في اليوم التالي، زارت فيفيان الدفيئة برفقة كلٍ من كاليز وراشيل.
كانت هناك شاهد قبر نُصبت في زاوية هادئة تنفذ إليها الشمس جيدًا.
نُقش عليها:
<إيسيلّا ادلبين>.
تركت فيفيان يد راشيل للحظة، ثم أخرجت زهرةً مصنوعة من الورق من حقيبتها.
كانت قد جمعتها وأعدّتها بالأمس، رغم محاولة راشيل نهيها عن ذلك.
عندما تركت يدها، توقفت راشيل قليلًا، لكنها انتظرت بصمت.
أما كاليز، فتأمل فيفيان وهي تضع الزهرة بعناية وتثبتها بحجر حتى لا تطير مع الريح.
كانت نفس الزهرة التي كانت تحبها إيسيلّا، والتي صنعت بها يومًا تاجًا من الزهور له.
لم يخبر فيفيان بذلك من قبل، لذا لا شك أن راشيل هي من أخبرتها.
وطفلةٌ تتذكر الزهرة التي كانت تحبها أمها، لا بد أنها أرادت زيارة قبرها.
شعر كاليز بخيبة مريرة حين أدرك ذلك متأخرًا.
ثم غيّر الموضوع وسأل فيفيان:
“هل تعرفين كيف تكرّمين الراحلين؟”
“نعم. أفعل ذلك في كل مرة أصلّي فيها لأمي.”
أومأت برأسها، وضمّت يديها الصغيرتين معًا كمثال.
“جيد، افعلي كما اعتدتِ.”
وعندما انحنى كاليز برأسه، تبعته فيفيان، ثم فعلت راشيل بالمثل.
هبت رياح الربيع، فاهتزت أوراق الشجر بلطف.
وعندما التفتت راشيل لا إراديًا، تلاقت عيناها بعيني كاليز.
وفي تلك اللحظة، تذكّرت دموع جدّها في جنازة إيسيلّا، واهتز قلبها بقوة.
خفض رأسه بسرعة، لكن صوته سبقه:
“راشيل.”
ثم لحقه صدى صوتٍ قديم:
“من أجل إنقاذه، يا إيسيلّا… فعلتِ هذا…!”
ارتجف قلبه، وضاق تنفّسه.
أراد الهرب، لكن لم يستطع.
لأن فيفيان كانت تمسك يده برفق. لم تكن قادرا على تركها والفرار.
قال كاليز بصوت هادئ:
“أمّك كانت ستفرح برؤيتك هكذا.”
لكن ما سمعته راشيل لم يكن الغضب أو الحزن الثقيل الذي كانت تتخيله دومًا،
بل كان… شوقًا عميقًا.
“لو كنت أعلم، لأحضرتك إلي هنا من قبل.”
زاد الشوق عمقًا حين تلاقت أعينهما.
راشيل نظرت إلى كاليز وهو يمسح بلطف شاهد قبر أمها، كما لو كان يربّت على رأس طفلة.
قال:
“كنت أظنّك تخافينني. لكن… كانت تلك مجرّد حجة جبانة.”
“……”
“في الحقيقة، أنا من لم يملك الشجاعة لمواجهتك.
كلما رأيتك، شعرت أني أنا من قتلت أمّك.”
تلألأت عيناه بألمٍ مفعم بالندم واللوم الذاتي،
لكن لم يكن فيهما أي غضب أو استياء.
حين رأت راشيل تلك النظرة، أدركت لأول مرة كم هي تشبه جدّها.
العينان الزرقاوان اللتان تغمرهما الحزن.
“ندمت طوال حياتي… على أني تركت أمّك تذهب هكذا.”
“……”
“لكني الآن فقط، أدركت أن هذا الندم جاء متأخرًا.
وأنني، حين تمرّ هذه اللحظة… سأندم مجددًا.”
توقف يده عن مسح الشاهد، ثم التفت نحو راشيل وأكمل:
“ما كان يجب أن أتركك وحيدة تحت وطأة مشاعري آنذاك.”
“……”
“أنا آسف.”
عند سماع تلك الكلمات، اضطربت عينا راشيل كأمواج عنيفة.
حتى صوت كاليز المرتجف وشفتيه المتلعثمتين عكسا مشاعره.
وبعد أن حاول مرارًا، استطاع أخيرًا أن يتمّ كلماته:
“جدّك كان غبيًا… وأدرك الحقيقة متأخرًا جدًا.”
وأمام صدق جدّها الذي واجهته أخيرًا، لم تعد راشيل تعرف كيف تتصرف.
‘هل كنت أريد سماع هذه الكلمات؟ أم أني أشعر بالغضب؟ أم ربما…؟’
لم تكن تعرف.
كل ما عرفته هو أن حلقها كان يؤلمها.
أدارت راشيل ظهرها لتتجنب مشاعرها المتدفقة،
ثم ركضت مبتعدة، وكأنها تهرب.
تابعها كاليز بنظرات حزينة، لكنه لم ينادها.
ومن بقي إلى جانبه، كانت فيفيان.
قالت له:
“لا أعتقد أن سموّ الآميرة تكرهك، يا دوق.
إنها فقط تشعر بالإحراج، مثلما يحدث عندما اتصالح مع أبي بعد خصام.”
“……”
“لكن لأن حزنها كان عميقًا وطويلًا، ستحتاج وقتًا أطول للتعافي.”
“……”
“ومع ذلك… ستنتظرها، صحيح؟”
كانت نظرة الطفلة الذهبية له، وكأنها تمسح على قلبه.
ضحك كاليز بخفة وأومأ:
“بالطبع.”
حتى لو طال الانتظار أكثر مما انتظرت هي، فهو مستعد.
عندها، ابتسمت فيفيان ابتسامة مشرقة:
“إذن، سأنتظر معك!”
“معي؟”
“آه، لكن أولًا، يجب أن أذهب إلى راشيل… أقصد، سموّ الآميرة.”
أشارت إلى الاتجاه الذي ركضت نحوه راشيل، وطلبت إذنه.
وحين أومأ برأسه، انطلقت بسرعة بخطواتها الصغيرة.
ولوّحت له وهي تبتعد، بشعرها الوردي يتطاير في الهواء،
تاركةً نظرة كاليز صافية كبحيرة في ظهيرة هادئة.
قال بصوت خافت:
“إيسيلّا… عيشي بسلام.”
فهو يشعر أخيرًا أنه يستطيع العيش في حاضرٍ خالٍ منها، متجاوزًا ماضيه الذي لا يمكن تغييره.
بل إنه أصبح يتطلّع إلى مستقبل الطفل الذي تركته خلفها.
“ونحن… سنكون بخير.”
ثم خطا خطوته الأولى متأخرًا، في الطريق الذي سبقه عليه الأطفال.
*
**
بينما كانت تبحث عن راشيل في أرجاء القصر، لمحت فيفيان ظلًّا مألوفًا في المكتبة.
كانت راشيل جالسة بين الرفوف، منكمشة على نفسها.
“كنتِ هنا؟”
اقتربت منها دون أن تخفي صوت خطواتها، وجلست بجانبها.
لم ترفع راشيل رأسها، لكنها أيضًا لم تبتعد.
راقبتها فيفيان للحظة، ثم سألت بلطف:
“راشيل، هل ذهبتِ لأنك شعرتِ بالإحراج؟”
“……”
“أم أنكِ ما زلتِ غاضبة من الدوق؟”
لم تجب راشيل، ولم تظهر أي رد فعل.
كانت مشاعرها تختنق داخلها، ولم ترد أن يرى أحد هذه الفوضى.
لكن فيفيان لم تستسلم.
“أنا فقط… أريد أن أعرف شعورك يا راشيل.”
“……”
“لأنني لا أعرفه، لا أعرف أيضًا ماذا عليّ أن أقول لك.”
رغبتها الصادقة في فهم مشاعر راشيل، حتى وهي لا تعرف كيف، بدت جليّة في صوتها الهادئ.
عندها، تذكّرت راشيل شيئًا كانت فيفيان قد قالته لها ذات يوم:
“الأصدقاء الحقيقيون يشاركون مشاعرهم.
عندما يكون أحدهم حزينًا، يواسيه الآخر،
وعندما يغضب، يدعمه،
حتى أسرارهم، يشاركونها.
وهكذا يصبحون أقرب.”
حتى لو كانت مشاعرها غير واضحة، مشوشة، مربكة…
ربما، أنتِ فقط من يمكنه أن يفهمني.
وبينما كانت تتردد وتهمس بشفتيها، رفعت رأسها أخيرًا.
“……أنا نفسي لا أعرف.”
لا تعرف إن كانت فرحة، أو حزينة.
ولا تعرف ما الذي تريده من جدّها.
رأت فيفيان في عينيها الحائرة، فرمشت سريعًا بدهشة، ثم جلست بجوارها بالطريقة نفسها، وهمست.
“حين تعرفين ما تشعرين به، سأكون هنا إلى جانبك.”
“……”
“إن بكيتِ، سأواسيك،
وإن ضحكتِ، سأضحك معك،
وإن غضبتِ، سأغضب معك.”
“……”
“لأنني… في صفك.”
وفي تلك اللحظة
، لمعت عيناها الكهرمانيتان تحت ضوء الشمس،
كأنهما أغلى من كل الجواهر.
وفي المقابل، بدأت تموجات الحزن في عيني راشيل تهدأ شيئًا فشيئًا.
ورغم اضطرابها، كان متأكدا من شيءٍ واحد.
أنه… يحب تلك العينين المشرقتين الموجهتين نحوه،
حبًا كبيرًا.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 26"