لمعت نظرة غريبة في عيني سالي والمربية حين رأتا ذلك.
وعند رؤيتهما، فقط أدركت الأمر.
‘لقد نصبن لي فخًا لطردي…!’
ما السبب في كل هذا؟ لماذا يقمن بهذا الحدّ؟
اجتاحتني مشاعر الغضب، لكنّ الانفعال لن يغيّر شيئًا.
الأهم من ذلك هو―
‘هل ستُصدّقني راشيل…؟’
رغم أنني أصبحت قريبة منها في الفترة الأخيرة، فإن هذا ما يجعل الأمر أكثر خطورة.
قد تظن أنني استغليت ثقتها لأجعلها مطمئنّة، ثمّ ارتكبت هذا الفعل.
وفوق كلّ ذلك…
كنتُ أنا من اقترحت على راشيل أن نذهب إلى الرواق، وأنا من طلبتُ منها المساعدة في البحث عن الكتب في المكتبة.
“أرأيتم؟ لقد كانت تسرقها بالفعل!”
صرخت سالي وهي ترفع دبوس شعر راشيل عاليًا، وكأنّها تتعمّد أن يسمع الجميع من الخدم المارّين.
“وهذه القصاصات من الورق، ما قصّتها؟ ألَم تكن جزءًا من خطّة إخفاء الدبوس منذ البداية؟”
“لم أكن أظنّك هكذا يا فيفيان… اتّضح أنّك فتاة ماكرة.”
بدأت سالي، بل حتى المربية، بالصراخ عليّ بصوتٍ عالٍ وهما تتعاونان ضدي، مما جذب أنظار الخدم من حولنا.
نبض قلبي تسارع وسط الهمهمات، وذهني أصبح أبيضَ من شدّة التوتّر.
‘تماسكي. فكّري بهدوء في طريقة تثبتين بها براءتك…’
وبينما كنت أحاول أن أتمسّك بهدوئي، دوّى صوتٌ مألوف من خلفي:
“ما كلّ هذه الضوضاء؟”
مع ظهور الدوق، خيّم الصمت على المكان فجأة، وسارع الجميع إلى الوقوف بأدب.
“فخامتك.”
“مارغريت، لأيّ سبب تؤدّبين هذه الطفلة؟”
“لقد خرجت منذ قليل من الغرفة برفقة الآنسة، ثمّ عادت وحدها واتُّهمت بسرقة أغراضها، فكنت أستجوبها…”
“هل لديكم دليل؟ لا تظنّين أنني سأقبل بأن تتّهموا طفلة فقط بناءً على الشبهات، أليس كذلك؟”
“ها هو! لقد وجدنا دبوس الآنسة في حقيبتها!”
هرعت سالي وقدّمت دبوس راشيل إلى الدوق، متلهفة.
تبادل الدوق النظر بين الدبوس وبيني بعينيه الباردتين، ثمّ سأل.
“فيفيان، هل سرقته حقًا؟”
لكنّ سالي قاطعته بصوتٍ عالٍ:
“لقد رأيتُها، فخامتك! انظروا، لقد حاولت إخفاءه بين هذه القصاصات، وكانت تخطّط لذلك منذ البداية―”
“سالي.”
قاطعها الدوق بصوتٍ صارم.
نطق باسمها فقط، لكنّ الهيبة التي حملها صوته كانت كفيلة بأن تجعلها تصمت.
“لقد سألتُ فيفيان.”
ثمّ وجّه نظره إليّ، منتظرًا إجابتي.
لكن…
‘مهما فكّرت، لا أجد طريقةً لإثبات براءتي.’
لن يكون لديّ سوى أن أعبّر عن مظلمتي بالكلام، وأن أقول إنني لم أفعلها.
“أنا…”
حين فتحت فمي لأقول ذلك، ولأدافع عن نفسي…
“أنا من أعطيتها إيّاه.”
راشيل أمسكت يدي بقوّة ووقفت بيني وبين الدوق.
وكأنها تحميني منه.
حدّقت فيها من الخلف بعينين مذهولتين.
‘راشيل… دافعت عني أمام الدوق؟’
حينها، تذكّرت فجأة ما قالته لي قبل قليل.
“جدّي لن يُسرّ بذلك.”
راشيل كانت تخشى جدّها إلى حدّ أنها لم تكن تجرؤ على التحدّث إليه.
ومع ذلك، ها هي الآن تقف لحمايتي.
آمنت بي.
“لم أكن أعلم أنّه يجب عليّ أخذ إذن المربية كلّما أردتُ أن أُهدي صديقتي شيئًا يخصّني.”
قالت راشيل ببرود وهي تحدّق في سالي والمربية.
لم تكن ردة فعلهما أقلّ دهشة منّي، فقد كانت هذه أوّل مرّة تُظهر فيها راشيل عداءً واضحًا نحوهما.
لكن المربية، وبعد لحظة من الارتباك، استعادت هدوءها وبدأت بالكلام بنبرة هادئة.
“آنستي، ليس من صفات الصديقة الحقيقية أن تتستّر على أخطاء صديقتها. الصديق الحقيقي هو من يوجّهها إلى الصواب.”
“والصديق الحقيقي أيضًا… هو من يؤمن بصديقه ويساعده إن تعرّض لظلم.”
ردّت راشيل بثقة.
وقد بدا صوتها مألوفًا بشكل كبير.
بالطبع، فقد كانت تكرّر كلامي.
“إن تعرّض صديقك للظلم، لا تهربي، بل آمني به وساعديه.”
هكذا قلتُ لها يومًا حين وعدتُ أن أكون في صفّها دائمًا.
والآن، راشيل تردّ لي ذلك الجميل، وتُعيد عليّ كلامي لتدافع عنّي.
حينها فقط أدركتُ…
‘ظننتُ أنني بكسب راشيل قد حصلت على حليفٍ مطلق في صفي…’
لكنني، في الحقيقة، كنتُ أنا من كسبت حليفًا يؤمن بي في كلّ الظروف.
“إذًا، ماذا عن كلّ هذا؟ لماذا كانت هذه الأشياء في حقيبتك؟”
تردّدت المربية للحظة في مواجهة كلمات راشيل، فصاحت سالي وهي تركل الأزهار الورقيّة المتناثرة على الأرض.
“أجِيبي! لماذا تخبّئين هذه في حقيبتك؟!”
نظرتُ إلى راشيل والدوق، متردّدة.
‘أنا من اقترحت على راشيل أن نقدّم الزهور لوالدتها…’
لكنّ راشيل لم تكن ترغب بأن يعرف الدوق ذلك.
رغم أنّني لا أعلم السبب، إلّا أنّني رغبت بشدّة في الحفاظ على هذا السرّ من أجلها.
كنتُ على وشك ابتكار عذرٍ مقنع، لولا أن راشيل سبقتني وقالت:
“كنّا نصنع زهورًا لنهديها إلى والدتي. وقد وضعتُها في الحقيبة حتى نأخذها إلى الرواق خِفية.”
ارتفع حاجب الدوق وهو يستمع إلى إجابتها الصادقة.
“اليوم؟ ولمَ ليس غدًا؟”
نظرت راشيل نحوه للحظة، ثمّ خفضت عينيها وأجابت بصوتٍ خافت.
“لأنني شعرت أنّ فخامتك… لن تُسرّ بذلك.”
ارتجف بصر الدوق للحظة، وهو ينظر إلى الزهور الورقيّة المبعثرة بين قدميه.
سادت لحظة من الصمت، ثمّ تحدّث كبير الخدم وهو يسارع بتنظيم الوضع.
“يبدو أنّ براءة الآنسة فيفيان قد ثبتت الآن. فلنعد جميعًا إلى أعمالنا.”
بدأ الخدم المتجمّعون بالتفرّق.
أما سالي والمربية، فقد ظلّتا ترمقانني بنظرات حاقدة، بعد أن فشل مخطّطهما.
لكن كبير الخدم قال لسالي بصوتٍ لطيف وحازم.
“سالي، بما أنكِ كنتِ على وشك أن تتّهمي فيفيان زورًا، فعليكِ أن تعتذري لها كما ينبغي.”
لكن سالي تجاهلت كلامه، واستدارت وهربت بعيدًا.
“سالي!”
تبعتها المربية وكأنها تلحق بها، لكنها في الحقيقة كانت تهرب من الموقف أيضًا.
أطلقتُ سخرية خفيفة من أنفي.
‘لو كانتا من النوع الذي يعتذر، لما اتّهمتاني أصلًا.’
وبعد أن انفضّ الجمع، لم يبقَ في الممرّ سوى راشيل، وأنا، والدوق، وكبير الخدم.
نظرتُ إلى الدوق خلسة.
كان يحدّق في راشيل بعينين مليئتين بالقلق.
‘راشيل كانت لا تريد أن يعلم بأنّها تحيي ذكرى والدتها… هل سيغضب منها الآن؟’
إن فعل، فسأكون أنا من يقف إلى جانب راشيل هذه المرّة!
بينما كنت أستعدّ لفعل ذلك، أمسكت راشيل يدي وسحبتني بعيدًا.
“لنذهب. لقد تأخّرتِ في العودة إلى المنزل.”
“آه؟ آه… نعم.”
كنتُ لا أزال أنظر إلى الدوق وراشيل بالتناوب، حين شعرت بشيء تحت قدمي.
نظرتُ إلى الأرض، كما فعل كلّ من راشيل والدوق أيضًا.
كانت الزهور الورقيّة التي صنعناها لأجل والدتها، قد تمزّقت وسُحقت تحت الأقدام.
جثوتُ على الأرض وبدأت أجمع ما بقي منها صالحًا.
لكن راشيل أمسكت بكتفي.
“…ما الذي تفعلينه الآن؟”
“لقد وعدنا بأن نقدّمها لوالدتكِ. حتّى لو كانت بعض القطع سليمة فقط―”
“لا داعي لذلك. لنذهب فقط.”
جذبتني راشيل بقوّة، وكأنّها تريد الهرب من هذا الموقف بأيّ شكل.
سقطت الزهور مجددًا من يدي، وشعرت بغصّة حارقة في صدري.
وكأنّ مشاعر راشيل قد دُهست تحت الأقدام.
‘مشاعر راشيل ليست بهذا الضعف.’
مع كلّ زهرة، تذكّرت القصص التي روتها لي عن والدتها ونحن نصنعها.
‘حين كانت تتكلّم عن أمّها… بدت سعيدة.’
بعكس ملامحها الباردة المعتادة، كانت وقتها مجرّد فتاة عادية في مثل سنّي.
‘لا يمكنني السماح بأن يُداس على تلك المشاعر وتلك الذكريات.’
كنتُ على وشك تحرير يدي من قبضة راشيل لأجمع الزهور من جديد، لكنّ صوت الدوق دوّى فجأة:
“…راشيل.”
توقّف يد راشيل في منتصف الطريق، وقد كانت تحاول أن تنهض
بي.
“هل… تذهبين معي غدًا إلى الرواق؟”
لم تلتفت راشيل إلى الدوق، لكنني رأيت ذلك بعينيّ.
رأيت عينيه اللتين تشبهان عينيها تمامًا، وهما تغرقان في حزنٍ عميق كالبحر.
ثمّ وجّه إليّ نظرة تحمل أمرًا، في صورة طلب.
“وأنتِ أيضًا، فيفيان.”
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 25"