اتّجه الاثنان مباشرةً إلى البيت عبر ذلك الطريق.
طلبت فيفيان من والدها أن يُنزلها خوفًا على ذراعه، لكن دياس ظلّ يحملها طوال الطريق، حتى خرجا من الغابة ووصلوا أخيرًا إلى المنزل.
كانت فيفيان ترغب في أن تُحدّث والدها عن الكثير، عن الروح أيضًا، لكنها اكتفت بالعودة بهدوء في أحضانه.
فحتى ذلك الطفل الذي اجتاز أحداثًا مروعة، وحتى الأب الذي كاد أن يفقد ابنته، كانا بحاجة إلى لحظة ليستعيد كلٌ منهما توازنه الداخلي.
وعندما وصل دياس إلى البيت وأنزل فيفيان، انحدرت روح الظلام المعلّق في شعرها إلى كفّها الصغيرة.
أحست فيفيان بنظرة والدها الثاقبة نحو الروح، فبادرت بالكلام:
“أبي، هذا روح الظلام. هو من كان يناديني طوال الوقت، وقد سمّيته كَامانغ.”
ومع نداء اسمه ارتجف جسده الصغير كما لو كان يُقدّم نفسه.
“لكن… هو ليس شرّيرًا! حين كنت عالقة في الكهف ظهر وساعدني. بل وأنقذ راشيل أيضًا.”
أضافت فيفيان بسرعة، خوفًا أن يسيء والدها الظن بروح الظلام.
فهو من علّمها ألّا تنجرّ وراء الأحكام المسبقة، لكن ذلك كان يخصّ الشياطين، وما زال في نفسها شيء من القلق.
لكن…
“جيّد إذن. لقد حظيت ابنتي بصديقٍ سند لها.”
تلاشى قلقها إذ لم يُبدِي دياس أيّ نفور، بل تقبّل وجود روح الظلام بطيب خاطر، وكأنّه كان يتوقع الأمر منذ البداية.
راقبت فيفيان ردّة فعله، ثمّ سألت بتردّد السؤال الذي طالما أرادت أن تطرحه:
“أبي… أتعلم؟ قيل لي إنّ روح الظلام لا يملكها إلا من يحمل دماء الشياطين.”
“…….”
“هل… هل كانت أمّي من الشياطين؟”
يُقال إن دماء الشياطين تكاد تضعف وتختفي بعد ثلاثة أجيال، وأن يختارها روح الظلام يعني أنّ أحد والديها أو أجدادها كان شيطاني الأصل.
حين واجهت الروح لأول مرة، لم تُعِر الأمر أهميّة بسبب ارتباك الموقف، لكن بعد أن هدأت الأحداث بدأت قطع الأحجية تتجمّع في رأسها.
أبوها الذي قطع صلته بأهله بعد زواجه من أمّها… ثمّ…
في ذلك الوقت، لم يكن لم يُصدّق إلا التاريخ الذي تعلّمه، وكان يُسيء فهم شخص. و….ندم على ذلك.
وعيناه، حين تحدّثت عن الشياطين، امتلأت بحنين بعيد.
ارتجعت عيناه دهشةً من حدس فيفيان الحادّ، ثم انكسرتا بابتسامة مرّة حزينة.
جلس أمامها، يُقابل نظراتها.
لم تُشيح بصرها، بل حملت عيناها قوّةً تقول إنها مستعدّة لقبول الحقيقة مهما كانت.
ومع ذلك، لم يستطع الكلام بسهولة، فحرّك شفتيه مرارًا قبل أن يبوح أخيرًا:
“فيفيان… أنا أخاف.”
“ممّا؟”
“أخاف أن يكون وجود أمّك سببًا في حزنك.”
خرج بوحٌ منه كالتنهيدة، بين ابتسامة وبكاء.
لم يستطع مواجهة جرح ابنته إن عرفت الحقيقة، فأطرق رأسه.
لكن عندما رفع عينيه من جديد، لم يرَى في نظرها أيّ أثر للحزن.
“أمي… صحيح أنّني كنت صغيرة جدًا فلا أتذكّرها جيّدًا، لكنها ستبقى دائمًا شخصًا حنونًا وغاليًا، أليس كذلك؟”
لم يعد وجه أمّها حاضرًا في ذاكرتها، لكن بقي الإحساس الواضح بأنّ أحدًا ما أحبّها حبًّا جمًّا.
مهما كانت أمّها شيطانية الأصل، لن يُغيّر ذلك الحقيقة شيئًا.
حقيقة أنّها أحبّتها كثيرًا.
ابتسمت فيفيان مطمئنةً وهي تُطوّق عنق والدها بذراعيها.
“أنا بخير، يا أبي.”
وكأنّها هي من تُواسيه.
ظلّ دياس يُحدّق مدهوشًا، ثم احتضن ذلك الدفء الصغير الذي تعلّم كيف يُواسي غيره، واتّخذ قرارًا داخليًا:
‘ينبغي ألّا تعرفي أبدًا يا فيفيان… لا حقيقة هويّة أمّك، ولا مَن كان السبب في موتها. يكفي أن أتحمّل هذا الألم من أجلنا.’
***
“مممم…”
استيقظتُ مع دغدغة أشعّة الشمس لأجفاني.
أوّل ما وقع بصري عليه كان وجه أبي الغارق في النوم، كأنّه ما يزال يتجوّل في عالم الأحلام.
في العادة يكون قد استيقظ وفتح المخبز، وبدأ بتحضير الفطور.
‘حقًّا، لمَن لا يُجيد القتال أن يضيع وسط الغابة بالأمس، فلا بد أنّه أُنهك كثيرًا.’
أنا في العادة فتاة ناضجة في التاسعة من العمر، أنام وحدي كالكبار.
لكنّني البارحة دلّلت نفسي قليلًا.
وليس لأنّني خفت أن أنام وحدي، بل لأني أحسست أنّ أبي قد خاف كثيرًا.
‘حسنًا، اليوم سأُحضّر الفطور بدلًا عن أبي!’
تسلّلت من السرير بخفّة لئلّا أوقظه.
‘وبعد الفطور عليّ أن أذهب إلى القصر.’
قال أبي إنّه سقط مغشيًّا عليه فقط بسبب الإرهاق، لكنّ قلبي ما زال قلقًا.
كنت أودّ الذهاب حالًا، لكنّ ذلك قد يُفزعه إذا استيقظ فلم يجدني.
لذا قرّرت أن أستغلّ الوقت في إعداد الفطور.
وبينما كنت أتوجّه نحو الباب، شعرت بشيءٍ خفيف يسقط على رأسي.
عندما نظرت إلى المرآة في النافذة، رأيت كَامانغ جالسًا فوق شعري.
وفورًا عادت أحداث ليلة البارحة تترى في خاطري، لترسّخ في داخلي أنّني أصبحت فعلًا مستدعِية أرواح.
مددتُ كفّي، فما كان منه إلا أن هبط إليها بخفّة وكأنّه يفهم قصدي.
“مرحبًا، هل نمت جيّدًا؟”
ارتجف جسده الصغير كإجابة.
ومنذ هزيمته للرجال الأشرار تلك الليلة، وهو لا يُغادر هيئته الصغيرة، ليدرك ربّما أنّه سيكون من الصعب أن يُرافقني بشكل آخر.
‘إنّه لطيف وذكي هكذا… لو كنت رفضته بسبب أحكام الآخرين المسبقة، لندمت كثيرًا.’
شعرتُ بالرضا عن اختياري وأنا أخرج بهدوء مع كَامانغ من الغرفة.
نزلتُ إلى الطابق الأوّل، وارتديتُ ملابس المطبخ الخاصة بي، وبدأت الطهي.
الأسهل كان السندويش.
مزّقت الخس والجبن، وأضفتُ شرائح اللحم المقدد مع البيض المقلي، ثمّ…
‘لم يبقَى سوى أن أدهن الخبز بالمربّى!’
أمّا كَامانغ فكان ينتقل من فوق رأسي إلى كتفي ثم إلى الطاولة، يراقبني بصمت وأنا أُعدّ الطعام.
وأخيرًا، وضعت الغطاء على السندويش لأُتمّ اثنين كاملين.
“انتهيت!”
فارتجف كَامانغ بجانبي كما لو كان يُصفّق لي.
‘أوه، صحيح.’
تذكّرت فجأة أنّني لم أفكّر في نصيبه.
‘لكن، ماذا تأكل الأرواح أصلًا؟’
لم أكن أعرف الكثير عن الأرواح بعد.
فأخرجتُ من السندويش أفضل ما أحبّه، قطعة من اللحم المقدد، وقدّمتها إليه.
“أتريد هذه؟”
تأمّلها قليلًا، ثمّ كبُر حجمه بمقدار شريحت اللحم المقدد وابتلعها دفعة واحدة.
ثمّ ابتلع الجبن والخس بالطريقة ذاتها.
“همم… إذن هو كائن غريب…”
كنتُ أفكّر أنّ عليّ البحث عن كتبٍ في القصر حول هذا، فإذا بأحدهم يفاجئني:
“آه!”
لا أعلم متى استيقظ، لكن فجأة رفعني أبي عاليًا وأغرق وجنتيّ بالقبلات.
“يا صغيرتي، صنعتِ طعامًا لأبيك! لقد كبُرتِ حقًّا!”
“آه، ذقنك تؤلمني!”
ارتجف كَامانغ ضاحكًا وهو يراقبني أتلوّى.
وكأنّه وجد المشهد مسلّيًا.
ظلّ أبي يحتضنني طويلاً حتى اضطررت أن أضربه قليلًا على ظهره لأتنفّس، فأفلتني أخيرًا.
أدركتُ أنّه يتعمّد المبالغة في المزاح، ليُبعد عنّي وطأة ما جرى بالأمس، وما عرفته عن أمّي.
لكنّني تجاهلت الأمر، لأنّه
هكذا أراد.
“حسنًا، لنذق السندويش الذي أعدّته أميرة بيتنا.”
وانتظرتُ حتى أخذ قضمةً منه، قبل أن أُفصح:
“أبي، لدي طلب…”
وفي اللحظة نفسها أنزل السندويش ثانيةً.
“الرشوة لم اخذها بعد.”
ترجمة: لونا
ادخلوا لقناتي بالتيليجرام فيها فصول اكثر
التعليقات لهذا الفصل " 41"