شدَدتُ قبضتي ونهضتُ واقفةً من جديد.
حتى وإن لم أستطع فعل شيء، لم أستطيع الجلوس مكتوفة اليدين أكثر.
لكن في تلك اللحظة.
“آه……؟”
فجأةً، امتدّت أمام عيني مجموعة مفاتيح صدئة.
كانت مفاتيح هذا القفص، تلك التي أسقطها الحارس عندما خرج قبل قليل.
ارتجفت عيناي دهشة، ورفعتُ بصري.
ورأيتُ خلف القضبان ظلًّا هائلًا، يكاد يملأ المكان.
مثل…… لا، بل أطول من أبي.
وحجمه يكاد يغطي هذه الغرفة الصخرية كلّها، جسمٌ شفاف على هيئة سلايم أسود.
إنّه ذلك، الكائن الذي أسقط قبل قليل مفاتيح الحارس من خاصرته.
لم أره من قبل قطّ، لكنّي عرفته على الفور.
“……كنتَ أنت من ظلّ يناديني طوال هذا الوقت؟”
هو صاحب تلك الهالة المجهولة التي كانت تهمس لي دومًا.
الكائن بلا عينين ولا أنف ولا فم، تموّج جسده كأنّه يجيبني.
ثمّ دفع مجموعة المفاتيح أكثر ناحيتي.
‘لقد أحضر لي المفاتيح.’
رغم أنّ مظهره مخيف، لم يخطر ببالي أنّه خطر.
تناولتُ المفاتيح بيدي وأنا أحدّق فيه.
ثمّ تحرّكت شفتاي ببطء.
“شكرًا لك.”
ظللتُ أحدّق فيه.
وعلى الرغم من أنّه بلا عينين، شعرتُ وكأنّه يبادلني النظر.
وكأنّه ينتظر كلماتي.
سألتُه بحذر:
“إذن، أنتَ روح؟”
فعاود جسده التموج.
كما توقّعت.
كان ذلك هو الجواب الذي ظننتُه.
لكن الآن كان عليّ طرح السؤال الأهم.
ومجرّد التفكير فيه جعل حلقي يجفّ.
‘لو جاءني الجواب الذي أتوقّعه… هل أكون قادرة على تحمّل النتيجة؟’
تردّدتُ لحظة، ثمّ حسمتُ أمري ونطقت:
“أتريد…… أن تعقد عقدًا معي؟”
بلونه والمكان الذي ظهر فيه، لم يكن شكّ أنّه “روح الظلام”.
‘الكتب قالت ذلك. إنّ روح الظلام لا تستجيب إلا للشياطين أو أنصاف الشياطين، ولهذا ينظر الناس بعين الريبة إلى مستدعي أرواح الظلام.’
كوني نصف دم شيطاني لم يفاجئني كثيرًا.
يكفي أن يكون في أسلافي شيطان واحد، حتى يجري في دمي أثرٌ من دمائهم.
ما كان يخيفني حقًّا هو…… نظرات الناس الباردة.
تلك الأحكام المسبقة، التي لم تزل تجعلني أتردّد.
غير أنّ روح الظلام لم يُبدِي أيّ عجلة.
ظلّ فقط ينتظرني بهدوء.
على الرغم من مظهره المهيب المخيف.
وفي تلك اللحظة، تذكّرتُ كلمات أبي:
“الحكم على شخصٍ من سلالته فقط أمرٌ خاطئ. فكما بين البشر لصوصًا وأشرارًا، فبين الشياطين أيضًا من هو طيّب.”
الآن فقط فهمتُ.
أبي قالها من أجل هذه اللحظة بالذات.
‘لا تدع الخوف من التحيّزات يجعلك أسيرة لها.’
أنا سأرى.
وسأشعر.
وسأحكم بنفسي.
وأثق بنفسي.
شدَدتُ عزيمتي ومددتُ يدي نحو الروح الذي ما زال ينتظرني بهدوء.
“إذن، فلنعقد عقدًا.”
ظلّت روح الظلام تحدّق بي لحظة، ثمّ مدّت يدها الشبيهة باليد ووضعتها فوق يدي.
وفي تلك اللحظة.
تفجّر من أيدينا المتشابكة قوّة عارمة.
***
قبل قليل، في أطراف الغابة الغربيّة.
“مجرد قتل طفلة صغيرة يحتاج منا أن نخرج جميعا؟ هذا مهين.”
“إذن لنترك الأمر لمستجدّنا؟ تستطيع وحدك، أليس كذلك؟”
كان المرتزقة يسدّون الطريق وهم يتضاحكون.
لكن أحدهم فجأة صمت، وأشار برفيقه إلى السكوت.
من وراء الظلال، كان يقترب رجلٌ بملامح رجلٍ بالغ، برداءٍ وعباءة.
لم يكن يبدو من فرسان إدلبين.
‘هل هو مجرّد عابر طريق؟’
يجب أن يُقتل كلّ من قد يصبح شاهدًا، لكن بما أنّ الأمر لم يبدأ بعد، قرّروا التغاضي.
فتقدّم المستجدّ الذي جُرح كبرياؤه قبل قليل من سخرية زملائه.
“أيها الغريب، يبدو أنّك ضللت الطريق. الأفضل أن تعود أدراجك. نُحسن إليك وأنت سالم.”
لكنّ الرجل واصل التقدّم بخطًى ثابتة، متجاهلًا تمامًا.
احمرّ وجه المستجدّ غضبًا.
“هل أنت أصمّ؟ ارحل قبل أن تذبح!”
وسحب سيفه مهدّدًا.
ومع ذلك، لم يتوقف الرجل.
كان يقترب بخطًى واسعة، يتمتم بصوتٍ خفيض:
“……أين هي.”
“هذا الوغد الأحمق، لا يعرف مع من يتحدّث ويهذي بـ…”
لكنّ كلمات المستجدّ اختنقت.
في غمضة عين، سال الدم من عنقه المقطوع.
وفي يد الرجل، كان هناك سيف لم يكن موجودًا قبل لحظة.
‘متى…… أخرجه؟ لم أره!’
ولم ينل المستجدّ فرصة ليدرك موته.
سقط ميتًا على الفور.
المرتزقة الآخرون تراجعوا لحظةً هلعًا من سرعته المخيفة، لكنّ الغضب دفعهم للاندفاع.
“من تكون أيها الوغد!”
تسعة رجال دفعةً واحدة.
ولم يظنّ أحدهم أنّهم سيُهزمون.
لكن.
بعد وقتٍ قصير، لم يبقى واقفًا سوى رجلٍ واحد.
كلّهم سقطوا قتلى.
أما الأخير الذي بقي، فقد كانت ساقه مقطوعة وذراعه مبتورة.
صمت ثقيل يلفّ المكان.
رائحة الدم تخنق الأجواء.
الألم الفظيع ينهش الجسد.
كلّ ما حوله كان يجسّد الموت.
ارتجف المرتزق الأخير وهو يحدّق بالرجل.
‘هذا…… هذا وحش!’
كان رفاقه من خيرة المقاتلين.
ومع ذلك، ذُبحوا جميعًا في لحظات.
لم يجد كلمة لائقة اكثر من “وحش” ليصفه.
وحين التقت عيناه بعيني الرجل، استطاع أخيرًا أن يرى وجهه بوضوح.
شعرٌ فضّي لامع كأنّه خيوط مقصوصة من القمر.
وعينان ذهبيّتان متألّقتان مثل الشمس.
وجهٌ يليق به وصف “جميل”.
لكن قطرات الدم الملطّخة عليه، والنظرة القاتلة في عينيه، جعلت صورته مخيفةً أكثر.
رفع دياس سيفه نحو المرتزق المذعور.
صرخ الأخير:
“آآآااه!”
غير أنّ السيف لم يقطع رقبته، بل غرس في الأرض بجانبه.
ارتعشت أوصاله من برودة المعدن الذي لامس جلده.
“أ، أرجوك……!”
ومع توسّله، استطاع أخيرًا أن يسمع بوضوح كلمات الرجل التي نطقها قبل قليل:
“أين ابنتي؟”
***
‘هذا الطريق.’
كنت اتبّع آثار الأقدام المطبوعَة في الوحل و انا استعيد ما حدث للتوّ.
لقد بدل الخاطفون هدفهم فجأة، واختطفوا فيفيان واختفوا وسط الحشود.
استطعت بالكاد أن تعرف وجهتهم بسؤال المارة.
وكانت هذه الوجهة الغابة المحرّمة.
‘جيّد أنّ الأرض مبتلّة بالفعل.’
لكنّ
ه كان يعلم أنّهم تركوا الآثار عمدًا.
‘إنّها مصيدة. يريدون استدراجي.’
ورغم يقينه، لم يستطيع الانتظار حتى يلحق بها الفرسان.
“أولئك الأوغاد لن يتركوها سوى على حافة الموت. في كل لحظة مهددة بكسر إصبع، أو تحطيم ساق… أي عقاب إن أثارت غضبهم.”
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 38"