الفصل 42
“آه! أبي، كيف تكون بخيلًا وأنت أب!”
رمقتُ أبي بعينين مثلثة الشكل، فما كان منه إلّا أن ابتلع ما في فمه ونظر إليّ.
فتحتُ عينيّ بريقًا وسألته:
“أبي، بعد أن آكل هذا، هل يمكنني الذهاب إلى القصر؟”
كان أبي يتوقّع طلبي سلفًا.
فبما أنّه يَشْتبه أنّ الحادثة الأخيرة كانت تستهدف راشيل، فلا بدّ أنّه كان ينوي منعي من الذهاب.
“أعرف أنّك قلق، لكنّي سأكتفي برؤية إن كانت راشيل بخير ثم أعود حالًا. أرجوك، أبييي.”
المرحلة الأولى: خُطّة الدلال.
عندها صعد كّامانغ فوق رأسي وارتجف، كأنّه يساند رأيي.
لكن أبي بدا غير مرتاح لطلبي.
“فيفيان.”
“راشيل أتت أمس وحدها لتنقذني وهي تعلم أنّ الأمر خطر…”
المرحلة الثانية: خطّة الدموع.
وبينما كنتُ أتابع الكلام بصوت متقطّع تكاد تغمره العَبرة، أطلق أبي تنهيدة ورفع يديه استسلامًا.
“لكن بشرط.”
***
فتح الفتى عينيه.
أشعّة الشمس القويّة التي استقبلته أول ما استيقظ دلّ على أنّ الوقت قد مرّ طويلًا.
ومع شروق الشمس، بدت أهوال الليلة الماضية كأنّها محض كابوس.
غير أنّ ثِقَل جسده الغارق أَثبت له أنّ المعركة وما جرى لم يكونا وهمًا.
ومع ذكريات الليلة الماضية، كان أوّل ما خطر بباله:
‘…فيفيان.’
أمنُ فيفيان كان ما أقلقه.
ولمّا همّ بشدّ الجرس ليسأل عن أخبارها، فُتِح الباب قليلًا.
وما بان من الفُرجة كان:
“راشيل، هل يمكنني الدخول؟”
كانت تلك عينَي العسل اللتين تاق لرؤيتهما.
وخلفها، ظهر رجل يملك العينين نفسيهما تمامًا.
لقد رافقها دياس إلى القصر، إذ لم يَطِب له أن يترك فيفيان وحدها.
توقّفت أنفاسه لحظة حين التقت عيناهما.
“آسفة… آسفة لتأخّري، آسفة جدًّا لأنّي تركتُكِ وحدكِ…”
ارتجف قلب راشيل حين تداخلت صورة دياس وهو يعانق فيفيان باكيا في الليلة الماضية مع صورة جدّها الذي ناح عند فقدان أمّها.
ثمّ أرسلت نظرة ساكنة إلى فيفيان التي تنتظر فقط إشارة الدخول.
“…ادخلي.”
دخلت فيفيان مسرعة وجلست بجانب السرير.
“هل أنتِ بخير؟”
على خدّها لُصِقَت ضمّادة صغيرة، في الموضع نفسه الذي كاد خنجر الخاطف أن يصيبها فيه.
وفوق رأسها المستدير جلس الروح المظلم الذي علم بوجوده الليلة الماضية.
شهقت راشيل بهدوء وهي تتأمّل.
كلّما نظرت إلى دياس، وإلى جُرح فيفيان، وإلى ذاك الروح…
شعرت وكأنّ شوكة غليظة تنغرس في حلقها.
أجابت متأخّرة:
“…نعم.”
لاحظت فيفيان أنّ عيني راشيل تتّجهان نحو الروح، فمدّت كفّها.
على الفور هبط الروح المظلم على راحة يدها.
“لم أستطيع أن أقدّم له التحيّة أمس بسبب الفوضى. إنّها روح الظلام، التقيته في الكهف.”
اهتزّ جسده الصغير وكأنّه يسلّم على راشيل.
“كنتِ محقّة، لستُ غريبة بل مميّزة.”
“…”
“شكرًا لكِ، راشيل.”
لكن، على غير عادتها، لم تُبدِي راشيل أيّ ردّ.
‘هل تكره الأمر لأنّها روح ظلام؟’
لكن راشيل رقيقة لدرجة أنّها قالت عني إنّي مميّزة…
لن تكرهني من أجل هذا فقط…
وبينما ارتبكت فيفيان بسبب صمتها، حاولت تغيير الحديث:
“على أيّة حال، يؤسفني أنّنا لم نستمتع بالمهرجان البارحة. كنتُ قد اشتريتُ لك سيخ دجاج لذيذ، لكنّي فقدته… هيييينغ.”
“…”
“إن شُفيتِ قبل انتهاء المهرجان، فلنذهب معًا. هذه المرّة سأجعلكِ تذوقين كلّ ما لذّ وطاب.”
“…لا أريد الذهاب.”
“ها؟ آه…”
تفاجأت فيفيان بردّها البارد، لكنّها استدركت سريعًا محاولة فهم مشاعرها.
“أها… ربّما هذا العام ليس مناسبًا فعلًا.
آسفة، لم أفكّر جيدًا. إذن في السنة القادـ”
“لا أريد الذهاب معكِ.”
قاطعها صوت راشيل القاسي.
توسّعت عينا فيفيان بدهشة وهي ترمش نحوها.
لم تصدّق هذه البرودة، فاستمرّت تحدّق بعينين لا تزالان تحملان الثقة.
لكن راشيل هشّمت تلك الثقة كلّيًا:
“ليتني لم أتبعكِ أمس. ثقتي بكِ جرّتني إلى هذه الحال.”
“…”
“من البداية، كان عليّ ألّا آتي إلى هذا الريف البائس أصلًا.”
غير أنّ رأسه أخذ يفيض بالذكريات:
منظر القرية من فوق التل.
زيارته قبر والدتها مع جدّها.
ليالي الصيف الهادئة، حيث نام و بجانبه شخص ما.
وفي كلّ تلك المشاهد، كانت فيفيان حاضرة دائمًا.
والآن، تلك التي تتصدّر ذاكرت بوجه مبتسم، تجلس أمامه بعينين جريحتين.
“لماذا… لماذا تقولين هذا؟”
“…”
“لماذا تتكلّمين بوحشيّة؟”
“لأنّي سئمتُ منكِ ومن هذه القرية.”
لسانها كسكين يجرحها مع كلّ كلمة.
وأشاح بصره عن عيني فيفيان الموشكتين على البكاء، وهمّ بطردها:
“يكفي الآنـ”
“هل تخافين؟”
نظر إليها باستغراب.
“تخافين أن أموت؟”
“…”
“أم تخافين أن أتعرّض للخطر وأنا بقربك؟”
“إن كان خوفي على نفسك”
“إذن لماذا تبدين كمن سيبكي أكثر مني؟”
تجمّدت عيناه.
وأدرك أخيرًا…
أنّ دموع فيفيان ليست بسبب كلماته القاسية، بل بسبب عينيه، الممزّقتين بالمرارة.
“أنا أيضًا خائفة.”
“…”
“لكن رغم خوفي… أريد أن أبقى بقربك.”
اختنق صوتها بالدموع، ومع ذلك أكملت متقطّعة:
“أحبّك.”
قصيرة، لكن مشبعة بالصدق، هدمت الجدار الذي بنتْه راشيل.
“وهل أنا عندكِ مجرّد صديقة يمكنكِ التخلّي عنها خوفًا؟”
حبس مشاعره المتدفّقة، فأجاب بصوت مخنوق:
“…لا.”
وفي اللحظة نفسها انهمرت عيناه الزرقاوان كالبحيرة.
“في الحقيقة، أنا أيضًا…”
ربيعنا، صيفنا.
وأتوق لرؤية خريفنا وشتائنا معًا.
“أتمنّى أن تكوني بقربي.”
حتّى لو جرّك ذلك إلى خطر أو أذى.
وحتّى لو وُصفتُ بالأنانيّة.
وحين أفرغ أخيرًا قلبه، اندفعت فيفيان لتعانقه وهي تبكي.
جلس جامدا، ثمّ بادلها لها العناق متأخّرا قليلًا.
انكشفت الحقيقة خلف جدار الأكاذيب:
أنّه لا يريد أن يفلت من هذا الدفء أبدًا.
***
بعد أيّام عدّة، وفي ساعة متأخّرة من الليل.
كان كبير الخدم أوين يتهيّأ للنوم بعد أن تفقد أرجاء القصر، حين سمع وقع خطوات تقترب، فأسرع إلى الباب.
دخل كالتس من البوّابة ممتطيًا جوادًا.
وفي العادة كان يعود بعربة، لكن يبدو أنّه عاد مسرعًا ما إن بلغه خبر راشيل.
“عدتَ سالمًا، سيّدي.”
“أين راشيل؟”
“لقد استعادت حالتها الطبيعية تقريبًا. لعلّها نائمة الآن.”
حينها هدأت عينَا كالتس المضطربتان.
رفع نظره إلى نافذة غرفة راشيل ثم تقدّم داخل القصر.
“وهل قبضتم على المدبّر؟”
“لقد فرّ، أمّا المرتزقة الذين استُؤجِروا لخطفها… فقد أُبيدوا جميعًا.”
توقّفت خطوات كالتس فجأة.
قطّب جبينه والتفت إلى أوين.
“قُتلوا جميعًا؟”
“بالأصح، كان الوصف الأدقّ قد وُجِدوا موتى.”
التعليقات لهذا الفصل " 42"