في الواقع، بما أنّ أبي من رعايا الإمبراطوريّة، فمن غير المعقول ألا يعرف ذلك الرجل.
“فهو، دون شكّ، اسمٌ ذائع الصيت، وشخصيّة عظيمة بكلّ المقاييس.”
في هذا العالم، يُوجد جنس مختلف عن البشر يُدعى “عرق الماو”
رغم قلّة عددهم، إلا أنّهم جميعًا يملكون قدرة فطريّة على استخدام السّحر،
على عكس البشر، الذين لا يُمنح هذا الامتياز إلا للقليل المختارين.
وقد استغلّوا تلك القوّة لغزو أراضينا، يغيرون على البشر، ينهبونهم ويؤسِرونهم.
وهكذا، ظلّت الحرب قائمةً بيننا وبينهم بلا انقطاع.
إلى أن جاء ذاك اليوم، قبل عشر سنوات،
حين لم يعُد الإمبراطور قادرًا على التزام الصّمت أمام معاناة شعبه القاطنين قرب أراضي الماو،
فقرّر شنّ حملة تطهير كبرى لاجتثاث الخطر من جذوره.
وكان مَن تصدّر تلك الحملة، قائد الفرقة الإمبراطورية الثانية داين لوثسويد.
عبقريّ لا يتكرّر، بلغ مرتبة “سيّد السيف” في سنٍّ لم يسبقه إليها أحد في تاريخ الإمبراطوريّة.
ولم تمضِ فترةٌ طويلة حتى أصبح نائب القائد، وهو لم يتجاوز العشرين ربيعًا.
وفي السنة نفسها، قاد جيش الإمبراطوريّة نحو أرض الماو.
ورغم وعورة الميدان وسوء التضاريس، حقّق انتصارات ساحقة، واحدة تلو الأخرى.
لكن في لحظة مفصليّة، وقع في كمين من قِبل الماو،
فأمر بانسحاب قواته، وبقي وحيدًا في الميدان يقاتلهم حتى قيل إنّه استُشهد هناك.
“ومنذ ذلك الحين، لم يُعثَر على جثمانه، لا في تلك الحملة ولا التي تلتها بعد أربع سنوات.”
ولهذا، أُدرج اسمه رسميًّا تحت بند “المفقودين”،
لكنّ الكلّ يُجمع على أنّه لقي حتفه هناك، في أرض العدو، وسط ألسنة اللهب.
مهما يكن، فإنّ وفاته ساهمت في تهدئة جموح الماو مؤقتًا،
فقلّت غاراتهم، وتنفّس الناس الصّعداء لبعض الوقت.
ولهذا السبب، يُمجّده الناس اليوم، ويطلقون عليه لقب “البطل”،
تمامًا كما قرأتُ عنه في كتب التّاريخ.
“إذاً، يا أميرتي… ما الذي خطر ببالك حين تعلّمتِ عن ذاك الرجل؟”
سألني أبي بنبرةٍ دافئة، فرمشتُ بعيني دون أن أجد جوابًا حاضرًا.
‘بصراحة؟ لم أشعر بشيء يُذكَر.’
رغم أنّي في التاسعة من عمري، إلّا أنّ عقلي لا يزال يحمل بقايا حياةٍ سابقة.
أنا لستُ في سنّ تُبهره الأساطير، ولا في مرحلة يُحرّكه فيها التمجيد الأعمى.
‘لكن لو كنتُ طفلةً لا تعرف من العالم إلا ما تسمعه وتقرؤه،
فلا بدّ أنني سأُبدي إعجابًا ودهشة، أليس كذلك؟’
وإن حاولتُ أن أضع نفسي مكانه للحظة…
أن تُضحّي بنفسك من أجل الآخرين، أن تختار الموت لتمنحهم الحياة…
ذلك، في حدّ ذاته، يستحقّ الإعجاب.
“إنه شخصٌ رائع!”
“…رائع؟”
“نعم! قويٌّ لدرجة أنّه واجه الأشرار بمفرده، وشجاعٌ لدرجة أنّه أنقذ جنوده حتى لو كلّفه ذلك حياته.”
كنتُ صادقةً تمامًا، رغم أنّني ارتديتُ قناع الطفلة المُنبَهِرة.
لكنّ ردّة فعل أبي جاءت غير متوقّعة.
ابتسم ابتسامة خافتة، لم تكن فرحة، بل كانت… مُرّة.
“فيفيان، ذلك الرجل… قد لا يكون بذلك الرّوعَة التي يصفونه بها.”
“ها؟ لماذا؟”
“لأنّ التاريخ… هو في نهاية المطاف، لسان المنتصر.
والمُنتصر يكتب التاريخ دائمًا بما يُمجّده ويُمجّد قومه.”
سمعتُ هذه الفكرة من قبل في حياتي السابقة،
لكنّها لم تترك في نفسي أثرًا يُذكَر وقتها.
“ربّما في الحقيقة، كان الماو هم الطيّبون، وذاك الرجل هو من ارتكب الشرّ.
لكن لأنّه كان من جنسنا، برّر له الناس أفعاله وزيّفوها.”
كان أبي يُحاول جاهدًا أن يشرح الأمور بلغة تناسب طفلةً في التاسعة،
رغم أنّني كنتُ أفهم أكثر بكثير ممّا يتصوّر.
“التمييز بين الطيب والشرير لا يجب أن يُبنى على العِرق أو الجنس أو الانتماء،
كما أنّ بيننا نحن البشر من يسرق ويقتل،
فكذلك بين الماو مَن يستحقّ أن يُسمّى طيّبًا.”
كان قلقًا عليّ.
خشي أن أغرق في روايات الإمبراطوريّة وأحمل ضغينة عمياء ضد جنسٍ بأكمله.
“أنا فقط… لا أريد لأميرتي أن تكرّر خطأ أبيها.”
“خطأ؟ يعني… أنتَ التقيتَ ماو طيّبًا من قبل؟”
سألتُه فضولًا لا توقعا.
لكنّه توقف للحظة، وكأنّ سؤالي أصاب وترًا حسّاسًا فيه.
نظر إلى البعيد بعينين تكسوهما الذكرى،
ثمّ قال بصوتٍ هادئ:
“نعم. قبل أن يُغلق باب عالمهم.”
المعابر إلى الماو كانت موزّعة سرًّا في أنحاء الإمبراطوريّة،
لكنّها أُغلِقَت بالكامل بعد حربٍ حاسمة قبل ستّ سنوات،
عندما اضطرّ ملك الماو إلى حبس عالمه خلف ختمٍ لا يُفَكّ.
“وقتها… كنتُ أؤمن بما تعلّمتُه، فظننتُ أنني كنتُ على حقّ.
لكنّني كنتُ مخطئًا.”
ثمّ نظر إليّ.
عيناه الذهبيّتان تشبهان عيني، لكن فيهما شيءٌ آخر… شيءٌ لا أفهمه بعد.
حزنٌ؟ حنين؟ ندم؟ ربّما كلّ ذلك معًا.
“ندمتُ. وبشِدّة.”
شعرتُ أنّه يُفكّر في شخصٍ ما.
ماو عرفه… ربّما أحبّه… ربّما فقده.
“لهذا، لا أريد لكِ يا فيفي، أن تكرّري نفس الخطأ.”
نظرتُ إليه طويلًا.
أبي هو أروع الكبار الذين عرفتهم.
هو لا يخشى الاعتراف بخطئه،
ويُحاول إصلاحه، حتى أمام ابنته.
‘سأُصبح مثل أبي حين أكبر.’
رفعتُ رأسي وقلتُ بحزم:
“فهمت، بابا. سأحكم على الناس بنفسي.
لن أصدّق كلّ ما يُقال، ولن أُعادي أحدًا لأنّهم يقولون عنه سيّئًا.”
عندها فقط، ابتسم أبي بارتياح.
ومدّ يده الكبيرة الحنونة يربّت على وجهي الصغير.
“بنت مَن هذه الطفلة الذكيّة الطيّبة
؟”
“هممم… يمكن ابنة بابا؟”
أجبتُ مازحة، فضحك أبي وسحب خدّي بلطف.
ضحكتُ بدوري، فالمساء كان هادئًا، دافئًا، وعاديًّا… كأيّ ليلة مليئة بالمحبّة.
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
التعليقات لهذا الفصل " 30"