِرةً ملامح رجل ناضج مكتملة لا سبيل بعد الآن لإخفائها.
كان يقيم حاليًا بعيدًا عن دوقية جده كالتس، مستقلًّا بحياته.
منذ عشر سنوات، في ذلك اليوم الذي تعرّض فيه لكمين الإمبراطور أثناء عودته من العاصمة، تغيّر كل شيء.
منذ ذلك الحادث، أصبح شخصًا “ميتًا” أمام العالم بأسره، وكان هذا خياره هو، لا أحد غيره.
لأنه ما دام حيًّا، فالإمبراطور لن يتوقّف عن مطاردته وإشعال المؤامرات.
ومنذ ذلك الحين أخفى هيديس وجوده، وانتقل إلى دولة مجاورة حيث عمل كمرتزق، فاكتسب خبرة السيف والسحر في ميادين القتال.
ثمّ، منذ عامين، عاد إلى الإمبراطورية، وأسس نقابة المعلومات “تيرلاك”، وبدأ يبني قوته ونفوذه من وراء الستار، صاعدًا خطوةً خطوة.
كان هدفه واضحًا و هوأن يجعل نفسه، عندما يكشف هويته يومًا ما، شخصًا لا يستطيع حتى الإمبراطور أن يجرؤ على لمسه.
كل ذلك ليحمي كالتس… وليحمي فيفيان أيضًا.
ومع ذلك، فقد أخبر فيفيان فقط أنّه لا يزال يقيم في الدولة مجاورة.
أجل، سيأتي يومٌ تعرف فيه الحقيقة، يومٌ يقف فيه أمام الجميع بكامل قوته، لكن…
لم يكن قادرًا حتى الآن على أن يُريها الدماء الملوثة على يديه، ولا أن يكشف لها عن وجه هذا العالم القاسي الذي بات جزءًا منه.
‘هل يا ترى لن تتواصل معي اليوم أيضًا؟’
تحوّل وجه هيديس، الذي كان قبل لحظات يكسوه الصرامة كقائد نقابة، إلى وجه صبيٍّ صغير ينتظر هدية وهو يقترب من الدرج حيث يُخفي دفتر يوميّاته.
منذ أن أتقن مبادئ الأدوات السحرية، كان يستغل أوقات فراغه لتطوير اختراعاته الخاصة، وأفضلها على الإطلاق كان دفتر التبادل.
زوجان من الدفاتر المترابطة مهما ابتعد الطرفان، يستطيع أحدهما الكتابة فيدفن أثر المسافة، إذ تصل الكلمات فورًا للآخر.
كان هذا أشبه بشبكة تواصل سرية بين شخصين فقط.
نجح هيديس في صنعه قبل أربع سنوات، فأرسل أحد الدفاتر مباشرة إلى فيفيان، ومنذ ذلك الحين صارا يتبادلان الأحاديث يوميًّا تقريبًا، وكان ذلك المتنفّس الصغير هو سعادته الوحيدة.
لكنّ دفتر اليوم ظلّ صامتًا.
واليوم ليس استثناءً فقد مرّت عدّة أيام على ذلك الصمت.
“قالت إنّ المهرجان انتهى أمس فقط… ربما تأخذ اليوم قسطًا من الراحة.”
تمتم بذلك بخيبة أمل وهو يوشك على إعادة الدفتر إلى مكانه، لكن في تلك اللحظة، أضاء الحجر السحري الأزرق المثبّت على غلافه، مُعلنًا تفعيله.
هذا يعني أنّ فيفيان قد كتبت شيئًا أخيرًا.
‘لابدّ أنّها ستتباهى مجددًا بمقدار الأرباح التي حققتها.’
ابتسم وهو يفتح الدفتر، متخيّلًا ما ستقوله، حتى ارتسمت على شفتيه ملامح فرح نادرة…
لكنّ الكلمات المكتوبة كانت صاعقة لم تخطر بباله قط:
“راشيل سأذهب إلى العاصمة.”
ارتبك، ورمش عدّة مرات غير مصدّق، ثم همس بالكلمات بصوتٍ مسموع ليصدّق نفسه.
‘بهذه السرعة؟! لكن… لماذا؟!’
أمسك قلمه بسرعة، وكتب بلهفة:
“فجأة؟! ما الذي تعنينه؟!”
لكنّ الدفتر ظلّ صامتًا.
مرّ وقت طويل دون أن يأتي رد.
“فيفيان؟”
شعر هيديس بأنّها تركت الدفتر بعد أن أسقطت تلك القنبلة الصغيرة ورحلت، وكأنها لا تعي وقع كلماتها عليه.
كان على وشك الجنون من القلق، لكنّ الأيام مرّت، واليوم العاشر مضى… ولم يصله منها حرف.
***
كانت إيغرين قد أنهت ترتيب المستندات العاجلة أولًا بأول ووضعتها على مكتب الإمبراطور، ثم خرجت من مكتبه.
كان المطر قد انهمر بغزارة طوال الليل، حتى بدا المشهد خلف النوافذ أبهى وأكثر خضرة، والسماء أنقى وأصفى.
كان الخريف في أوج حضوره.
لكن بالنسبة لإيغرين، المستشارة العظمى للإمبراطورية، فالفصل لم يحمل سوى قلقٍ آخر.
‘هطلت أمطار كثيرة هذا العام… هل يُنذر ذلك بمجاعة؟’
كانت تُفكر في استعدادات الشتاء القادم وهي تسير في الممرّات، حين لفت انتباهها ظلّ مألوف يقترب.
رجل مسنّ، غزت خصلات الشيب رأسه، لكن هيبته وقامته الفارعة ظلّتا طاغيتين، متفوّقة على كثير من الرجال الشباب…
كان ذلك كالتس.
قال بابتسامة ساخرة:
“يبدو أنّكِ يا مستشارتنا العظيمة تبذلين روحكِ في خدمة الإمبراطورية، حتى يتمكّن جلالته من الخروج للصيد وهو مرتاح البال.”
كان ذلك تعريضًا واضحًا بالإمبراطور الذي ترك شؤون الحكم عليها وانغمس في رحلات الصيد، كما كان في الوقت ذاته سخرية من إيغرين التي تتقبّل ذلك دون اعتراض.
أجابت وهي تدفع نظّارتها قليلًا للأعلى، كانت عيناها مليئة بالحدة:
“أجل، هناك شخص ما ألقى عليّ عبء هذا المنصب، ولولا ذلك لكنت استرحتُ أنا أيضًا.”
فمنذ اختفاء إيسيلا، ظلّ كالتس يساند الإمبراطور بنفسه ويتولّى شؤون الدولة، لكن حين ظهرت إيسيلا ومعها راشيل، تخلى طوعًا عن منصبه كمستشار، رغم محاولة إيغرين ثنيه عن ذلك.
“أرجوكَ، فكّر مجددًا يا صاحب السمو. أعلم أنّ الأمر شاق، لكن ماذا عن الشعب إن انسحبت؟”
كانت تعلم، وهو يعلم، أنّ الإمبراطور أورفين لم يكن إلا حاكمًا ضعيفًا، بل وأقرب إلى ملكٍ غافل، لكن لم يكن ممكنًا تغييره.
وفي فوضى كهذه، كان المتضرّر الأكبر دومًا هو الشعب، لذلك كان دور المستشار سدّ الفجوة وحماية البلاد من الانهيار.
لكنّ كالتس أصرّ على التنحي… ولم يكتفِي بذلك، بل أوصى بترشيحها خلفًا له:
“أرشّح إيغرين لووسويد لتكون المستشارة العظمى القادمة.”
في البداية اعترض كثير من النبلاء علنًا، ساخرين من كون امرأة تتولى المنصب الأرفع في الدولة، لكن خمسة عشر عامًا مرّت، وأصبح اسمها اليوم رمزًا للقوة والحكمة، حتى أنّ أحدًا لم يجرؤ على إهانتها.
ابتسم كالتس بخبث قليلًا وقال:
“ربما أخوكِ لم يعد حتى الآن لأنه أراد أن يُلقي على كاهلكِ هذا العبء الثقيل.”
ضيّقت عينيها وقالت ببرود:
“تبدو وكأنك تعرفه جيّدًا.”
لكنها كانت تعلم أن داين، شقيقها، لم يكن مهتمًّا بالسياسة يومًا، إذ كان متفانيًا في قيادة فرسان الإمبراطورية بعيدًا عن المؤامرات السياسية.
ثمّ تذكّرت إحدى عباراته القديمة:
“منصب ربّ العائلة يليق بكِ أكثر مني، أختي.”
كان داين دومًا يتذمّر محاولًا التملّص من تولي المنصب.
وربّما قال ذلك لأنّه كان يعرف كم عانت شقيقته لمجرّد أنّها امرأة.
ابتسم كالتس بخفة، كأنه يقرأ أفكارها، وقال:
“من يدري؟ ربما أعرفه أفضل مما تتخيّلين.”
تجاوزت إيغرين حيرتها، وردّت بسخرية رقيقة:
“على الأقل يبدو أنّ التخلي عن ذلك المنصب قد أراحك. حتى أنّك تغادر القصر في وقتٍ باكر كهذا.”
ضحك كالتس قليلًا وقال:
“كنتُ سأجلس معكِ قليلًا، لكن لديّ صديق سيزورني قريبًا من مكان بعيد، فيجب أن أستعدّ للقائه.”
توقّفت عند كلمة صديق ورفعت حاجبيها بدهشة:
“صديق؟!”
“لماذا؟ هل تعتقدين أن العجائز المتعجرفين مثلي لا يمكن أن يكون لهم أصدقاء؟”
صُدمت أكثر، ليس لأنّها كانت تظنّه بلا أصدقاء فحسب، بل لأنّها تعرف أنّه لم يصف أحدًا بذلك منذ عشرات السنين.
لقد عاش دائمًا كسلطة عليا، يأمر ولا يُؤمر، يقود ولا يُقاد… فلم يكن في قاموسه شيء يُدعى “ندٌّ” أو “صديق”.
قالت وهي تبتسم بمكر:
“يبدو أنّه شخص مميّز فعلًا إن كان استطاع أن ينسجم مع طبعك.”
ضحك كالتس بارتياح نادر:
“ذكيّ مثلكِ، لكنه أكثر دهاءً منك بكثير.”
ارتسمت على وجهه ابتسامة لم ترها منذ زمن، ابتسامة لا تظهر إلا حين يسترجع ذكرى قديمة ثمينة.
“سأعرّفكِ عليه يومًا ما إن سنحت الفرصة.”
في تلك اللحظة دوّت أجراس القصر معلنة حلول الساعة تمامًا.
ترك كالتس عبارة يُشفق بها على معاناتها، ومضى في طريقه..
عادت إغراين بدورها إلى قاعة العمل، حيث تنتظرها كومة من الملفات.
لكن ما إن وصلت حتى سمعت وقع خطوات متسارعة وصوتًا مرتفعًا يهتف:
التعليقات لهذا الفصل " 46"