في تلك الليلة.
ما كان في انتظاري عندما عدتُ إلى المنزل، هو خبز بلون أزرق غريب لا أعلم ممّ صُنع، و…
“هاك، تذوّقيه بسرعة يا فيفي.”
كان من صنعه، الخالق المبدع، السيد دياس، والدي.
حدّقتُ بعينين نصف مغمضتين نحو الخبز العجيب الموضوع أمامي، ثمّ نحو أبي، وسألته:
“ما هذا يا أبي؟”
“ماذا تعنين؟ إنه وصفتي الجديدة التي عملتُ عليها لأيام وليالٍ. منتجنا الجديد في المخبز!”
“أعلم أنه خبز، لكن… ما الذي وضعتَه فيه بالضبط؟”
ما الذي يمكن أن يجعل الخبز يتحوّل إلى اللون الأزرق؟
“أضفتُ إليه أعشابًا طبية لا تُزرع إلا في الصيف، وشعرتُ أن الطعم سيكون باهتًا وحده، فأضفتُ بعض الملوّنات.”
…واللون الأزرق تحديدًا؟! وهو لون يُقال إنه يُفقد الشهية!
“الألوان الأخرى مستخدمة بكثرة، ففكّرتُ أن اللون الغريب قد يجعل منه توقيعًا خاصًا لمخبزنا.”
وكأنّك لا تعلم لماذا لم يختر أحدٌ من قبل أن يصنع خبزًا أزرق!
وضعتُ كفّي على جبيني وأنا أنظر إلى أبي الذي بدت عليه مشاعر الترقّب.
‘آه… طالما هو متحمّس إلى هذا الحدّ، يجب أن أتذوّق منه على الأقل، تقديرًا لجهده.’
زفرتُ تنهيدة عميقة، ثم تناولتُ قطعة خبز قطعها لي أبي، ووضعتها في فمي.
“مممم…”
قال إنه صنعه بأعشاب طبيّة… وللأمانة، إن لم تُشْفَ بعد أكله، فسيكون طعمه جريمة.
“ما رأيك؟”
وبينما كنتُ أمضغ الخبز في فمي، نظرتُ إلى أبي الذي كان ينتظر رأيي بعينين متألقتين.
قميصه الأبيض المفكوك من الأعلى، ومريول الأرنب الوردي، لم يُخفِيا وسامته الساحقة.
وبينما كنتُ أتأمّل ملامحه الجميلة من جديد، تذكّرتُ سؤال الدوق في وقتٍ سابق من اليوم:
“هل لدى والدك ما يحبّه أو يملك موهبة فيه؟”
لا أعلم ما الذي يحبّه والدي، لكن يبدو أن لديه موهبة في… وجهه.
‘لو استطاع أن يُطعمنا من جمال وجهه، لما كنا بحاجة إلى هذا الخبز أصلاً.’
وما إن انتهيتُ من تذوّق المنتج الجديد ومن تأمّل وجه أبي، حتى زفرتُ تنهيدة ثقيلة وهززتُ رأسي.
“انتهى الأمر. المخبز لن يكفي بعد الآن.”
“ماذا؟”
“عليك أن تعتمد على وجهك لتعيش، أبي. كأن تكون ممثّلًا مسرحيًّا، مثلًا.”
“فيفي! من أين لكِ هذا الكلام الكبير؟!”
تفاجأ أبي من تقييمي القاسي، ووضع يده على صدره وكأنّه جُرح في كبريائه.
لكن بالنسبة لي، حياتنا أهم من كرامته.
“لذلك، عندما تأتي الزبونات، يجب أن تبتسم لهنّ دائمًا! مفهوم؟”
ثمّ ابتسمتُ له كما لو كنتُ أعطيه نموذجًا لما عليه أن يفعله.
لكن يبدو أنه لم يستوعب الواقع المرّ بعد، إذ بدا مكتئبًا.
‘مممم، ربما كنتُ قاسيةً قليلًا.’
شعرتُ بالندم فجأة، فتناولتُ قطعة أخرى من الخبز الذي لا يُشجّع على الأكل، وغيرتُ الموضوع بخفة:
“أو… ما رأيك، أبي؟ هل تفكّر بالعمل في قصر الدوق؟”
“العمل في قصر الدوق؟”
“في الحقيقة، الدوق قال اليوم إنه يرغب بتوظيفك في القصر، وسألني عن المهارات التي تتقنها.”
“…الدوق نفسه؟”
“نعم! ما رأيك؟”
سألته بعينين تلمعان بالأمل.
كنتُ أعلم أنّه لن يُجيب فورًا، لأن الأمر ليس بسيطًا، لكنّه خالف توقّعاتي.
“لن أعمل في قصر الدوق.”
وأتى الجواب… حاسمًا.
صحيح أنني لم أكن أريد أن يعمل أبي مساعدًا لطاهٍ، لكنّني اعتقدت أنّه لا بأس لو عمل مستخدمًا في أعمال المنزل.
‘أبي لا يُجيد القتال أو الطبخ، لكنّه ماهر في الأعمال المنزلية.’
لذا ظننتُ أنّه سيتقبّل العرض بسهولة… فلماذا؟!
صُدمتُ من الردّ المفاجئ، وسألته مجددًا بفم نصف مفتوح:
“لـ… لماذا؟ لو وافقت، فسنكسب مالًا أكثر، ونعيش في قصر كبير!”
“لكنّي لا أريد ذلك. أن نعيش حياتنا تحت سلطة أحدهم… تلك حياة مملّة، ومخيفة أيضًا.”
كانت نظرة أبي وهو يقول ذلك مختلفة عن المعتاد؛ حادة وغامضة.
لكنه سرعان ما استعاد ابتسامته المرحة المعتادة.
“أنا أفضل العيش مع أميرتي الصغيرة فقط. أهذا يزعجكِ؟”
“آه، أأه؟”
في الواقع، ركوب العربة كلّ يوم ذهابًا وإيابًا للفيلا مرهق قليلًا.
ولو عملنا في القصر، لكانت علاقتنا براشيل أكثر عمقًا تحت سقف واحد.
‘لكن، نحن نتعايش بالفعل بشكل جيّد معها الآن.’
فما من حاجة مُلحّة للعيش هناك.
والأهم من ذلك…
‘طالما أبي رافض بشدّة، فلن أضغط عليه.’
أنا آخر من تبقّى له من العائلة بعد أن قطع علاقته بالباقين لذا أردتُ أن أحترم قراره.
“لا، لا بأس. يكفيني أن أعيش معك يا أبي. ما قلته عن الوظيفة… كان فقط لأنني شعرتُ بأنك تتعب كثيرًا.”
“حقًا؟ أوه، صغيرتي. صرتِ تقلقين بشأن أبيكِ؟ لقد كبرتِ كثيرًا!”
قال ذلك وهو يربّت على رأسي بعطف.
“لم تتناولي العشاء بعد، صحيح؟ حضرتُ لكِ حساءً. هل نأكل الآن؟”
“ما هو العشاء اليوم؟”
“بقيت أعشاب من صنع الخبز، فأضفتُها إلى الحساء!”
أعشاب… في الحساء أيضًا؟
بدا وكأنّه كان ينتظر سؤالي، فبادر إلى تقديم العشاء على الطاولة.
وكما كنتُ أخشى، كان الحساء مليئًا بالأعشاب.
أخذتُ منه ملعقة تحت نظراته المتوقعة…
وكان الطعم تمامًا كما ظننت غير لذيذ.
‘لكنني فتاة ناضجة تُدرك تعب من طبخ لها…’
أقنعتُ نفسي بأنّ هذا الحساء سيمنحني الصحّة، وبدأتُ الأكل.
بينما كنتُ آكل، نظر إليّ أبي برضى، ثمّ سأل فجأة:
“ما الذي تعلّمتِه اليوم؟”
منذ أن بدأتُ حضور الدروس مع راشيل، صار هذا السؤال من طقوس العشاء اليومية.
“أخذنا اليوم درسًا في التاريخ.”
“هممم؟ يبدو أن أميرتي الصغيرة مهتمة بالتاريخ؟ هذه ليست أول مرة تذكُرينه.”
“نعم! التاريخ ممتع! قصص الناس القدامى!”
بالنسبة لي، بما أنّ لديّ ذكريات من حياتي السابقة، فكتب التاريخ تبدو كالروايات تقريبًا.
“إلى أيّ مدى وصلتم؟ ما أكثر ما شدّكِ اليوم؟”
“أمممم…”
أثناء مضغ طعامي وتذكّر ما دار في الدرس، خطر في بالي اسم فهتفت:
“داين لوثسويد!”
“بففف!”
فجأة، رشّ أبي الماء من فمه.
“هييي! أبي! ما بك؟ هل أنت بخير؟”
“كح، كح… لا بأس، لا بأس… كح، كح…”
“اشرب ماء! خذ!”
اقتربتُ منه وأنا أربّت على ظهره وأعطيتُه كأس ماء آخر.
وبعد أن شرب رشفة إضافية، هدأ أخيرًا.
“فجأة أصابني شيء في حلقي، هاها…”
“هل أصبحتَ بخير الآن؟”
“نعم، بفضلك. لكن… داين؟ أليس هذا شخصًا معاصرًا؟ ألم تدرسي بعد التاريخ الحديث؟”
“لا،
لم نصل إلى هناك بعد. لكن حين تحدّثنا اليوم عن عشيرة الماو، أشار أستاذنا إليه سريعًا. لكن… هل تعرفه يا أبي؟”
وعند سؤالي، تهرّب أبي من نظرتي وأجاب بتردّد:
“هم؟ أآه… نعم، بالطبع. إنه معروف.”
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
التعليقات لهذا الفصل " 29"
هو باباها خلاص عرفناه😂☝🏻