في الصّباح الباكر، كان كالتس يستعدّ للخروج.
لقد مرّت عدّة شهور منذ أن نزل إلى هذه القرية، واليوم كان أوّل مرّة يصعد فيها إلى العاصمة.
رغم أنّه انسحب من السّياسة المركزيّة، إلّا أنّه لا يزال يشكّل محورًا في حزب النّبلاء.
ورغم أنّ الأمر متعب بعض الشيء، إلّا أنّ احتفاظه بالسلطة كان أمرًا ضروريًّا.
فكلّما كان تأثيره أكبر في السّياسة، صعُب على الإمبراطور أن يتعرّض لراشيل.
حين ارتدى كالتس سترته، كان أوين يقف بجانبه ممسكًا بالمعطف، وساعده في ارتدائه.
وما إن انتهى من ارتداء المعطف، حتّى أمره:
“أوكل إليكَ أمر القصر في غيابي. وراشيل أيضًا.”
“و هل في ذلك شك؟”
وبوضعه القبّعة على رأسه، أتمّ كالتس استعداده واتّجه نحو الباب.
فسأله أوين، الذي تبعه:
“هل لي أن أستفسر عن موعد عودتك؟”
“ممم… لا أعلم، لكن حتّى لو أسرعت، فلن أعود قبل نهاية المهرجان على الأرجح.”
“معذرة، ولكن… ألا يمكنك العودة باكرًا قليلًا وقضاء بعض الوقت مع الآنسة؟”
توقّف كالتس لبرهة يُفكّر، ثمّ سأل:
“هل استيقظ كلٌّ من فيفيان وراشيل؟”
في الليلة الماضية، قالت فيفيان انّها ستقيم في الفيلا لبعض الوقت، فتناولوا العشاء جميعًا معًا.
ثمّ ترك لهما الوقت ليستمتعا وحدهما.
“على الأرجح أنّ فيفيان نامت في غرفة الآنسة، ويبدو أنّهما لم يستيقظا بعد.”
ابتسم كالتس ابتسامة خفيفة لسماع ذلك، ثمّ أجاب على اقتراح أوين السابق:
“أظنّ أنّ الصغار يفضّلان أن يُترك هذا العجوز وشأنه.”
خصوصًا راشيل، ذلك الوغد…
عندها فقط، بدا على أوين أنّه فهم ما كان يعنيه كالتس، فأطلق تنهيدة صغيرة وقال:
“هل قرّرت بالفعل من ستكون زوجة حفيدك؟”
توقّف كالتس للحظة.
بالفعل، بدا له أنّ مشاعر راشيل تجاه فيفيان تتجاوز حدود الصّداقة.
‘صحيح أنّ فيفيان لا تعلم بعد أنّ راشيل فتى، لكن حين يعرف الحقيقة، ستكون مشاعرها هي العامل الأهمّ.’
وإن أراد الطّرفان ذلك، فلن يُعيق زواجهما بسبب الفارق الطّبقي.
‘لكن ما هو أهم من كلّ هذا…’
هو أنّ الجميع في الخارج يظنّ أنّ راشيل فتاة.
لم يفكّر يومًا متى سيتوقّف عن هذه الخدعة.
فراشيل بالنسبة له كانت وعدًا أخيرًا لابنته الراحلة ، وعدًا سيظلّ وفيًّا له حتّى يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وإن كانت الوسيلة لحماية راشيل هي أن يبقى في هيئة فتاة، فسيستمرّ في إخفاء حقيقته إلى الأبد.
‘لكن راشيل لن يرضى بذلك.’
هل يمكنه إطلاق راشيل إلى هذا العالم الخطر، وهو على طبيعتها؟
ما زال يشعر أنّ حفيده مثل بيضة لم تفقس بعد؛ هشّة قد تتحطّم في أيّ لحظة…
لكنّه سرعان ما بدّد تلك الأفكار.
‘لا داعي للقلق الآن.’
فلم يُحسم شيء بعد.
ولا داعي لتحمّل القلق سلفًا.
“سأذهب الآن.”
خرج الاثنان من الغرفة واتّجها إلى مدخل القصر.
وكان الخدم مصطفّين في الانتظار لتوديع السيّد.
من بينهم كانت سالي ومارغريت، لكنّ راشيل وفيفيان لم تكونا هناك، تمامًا كما قال أوين.
ولم يُظهر كالتس أيّ أسف ، فلم يكن في نيّته إزعاج الطّفلتين من نومهما من أجل وداع.
لكن فجأة…
“يا دوق!”
جاء النّداء من الطابق الثاني، وظهرت فيفيان و راشيل في عجلة من أمرهما.
نزلت فيفيان الدّرج مسرعة وهي تمشط شعرها بأصابعها على عجل.
“انتبهي لا تتعثّري.”
قال كالتس وهو يوبّخها بخفّة، لكن فيفيان لم تتوقّف حتّى وصلت إليه.
“عد سالمًا يا دوق!”
وراءها، نزلت راشيل بخطى أبطأ وقالت:
“عد بسلام، جدّي.”
نظر كالتس إلى الفتاتين الواقفتيْن أمامه.
ما بدا يومًا مجرّد طقوس سطحيّة للحفاظ على صورة العائلة، بدا له اليوم مختلفًا بعض الشيء.
“ألديكما شيء تحتاجانه؟”
“شيء نحتاجه؟”
“أو شيء تودّان أكله مثلًا.”
راشيل فكّرت للحظة، لكن لم يخطر لها شيء.
فقد نشأت دون أن ينقصها شيء ماديّ، كما أنّها لم تعتد على طلب شيء من جدّها.
لكن فيفيان، وهي تراقبها، سارعت قائلة:
” أريد حلوى!”
“حلوى؟”
“نعم، أريد تذوّق ألذّ حلوى في العاصمة!”
“سأحاول إحضارها.”
عندها أضاء وجه فيفيان بابتسامة جميلة.
فرأى كالتس من خلالها صورة ابنته الراحلة إيسيلّا، في طفولتها، لبرهة قصيرة.
ربّت على رأس فيفيان بلطف، ثمّ وجّه نظره إلى راشيل من جديد.
“وأنتِ، راشيل… ألّا تحتاجين لشيء حقًّا؟”
لاحظت راشيل في عينيه تطلّعًا رقيقًا، فتردّدت قليلًا ثمّ قالت:
“إذًا… أرجو أن تحضر لي بعض الكتب.”
“كتب؟”
“نعم، تلك الكتب التي تحضرها لي دائمًا يا جدّي.”
كانت تقصد كتب السّحر الّتي كان يشتريها لها سرًّا.
لكن لم يكن من المسموح أن يعرف الخدم أنّها تتدرّب على السّحر، لذا أجملتها في صيغة عامة.
كالتس فهم على الفور أنّ طلبها لم يكن بدافع الحاجة الفعليّة، بل لأنّها لم تشأ أن تُخيّب أمله.
فتبسّم لنيّتها الطيّبة.
“سأفعل.”
ومثلما فعل مع فيفيان، ربّت على رأس راشيل أيضًا.
وفي تلك اللّحظة، ولأوّل مرّة منذ مدّة طويلة، شعر بأنّ عليه العودة إلى هذا القصر مهما حدث.
صعد كالتس إلى العربة، وأُغلقت الأبواب خلفه، ثمّ بدأت حوافر الخيول تبتعد وتخفت أصواتها شيئًا فشيئًا.
وعاد الخدم إلى مهامّهم المعتادة.
“هيا نرجع، راشيل.”
قالت فيفيان، وصعدت مع راشيل إلى الطّابق الثاني وهما تدردشان.
لكنّ مارغريت، كانت تراقبهما من بعيد، بعينيْن باردتيْن وخالية من الدّفء.
***
بعد الإفطار، أخذت راشيل فيفيان إلى المكتبة.
سارت راشيل إلى الأعماق بحثًا عن كتاب، بينما لحقتها فيفيان بخفّة.
“ما الّذي تبحثين عنه، راشيل؟”
“أريد أن أبحث عن شيء حول مستدعي الأرواح.”
“الأرواح؟ لماذا الآن فجأة؟”
“تلك الهالة الّتي قلتِ إنّك شعرتِ بها البارحة… أظنّ أنّها قد تكون مرتبطة بالأرواح.”
اتّسعت عينا فيفيان بدهشة.
‘إذًا، كانت تفكّر فيما قلتُه أمس…’
كان يمكن أن تتجاهله وتظنّه هلوسة أو مجرّد خوف.
لكنّ راشيل تأخذ الأمر على محمل الجدّ، وتحاول أن تجد له تفسيرًا.
“سأساعدك في البحث!”
هكذا اجتمعت الفتاتان على طاولة، وكلٌّ تحمل كومة من الكتب.
وبينما كانت كلّ واحدة تقرأ بهدوء، عثرت فيفيان على ما كانت تبحث عنه:
> “عادةً ما يستطيع المستدعي التّعاقد مع روح واحدة فقط.
تحصل الرّوح على طاقة المانا من المتعاقد معها، وتُظهر من قوّتها بقدر ما تُمنح.
وحين يتمّ العقد، يمكن سماع صوت الرّوح، أو بدقّة أكبر، الإحساس بها.
ويُقال إنّ المستدعي يستطيع التّواصل مع روحه بهذه الطّريقة.
نادرًا، هناك من يستطيعون الإحساس بالرّوح حتّى قبل أن يتمّ العقد.”
في عيني فيفيان، انعكست ومضة من الأمل، ربّما تكون حالتها مرتبطة بالأرواح فعلًا.
“راشيل، كنتِ على حق! يُقال إنّ بعض النّاس يمكنهم سماع الأرواح حتّى قبل التّعاقد معها!”
اقتربت راشيل منها، و فيفيان تشير إلى الجملة في الكتاب وهي تقرأ بصوت خافت:
“انظري، هنا يقول إنّ الرّوح تأخذ المانا منّي. إذًا… إن أصبحتُ مستدعية حقًّا، فهل يعني هذا أنّ مرضي سيزول؟”
عندها، لن تكون عبئًا على راشيل بعد الآن…
فهي سمعت من الخادمات أنّ راشيل لم تكن تسمح لأحد بخدمتها منذ صغرها.
‘يبدو أنّ مربيةً كانت تساعدها حين كانت طفلة، لكن حاليًّا تعتمد على نفسها تمامًا.’
حتى أنّها رفضت مساعدات الجميع، لكنّها وحدها من أمسكت بيد فيفيان.
رغم أنّ ذلك لم يكن مريحًا
لها.
‘ربّما فقط لأنّي مريضة.’
بل إنّها أغمي عليها أمامها أكثر من مرّة.
فربّما تشعر راشيل تجاهها بالذنب.
ولعلّها بهذا، ترفع عن راشيل بعضًا من ذلك العبء.
امتلأ قلب فيفيان بحماس وأمل، لكنّ وجه راشيل المقابل… لم يكن كذلك.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 34"