“إذًا، نلتقي بعد غدٍ، راشيل.”
كان ذلك في اليوم السابق لذكرى وفاة إيسيلّا.
كانت فيفيان، كالعادة، تلعب مع راشيل في غرفتها لعبة الألغاز، حين سمعت دقّات ساعة الحائط تعلن حلول الوقت، فنهضت من مكانها.
عندها عبست راشيل قليلًا وسألت:
“لماذا بعد غدٍ؟ وماذا عن الغد؟”
“أليس غدًا ذكرى وفاة والدتكِ؟ ألا تُقيمون طقسًا تذكاريًا أو ما شابه؟”
رغم أنّ قبر إيسيلّا ليس في هذه المدينة، فقد سمعت فيفيان أنّ النبلاء يخصّصون مكانًا لتكريم الراحلين في كلّ منزل من منازلهم.
كي يتمكّنوا من إحياء ذكراهم في أيّ مكان.
‘بالنظر إلى أنّ الدوق تحدّث مؤخرًا عن والدة راشيل، فلا أظنّها ستتجاهل يوم الغد ببساطة.’
لكنّ الجواب الذي تلقّته خالف توقّعاتها تمامًا.
“……أنا لا أفعل شيئًا كهذا.”
“لماذا؟”
“…….”
لم تجب راشيل.
نظرت إليها فيفيان بتمعّن وسألتها بحذر:
“هل كانت علاقتكِ بوالدتكِ سيئة؟”
بالنظر إلى ما سمعته من كالتز، بدت والدة راشيل شخصًا طيّبًا……
‘لكنّ كونها كانت ابنة صالحة في نظر الدوق، لا يعني بالضرورة أنّها كانت أمًّا جيّدة لراشيل.’
وإن كانت راشيل تشعر بعدم الراحة، فقد قرّرت ألّا تثير هذا الموضوع مجدّدًا.
“إن كان الأمر كذلك، فلن أذكر أمّكِ بعد الآن. لا أرغب في قول ما قد يجرح صديقتي.”
“……ليس الأمر هكذا.”
“إذًا، ما السبب؟”
تردّدت راشيل لبرهة قبل أن تفتح شفتيها أخيرًا.
“أعتقد أنّ جدّي لن يرضى عني إن فعلت.”
“ولمَ تظنّين ذلك؟ من الطبيعي أن تفتقد الابنة أمّها وتُحيي ذكراها.”
حرّكت راشيل شفتيها كما لو كانت ستردّ، لكنها لم تستطع النطق بشيء.
بسبب ذكرى هجمت عليها فجأة.
“لو لا ذلك الرجل… لما كنتِ تعانين الآن، ولا أصبتِ بتلك العلّة.”
“……أبي.”
“لقد جازفتِ بحياتكِ لإنقاذه، إيسيلّا… لقد…!”
في اليوم الذي جاء فيه مع والدتها إلى قصر الدوق، صادف أن سمع بكاء جدّها الخافت.
حينها، كان صغيرا جدًّا لدرجة انه لم يفهم فيها حتى مفهوم الموت، فلم تستوعب معنى ذلك البكاء.
لكنّه فهم كلّ شيء يوم جنازة والدتها.
عرف عندها ما يعنيه الموت، وما الذي كان يعنيه بكاء جدّها.
‘أنا السبب في موت أمّي.’
لذلك، لم يزر إيسيلّا في ذكرى وفاتها.
خشى أن يواجه بكاء الجدّ ذاته، هذه المرّة دون القدرة على الهروب منه.
رغم أنّه كان يكرهه لأنه يلومها، إلّا أنّه كان يشعر نحوه في الوقت نفسه بندم خانق لا يُحتمل.
لكن…
“إذًا راشيل، فقط كوني صادقة معي في شيء واحد. هل تشتاقين إلى أمّكِ؟”
لم يكن ثِقل الذنب يعني أنّها لا تشتاق إلى والدتها.
كانت تخشى فقط أن تواجه حزن جدّها، وخطاياها الخاصّة.
ولأوّل مرّة، أفرغت راشيل قلبها من صدقٍ لم تُفصح به لأحد.
“……في الحقيقة، نعم، أشتاق إليها.”
كيف لا يشتاق؟
إنّها أوّل من أحبّها حين جاءت إلى هذا العالم.
رغم أنّهم عاشوا في بيتٍ قديمٍ بارد تتسلّل منه الريح، إلّا أنّها كانت أمًّا حنونًا عرّفته على معنى الحب بكلّ كيانه.
كانت يومًا كلّ عالمه الصغير……
وحين نطق تلك المشاعر التي كان يخبّئها حتى عن نفسه، بدأت تتجسّد في قلبه.
اشتاق إليها.
وحنّ إليها. بشدّة.
عندها عرضت عليه فيفيان اقتراحًا.
“إذًا، فلنذهب معًا لرؤيتها.”
اتّسعت عينا راشيل.
“كيف؟”
“أليس هناك لوحة لوالدتكِ في الفيلا؟”
“بلى.”
“هل تعرفين أين هي؟”
“أعتقد أنّها في الطابق الرابع.”
“إذًا نذهب سويًّا إلى هناك اليوم. بما أنّ الدوق سيُقيم الطقس غدًا، فلن يلاحظ أحد إن ذهبنا خلسة اليوم، أليس كذلك؟”
كان مكان تخليد الراحلة في حديقة الفيلا الخلفيّة، لذا من المحتمل أن يكون الدوق والخدم مشغولين بالإعداد له ولا يهتمّون بالممرّ الذي تُعلّق فيه اللوحة.
خطة مغرية حقًا.
“ما رأيكِ، راشيل؟ هل نذهب معًا إلى الممرّ؟”
نظرت راشيل إلى فيفيان بدهشة قبل أن تبتسم بلطف.
كانت هذه الفتاة دومًا تجد الحلول.
بطريقةٍ عجيبة.
وفي صمت تلك الابتسامة، قرأت فيفيان موافقتها، ثم وقعت في حيرة جديدة.
“هممم، لكن عندما نزور الراحلة، علينا أن نحمل الزهور.”
عندها تذكّرت راشيل شيئًا.
“أمّي كانت تحبّ زهرةً معيّنة.”
“أوه! أيّ زهرة؟”
“زهرة ماركا. هي زهرة لا تنمو إلّا في الشمال… لا تنبت هنا.”
كانت تلك الزهرة تتفتّح كل عام في مثل هذا الوقت في الشمال.
لكن بسبب اعتدال الطقس في هذه البلدة، لم يكن من الممكن العثور عليها.
وحين كانت راشيل على وشك الاستسلام، صاحت فيفيان بحماس.
“إذًا، لنصنعها بأنفسنا!”
“……الزهرة؟”
لم تصدّق راشيل أذنيها.
أتقترح صنع زهرة؟
لكنّ فيفيان هزّت رأسها بثقة، وكأنّ لديها فكرة أخرى تمامًا.
“نعم. هل تستطيعين وصف شكلها لي؟”
وللمرّة الثانية، قرّرت راشيل أن تثق بها.
تلك الفتاة التي تجد دومًا الحل.
***
“إذًا أراكِ لاحقًا!”
افترقت فيفيان وراشيل أمام باب الغرفة.
ذهبت راشيل إلى المكتبة بحثًا عن كتاب يحتوي على رسمٍ لزهرة ماركا،
وذهبت فيفيان لاستكشاف الرواق الذي ستزيّنه بتلك الزهرة لاحقًا.
وحين اختفيا، ظهرت سالي من زاوية الممرّ حيث كانت مختبئة.
‘لا أعرف ما الذي تفعلانه، لكن… الآن هي فرصتي.’
انتهى أمركِ يا فيفيان.
وبعد أن اختفى صوت خطوات الأطفال تمامًا، دخلت سالي الغرفة بابتسامة تنذر بشيء خبيث.
ثمّ أُغلق الباب بهدوء خلفها.
***
“انتهيت!”
رفعتُ الزهرة المصنوعة من الورق.
كنت قلقة من أن تبدو سيئة، لكنّها خرجت أفضل ممّا توقّعت.
“لننطلق الآن؟”
أومأت راشيل برأسها.
وضعتُ الزهرة في حقيبتي وخرجتُ مع راشيل من الغرفة.
كنا نحاول الصعود إلى الطابق الأعلى دون أن يرانا أحد من الخدم، حين…
“فيفيان، هل يمكننا التحدّث قليلًا؟”
وقفت المربية في طريقنا، وإلى جانبها سالي بابتسامتها المتعجرفة التي أقلقتني.
“ما الأمر، سيّدتي؟”
وكالعادة، لا يخيب الظنّ أبدًا عندما تشعر بشيء سيّء.
سألت سالي فجأة:
“أنتِ… سرقتِ شيئًا من الاميرة راشيل، أليس كذلك؟”
“……ماذا؟”
وقبل أن أتمكّن من الردّ، عبست راشيل وقالت باستياء.
“فيفيان كانت معي طوال الوقت. لم تتصرّف بغرابة أبدًا.”
“لا، لقد خرجتما معًا من الغرفة ثمّ افترقتما. وعادت هي خلسة إلى الغرفة بمفردها.”
رمشتُ بدهشة. لم أعد إلى الغرفة لوحدي إطلاقًا.
بمعنى آخر، سالي كانت تكذب علنًا.
أجبتها بهدوء:
“لم أعد إلى الغرفة. عندما عدت، كانت الاميرة قد عادت قبلي.”
“هل هناك من رأى أنكِ كنتِ في مكان آخر في ذلك الوقت؟”
عند تلك الكلمات، عقد لساني.
‘لا أحد يستطيع إثبات أنني كنت في الطابق الرابع وقتها.’
فهو مكان قليل ما يُستخدم، وتسلّلت إليه خلسة كي لا يُكتشف ذهابي إلى الممرّ.
أحسست بالارتباك للحظة، ثمّ سرعان ما تداركت نفسي وأشرت إلى ثغرة في حجّتها:
“ليس عليّ إثبات براءتي، بل عليكِ أنتِ إثبات إدانتي. هل لديكِ دليل؟”
“الحقيبة.”
أشارت سالي إلى الحقيبة التي كنتُ أحملها كما لو كانت تنتظر اللحظة.
“افتحي الحقيبة.”
ارتبكت.
‘لم أتحقّق من محتوياتها بعد أن وضعت الزهرة…’
وكانت الزهرة الورقية التي صنعناها معًا داخلها.
‘إن رآها أحد، سأضطر لشرح كل شيء، وسينكشف أمر خطّتنا للذهاب سرًّا إلى الممرّ.’
وبينما كنت أتردّد عاجزة، اندفعت سالي فجأة وخطفت الحقيبة
منّي بعنف.
“إن كنتِ بريئة، فلا بأس أن تريها للجميع، أليس كذلك؟”
ثمّ قلبت الحقيبة لتُفرغ كل ما فيها.
“ما الذي تفعلينه؟!”
حاولت منعها، لكن بعد فوات الأوان. كانت الزهور الورقية قد تناثرت على الأرض.
ومن بينها…
تدحرجت مشبكة شعر يُحتمل أن تكون لراشيل.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 24"