لم أكن لأغفر لنفسي أبدًا إن أصاب فيفيانَ أذى بسبب تورّطها معي في مثل هذا الأمر.
وبهذا الخاطر، غشيت البرودةُ عينيّ الزرقاوين مثل جليدٍ متجمّد.
في تلك اللحظة، أحسستُ فجأة بوجود حركة في الأمام.
فانطلقتُ بخفّة، مستخدما سحر الانتقال اللحظيّ لأقفز إلى قمة إحدى الأشجار القريبة.
وبينما أنا هناك، ظهر رجالٌ يبدون كأنّهم من زمرة الخاطفين.
قال أحدهم باستهزاء:
“أيّ وجود تتحدث عنه؟ أظنّك رأيتَ وحشًا بالخطأ.”
فأجابه آخر متردّدًا:
“لكنني رأيتُ بوضوح هيئة إنسان…”
وبينما يتبادلون الهمسات، انتقلتُ من جديد إلى شجرة أخرى في الجهة التي جاؤوا منها.
الصدام معهم لن يجلب إلا إضاعةً للوقت.
وفوق ذلك، لا أحد يعلم كم عددهم في الداخل.
لذا لم يكن ثمّة داعٍ لخوض معركة يمكن تفاديها.
تقدّمتُ بالانتقالات المتتابعة، متنقّلا بين الأشجار في عمق الغابة.
وما لبثت أن لمحتُ مجموعةً أخرى من الرجال، وقد انضمّ إليهم اثنان آخران.
“أوه؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟ أين الرهينة؟”
“تنام هانئة في أحلام الأطفال. يبدو أنّهم لم يحتملوا أن يروا رجلاً بوزني وقيمتي مرتاحًا، فأرسلوني هنا.”
“وماذا إن حرر احدهم الرهينة في غيابك؟”
“لا تقلق. ثمّة رجال متخفّين قرب الكهف. وحتى لو حرّرها أحد، فلن يكون سوى فأرٍ في مصيدة. رجالنا يملأون هذه الغابة.”
قلبي انقبض.
إذن فيفيان هناك، داخل الكهف.
استمعتُ مليًّا لحديثهم، ثم تابعتُ تقدّمي بانتقالات متلاحقة بين الأشجار.
لكن فجأة…
“……!”
ما إن هبطتُ على شجرة في الجانب الآخر، حتّى اصابتني دوخةٌ عنيفة كادت تُسقطني أرضًا.
سحر الانتقال اللحظيّ يستهلك معادلاتٍ أعقد، ويستنزف كمّيّاتٍ ضخمة من المانا.
رغم سنواتٍ من التدرّب المتواصل، لم يسبق لي أن أفرغتُ هذا القدر دفعةً واحدة. كان جسدي يئنّ تحت الحمل.
لكنني صررت اسناني.
“تلك لم تكن خطيئة الآميرة… أنت لم ترتكبي شيئًا يستحقّ العقاب، إنّه ظلمٌ بحت.”
كانت الوحيدة التي ظلّت إلى جانبي، رغم معرفتها أنّ قربها منّي يعرّضها للخطر.
لا أريد أن أجعلها تندم على اختيارها.
‘لا يمكنني أن أنهار الآن.’
أجمعتُ قواي المتبعثرة، وانتقلتُ مجددًا.
غير أنّ الهبوط هذه المرة جاء مرتبكًا، فانزلقت قدمي قليلًا.
ورغم أني استعدتُ توازني، إلّا أنّ الأوراق تحت قدمي أصدرت خشخشةً فضحت وجودي.
في لحظة، وثب أحد الرجال إلى الأعلى صوب مكمني.
“ظننته بومة، فإذا به…”
لم أفلح في التملّص قبل أن تلتقط يده طرف ثيابي.
“جرذٌ حقير، ها!”
ثم طرحني أرضًا.
“آه…!”
ارتجّ جسدي بالألم، وانقطع نفسي للحظة تحت وقع الصدمة.
لقد درّبتُ نفسي طويلًا على السحر والسيف، لكن لم أذق قسوة معركةٍ حقيقية من قبل.
“يا للعجب، طفلة صغيرة تقطع كلّ هذا الطريق بمفردها…”
اقترب أربعة رجال بالغين، والابتسامة العابثة تلطّخ وجوههم.
الخوف الطبيعي كاد يستبدّ بي، لكن صورة فيفيان وحيدةً خائفة في مكانٍ مظلم حوّلت خوفي إلى غضبٍ حارق.
تبدّل بريق عينيّ الزرقاوين، من رعبٍ صامت إلى حدّةٍ صاعقة.
“هل هي شجاعة عمياء، أم احتقار لنا؟!”
هاجم أوّلهم بسيفه، فتفاديتُه بالانتقال، ورددتُ عليه بسحرٍ هجوميّ.
“آآغخ!”
طار جسده وارتطم بجذع شجرة.
تفاجؤوا.
ظنّوا أنّني مجرّد طفلةٍ في العاشرة، لكن سرعة سحري فاقت حتى بعض السحرة المتمرّسين.
‘لا يُستهان بها… ليست عادية.’
شدّوا على سيوفهم وهجموا جميعًا.
كنتُ مرهقة من الاستهلاك الهائل، لكن لم يكن مسموحًا لي أن أتهاون لحظة، وإلا اخترقني أحد سيوفهم.
واصلتُ القتال بشراسة، أدفعهم واحدًا تلو الآخر بسحرٍ سريع، ثم أوسّع المسافة.
لكن جسدي بدأ يصرخ. الرؤية تهتزّ، والقوّة توشك على الانهيار.
‘لقد كنتُ أكبح نفسي كي لا أقتلهم… لكن هكذا لن أفوز. هم ينوون قتلي، وأنا لا أريد قتلهم. النهاية لا تُكتب إلّا إذا قتلتهم… أو قتلوني.’
لم يكن الموت مجهولًا بالنسبة لي بعد.
لكن أن أختار أنا موت غيري، كان ذلك فزعًا يوازي الفناء.
تردّدتُ.
إذ هجم أحدهم مجددًا، والسيف يلمع متجهًا إلى عنقي.
دقّ قلبي بعنف.
‘لا بدّ أن أُقتل.’
إن أردتُ أن أعيش.
تلونت عيوني الزرق بظلّ القتل.
لم أعد أهرب، بل استجمعتُ المانا لإطلاق أقوى تعويذة.
وفجأة…
“احترسي، راشيل!”
دوّى صوتٌ مألوف، ومعه ظلٌّ أسود هائل ابتلع الرجل المهاجم دفعةً واحدة.
غمر الصمت المكان.
أدرتُ بصري مأخوذةً، لكن قبل أن أستوعب ما حدث، اندفع أحدهم نحوي واحتواني بين ذراعيه.
“أأنتِ بخير؟”
كانت فيفيان، شعرها مبعثر، ثوبها ملوّث، لكنها بخير بلا جراح.
لم يكن الخوف باديًا عليها بقدر ما كان القلق عليّ، حتى أنّ ضحكةً صغيرة أفلتت منّي.
‘من المختطَفُ إذن؟’
ما إن طمأنتُها برأسي، حتى أزهرت على وجهها ابتسامة خفيفة.
لكن الفرحة لم تدم.
“أيها الوحش اللعين!”
هجم رجلان آخران على الظلّ الذي ابتلع رفيقهم، لكن لم يكادوا يضربون حتى ابتلعهم مثل سابقهم.
اهتزّ الكيان المظلم وفي داخله صرخاتٌ مكتومة.
‘ما هذا الكائن؟’
تأمّلتُه بقلق، لكن فيفيان صاحت غاضبة:
“أولئك الرجال الأشرار، اقتلهم يا كامانغا!”
وكأنّ الظلّ استجاب، إذ بدأ يتلجلج ويفرم ما بداخله.
صرخاتٌ مرعبة تبعتها.
“آاااه!”
فزعت فيفيان، ثم تداركت الأمر وصرخت ثانية:
“لا! لا تقتلهم… فقط حطّم أذرعهم وأرجلهم!”
استجاب الكائن لأمرها الجديد، ثم لفظ الرجال كما يُلفظ طعامٌ ممضوغ.
كانوا على الأرض يتأوهون بلا حراك، أطرافهم مهشّمة.
عاد الكائن إلى هيئةٍ صغيرة بحجم قبضة طفل، وحطّ فوق رأس فيفيان مطيعًا.
سألتُها وأنا أحدّق فيه بارتياب:
“فيفيان، ما هذا بحقّ السماء؟”
“آه… إنّها روح الظلام…”
لكنها قطعت شرحها فجأة، ممسكةً بيدي، وقد تنبّهت إلى أنين الأعداء.
“ليس الآن، لنهرب من هنا أوّلًا. الحديث بعد”
إذ رمي خنجرٌ قادم من الظلام.
دفعتُ فيفيان جانبًا في آخر لحظة، لكن لم ينجو خدّها الناصع من جرحٍ ضئيل.
“آه…”
قطرة دمٍ تساقطت من وجهها الأبيض.
جمدت ع
يناي أولًا كسكون بحيرة، ثم اشتعلتا بلهيب أزرق متّقد.
والآن فقط، أدركتُ الحقيقة.
إنّ هذا العالم القاسي…
لا يتيح لنا البقاء على قيد الحياة، إلّا بعزمٍ لا يهاب الموت…
ولا بخطوةٍ دون الاستعداد للقتل.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 39"