الفصل 44
كالْتْسُ تَجَهَّمَ قليلًا، كأنّ مجرّد ذِكرِ أُختِ دِياس، إيغرين، أمرٌ مُزعِج، ثمّ سأل:
“أُختُكَ تنتظرُكَ بلهفة، أفلا تنوي على الأقلّ مراسلتها إن لم ترجع؟”
“تصرّف كأنّكَ لم ترَني.”
“وإن لم أستطع؟”
“قسوةٌ منكَ…ونحن الاثنان خونة في النهاية.”
“أستقتل شيخًا مثلي إن لزم الأمر؟”
“إن اقتضى الأمر.”
كالْتْسُ حافظ على ابتسامته الوادعة المعهودة، أمّا دِياس فبدا كأنّه يُقابله بابتسامةٍ مُجامِلة.
غير أنّ الهواء بينهما كان بارداً حدّ الصقيع.
نقر كالْتس بلسانه.
“حتى هذه الوقاحة نسخةٌ مطابقة لأختك.”
“سأعتبره مدحًا.”
في مواجهةِ برودة و تبجهه دِياس، ضحك كالْتْسُ باستهزاءٍ ثمّ دخل في صلب الموضوع.
“إذن، ما سبب مجيئك إليّ، معرّضًا نفسَك لخطرِ انكشاف هويّتك؟”
“أنوي مغادرةَ القرية بعد أسبوع. أردتُ أن تهيّئ لفيفيان و الأميرة لحظة وداع.”
“بسبب ما حدث مؤخرًا؟”
“أعلم أنّ الخطأ ليس خطأها. لقد فعلتُم ما بوسعكم لحماية فيفيان، وأنا ممتنّ لذلك.”
صمتَ كالْتْسُ برهة.
كلامُ دِياس كان مهذّبًا في ظاهره، لكن معناه أنّه لم يُرِد فيفيان بجوار راشيل.
الأمر لم يكن ذنبَ راشيل، ولا ذنبَه هو. لكنّه هو مَن أدخل فيفيان إلى حياة راشيل.
ومن موقع مَن ائتُمِن على الطفلة، شعر كالْتْسُ بمسؤوليّةٍ ثقيلة، لذا تفهّم رغبةَ دِياس.
إلّا أنّه قال:
“أنتَ أيضًا تعرف ما يشعر به الأب.”
“اعرف و افهم كذلك أنّك ستلقى كرهًا عميقًا من ابنتك إن فعلتَ هذا.”
ومن موقعِ أبٍ هو الآخر، لم يشأ أن يتركه يرتكب هذا الخطأ.
“جئتَ إليّ لأنّك لا تملك الشجاعة لتُقنع فيفيان بنفسك، فأردتَ أن أقطع الأمر من عندي، أليس كذلك؟”
“…….”
“لكن للأسف، لا أستطيع تلبية طلبك. أنا صديق فيفيان، وأنا في صفّها.”
كلماته جاءت في صيغة مزاح، لكنّها لم تكن مزاحًا أبدًا.
فعَقَد دِياس حاجبَيه بغيظ، فيما ظلّ كالْتْسُ يتأمّله بهدوء قبل أن يقول:
“إذن، ما رأيك بنصفِ شهر؟”
ارتفع حاجبُ دِياس مستفهِمًا.
“وقتٌ يكفي لوداع الطفلتين… ولنا نحن أيضًا لتهيئة أنفسنا لمغادرة القرية.”
“……ستغادرون؟”
كان سبب نزول كالْتْسُ مع راشيل إلى هذه القرية النائية واضحًا:
-ليُبعِد حفيدته عن عيون الإمبراطور.
فكيف يعود الآن إلى العاصمة، حيث يقبع الخطر الأكبر؟
كالْتْسُ، كأنّه قرأ تساؤله، أجاب:
“أدركتُ أنّ الاختباء وحده لا يكفي لحمايتها.”
وكان في كلماته طعنةٌ غير مباشرةٍ في موضع ضعف دِياس.
***
في البداية، كان أبي يرافقني كلّما ذهبتُ إلى الفيلا، لكنّه منذ مدّة صار يرسلني وحدي.
‘لا بُدّ أنّه ارتاح أخيرًا.’
ولعلّ السبب وجود كَامانغ الذي يلازمني دائمًا.
والحمد لله، تعافت راشيل قبل انتهاء المهرجان.
كانت تُلحّ عليّ للخروج إليه، لكنني رفضت بحزم.
“ليس بعد. لنذهب العام القادم.”
خشيتُ أن تُرهق نفسها، فأصررتُ على البقاء في القصر.
بقينا نمرح داخله لأيام، ولم يكن ذلك يضايقني.
فالمكان لا يهمّني، المهم أن أكون معها.
ومضت قرابة نصف شهر، إلى أن جاء يومٌ من أيّام أواخر الصيف.
“فيفيان، هيا نذهب إلى القرية. ونمرّ على التلّ الذي زرناه من قبل.”
اقترحت راشيل الخروج، فكنت في غاية السعادة.
نزلنا إلى البلدة، وجُلنا بين أركانها التي زرناها من قبل، واشترينا ما لذّ وطاب.
وكانت تبتسم كلّما التقت عيني بعينيها.
أكثر من المعتاد.
أحببتُ تلك الابتسامة، فلم أملك إلّا أن أبتسم بدوري.
وفي نهاية جولاتنا، صعدنا إلى التلّ الذي يذكّرنا بأوّل رحلة لنا معًا.
كان الطقس حارًّا، غير أنّ المنظر الذهبي الذي غمر القرية تحت ضوء الغروب أنسانا تعب الصعود.
راشيل ظلّت تُطيل النظر، كما فعلت يومها.
عندها خطرت لي فكرة:
“هناك مكان أجمل من هنا.”
“أين؟”
“هناك.”
أشرتُ إلى الشجرة الوارفة التي تُظلّلنا.
“أتريدين الصعود؟”
لم أتوقّع أن تقبل.
فهي آنسة رفيعة النسب لا تقوم بأفعال كهذه.
لكنها ابتسمت وقالت:
“لنصعد.”
قفزتُ فرحة، وأسرعتُ إلى جذع الشجرة.
“انظري! أنا بطلة تسلّق الأشجار في هذه القرية!”
وبمهارة زعيمة أزقّة، تسلّقت بخفّة.
مددتُ يدي لأساعدها، لكنّها فجأةً
بووم!
انتقلت بالانتقال السحري وجلست بجانبي.
نظرتُ إليها بدهشة، ثمّ نفختُ وجنتيّ غيظًا.
سألتني متعجّبة:
“ما بكِ؟”
“هذا غشّ!”
فأنا اتّسختُ كلّي، بينما هي صعدت بأناقة.
ضحكت وهي تزيل ورقة صغيرة علقت في شعري.
فنسيتُ غيظي، لأنّ ضحكتها بدت جميلة.
“راشيل، هل حدث شيء سعيد اليوم؟”
“لماذا؟”
“تبتسمين أكثر من العادة.”
نظرت إليّ وقالت بهدوء:
“حين أبتسم، تبتسمين أنتِ أيضًا.”
أحرجتني كلماتها، فحككتُ خدّي.
ثمّ أضافت بصوتٍ دافئ:
“أريد أن أتذكّرك وأنتِ تضحكين.”
ارتبكت، فقد بدا كلامها كحديث مَن يستعدّ للرحيل.
“ماذا… تقصدين؟”
فقالت جملة أسقطت قلبي:
“فيفيان، غدًا سأعود إلى العاصمة.”
“ماذا…؟”
فاضت مشاعري، لكنّها أمسكت يدي سريعًا وقالت:
“لا تبكي. لستُ راحلة لأنّي أكرهك.”
“……إذن؟”
“أريد أن أتعلم السيف والسحر بجدّ أكثر.”
تجمدتُ لحظة، ثمّ فهمت.
‘إنّه بسبب الحادث الأخير.’
لكن العودة إلى العاصمة تعني مواجهة عيون الإمبراطور المتربّصة.
‘ورغم ذلك… قرّرت الذهاب.’
كما في مسار الرواية الأصلية.
“لم أخبرك سابقًا، لأني خشيتُ إن قلتِ ‘لا تذهبي’ أن أتراجع.”
كانت عيناها مليئتين بعزم لا ينكسر.
“حين أصبح قويّة، بحيث أستطيع حمايتك من أيّ أذى وأنتِ بجانبي…”
“…….”
“سأعود إليكِ.”
ضغطت على يدي بقوّة، مؤكِّدةً وعدها.
“إلى ذلك الحين… وداعًا.”
ابتسمت وهي تقولها.
كنتُ أكبح دموعي بجهد، وأمسكت يدها كأنّي أتشبّث بالدفء الأخير.
‘أعرف أنّ طريقك شائك… لكن ما دمتِ اخترتِه…’
“سأنتظركِ.”
قلتُ وأنا أكاد أختنق بالبكاء:
“سأكتب لكِ كلّ يوم… وأصلّي كلّ يوم ألا تُصابِي بأذى.”
كما التقت طرقنا خِلافًا للأصل، وأصبحنا صديقتين…
فلعلّ قصتكِ أيضًا تتغيّر.
“إذن… لنلتقِي ثانيةً يا راشيل.”
انفجرت دموعي أخيرًا، لكنّي ابتسمت كما رغبت هي.
فأومأت برأسها.
“نعم، حتمًا.”
وهكذا افترقنا.
تحت الشجرة في ذلك الصيف… ونحن نضحك.
التعليقات لهذا الفصل " 44"