لعلّ السبب كان صفاء الجو.
أو لعلّه في تلك اللحظة العابرة، كان لوهج الشمس المُنعكس في عيني الطفلة الذهبيّتين بريقٌ استثنائي جعل ما لم يُروَى قط يُشارف الظهور.
“هل تُوجد حياة بلا ندم؟”
تمتم كالتساؤل، وكأنه يُلقي بصوت أفكاره في الفراغ.
“لا بد أنكِ تعلمين أن لي ابنة.”
“تقصد والدة الآميرة؟”
“أجل، تلك الطفلة.”
عند ذكره لإيسيلّا، اختفى ما اعتاد أن يُرعب الحاضرين في وجه كالتز، وكأنه تلاشى، وحلّ مكانه هدوء غريب.
“رغم أنها فقدت والدتها باكرًا، إلا أنها كانت تهتم بي أكثر مما اهتممت أنا بها.”
كان يحدّق في الطفلة الجالسة أمامه بغير وعي، إلى أن توقّف فجأة.
ربما لأن وضعها يُشبه وضع إيسيلّا كثيرًا، أو لأن تعابيرها بدت مألوفة، إذ بدت صورة ابنته الصغيرة تطفو على ملامح فيفيان.
ذلك الوجه الذي بدأ يتلاشى من ذاكرته شيئًا فشيئًا.
ابتسم كالتز بمرارة قبل أن يُتابع:
“كانت طفلة ثمينة للغاية، أردت أن أهديها أندر ما في العالم.”
أراد أن يمنح ابنته، التي كانت كل شيء بالنسبة له، مكانة وليّة العهد.
ولتحقيق ذلك، ساند أورفين.
ولكن…
“إلا أن ما كانت ترغب به ليس الأشياء الفاخرة الجميلة، بل تلك البسيطة العادية، دائمًا.”
إيسيلّا لم تُرد أورفين الذي يمنحها العرش، بل أحبّت ليوبريد.
“وأنا… أنا من منحها بقوة ما اعتقدت أنه الأفضل لها. كنت أظن أن ذلك هو الحب… ويا له من غباء.”
سَعى لإعطائها على لقب وليّة العهد، ولم يكن يعلم حينها أن جنينًا يحمل دماء ليوبريد كان ينمو في أحشائها.
ولأجل تلك المكانة، تغاضى كالتز عن مقتل ليوبريد.
“ورغم أني كنت ذلك الأب الذي لم يحترم إرادتها، كانت لا تزال تدعوني أبي، إلى أن رحلت لتحمي ذلك الشئ البسيط الذي تحبه .”
وفي نهاية المطاف، حصل على المكانة التي أرادها لابنته، لكنه خسرها هي.
‘لماذا قضيت حياتي كلّها في صراع؟’
‘لأجل من؟’
بدايةً كان ثقل الندم لا يُحتمل، ثم تبعه وجع الفقد.
وفي النهاية، فهم الحقيقة.
أنه لم يكن يعيش من أجل إيسيلّا، بل من أجل جشعه هو.
ولو كان قد قضى بقية عمره يندب فراقها فحسب، لربما كان ذلك أكثر رحمة.
“حتى جاء يوم… عادت فيه إليّ. لكنها كانت مريضة… مرضًا لعي•نًا.”
وعندما عادت، لم تكن وحدها.
كانت تحمل حفيده… حفيدًا لم يكن يعلم بوجوده، ولدًا دون أب.
ابنٌ لأب أُعدم بتهمة الخيانة، وأم أُنهكت روحها وجسدها لحمايته.
عندها فقط، أدرك فظاعة ما ارتكبه.
وظلّ، منذ ذلك اليوم، كلما تذكّر عودتها، يخنقه الألم، حتى وإن لم يقل شيئًا.
“لو أنني احترمت رغبتها… هل كانت ستفرّ مني بذلك الشكل؟”
“……”
“هل كان ذلك المرض سيتجنّبها؟ هل كانت ستعيش؟”
“……”
“ما زلت… أندم على ذلك اليوم.”
كان ندمًا طاغيًا، يُثقل أنفاسه في كل لحظة من حياته.
عندما أنهى حديثه، تكلّمت فيفيان بعد صمتٍ طويل، بصوتٍ حذر:
“طبعًا، عندما أجبرها دوقٌ على أمرٍ لا تريده، لا بد أنها شعرت بالحزن.”
بلى، لقد كرهته، بلا شك.
كان يستعد لتقبّل ذلك، ولكن ما سمعه بعدها جعله يُجفل.
“لكن، أليس هذا ما يفعله الآباء دائمًا؟”
“……”
“أبي، مثلًا، يجعلني أتناول الدواء رغم كرهي له، لأنه لا يريدني أن أمرض. ويمنعني من تسلق الأشجار رغم رغبتي بذلك، خوفًا عليّ من السقوط.”
“……”
“ومع ذلك، أنا أحب أبي كثيرًا. لأنني أعلم أنه يفعل كل ذلك لأنه يحبني.”
“……”
“لذلك أظن أن والدة الآميرة كانت تحبك أيضًا، كثيرًا.”
ارتسمت على وجه كالتز تعابير مختلطة بين حزن و ابتسامة.
في الحقيقة، لم تكن الأمور بهذه البساطة.
إيسيلّا توسّلت إليه لإنقاذ ليوبريد، لكنه لم يفعل.
بل لم يُرِد أن يفعل.
لم يكن هناك أدلة لتبرئته، كما أنه لم يُرد أن يُخاطر بمكانته.
لأن الأهم لديه كان إيسيلّا نفسها، لا ليوبريد.
الآن… يعرف أن كلّ ذلك كان مجرّد تبرير جبان.
“ولهذا، إن ظلّ الأب الذي تحبّه عالقًا في الماضي… فذلك سيحزنها، أيضًا.”
في تلك اللحظة، تذكّر كلماتها الأخيرة قبل موتها.
“لقد كرهتك كثيرًا يا أبي، في وقتٍ ما.”
“……”
“ولو قلت إنني سامحتك تمامًا الآن، فسيكون ذلك كذبًا.”
“……أنا آسف، إيسيلّا… أنا…”
“لكن… بعدما أصبحتُ أمًّا، فهمت. أنك في تلك اللحظة… لم تكن تملك خيارًا آخر.”
“……”
“لذا، سامح نفسك الآن، سامح ذلك الأب الذي كنتَ عليه وقتها.”
شعر وكأن فيفيان تكرّر له كلمات إيسيلّا نفسها.
ربما هو الذي أراد أن يسمعها، ربما فقط يتمنّى أن تُسامحه ابنته أخيرًا.
وحينها أدرك الحقيقة.
إيسيلّا، التي رحلت، لن تُسامحه أبدًا.
الوحيد القادر على مسامحته… هو نفسه.
نظر إلى فيفيان بذهول، ثم ابتسم بسخرية هامسة:
“أجل… لقد حان الوقت لأدعها ترحل.”
حان وقت التحرر من سجن الماضي.
تمامًا كما طلبت منه ابنته ذات يوم.
***
كانت سالي ترسم في غرفتها حين انحرف أحد الخطوط عن مساره.
فغضبت، وقذفت القلم بعيدًا.
“تبًّا، كم هو مزعج!”
في الآونة الأخيرة، ازدادت نوبات غضبها.
منذ بدأت فيفيان بالتردّد إلى القصر.
وحين بدأت تتشارك الحصص مع راشيل، قلّ وقت سالي معها.
بعض الخدم، ممن رأوها وحيدة، حاولوا مواساتها بجلب الحلوى ونُصحها بالاقتراب من فيفيان.
حتى مارغريت نفسها حاولت إقناعها:
“سالي، اقتربي من تلك الفتاة. اقتربي منها واكتشفي نقاط ضعفها. من الأفضل دومًا إبقاء العدوّ قريبًا.”
“أأُجبر على اللعب مع تلك الشحاذة؟ لا! تريدنا ان تطرد حالًا!”
لكن سالي لم تنوِ الاستماع.
فهي لم تعد تقبل أن تكون “الإضافة” إلى علاقة فيفيان و راشيل.
‘أمي طردت من قبل أي أحد اقترب من راشيل، ستطردها أيضًا، أكيد.’
لكنّ الوقت مرّ، وفيفيان ما زالت في القصر، وبات وقتها فيه أطول.
وحين ازدادت غيرتها، زاد توترها أيضًا.
وفي نوبة غضب جديدة، ركلت دفتر الرسم وقامت واقفة.
“سآكل شيئًا.”
شدّت جرس الاستدعاء، لكن الخادمات لم يأتين.
رغم أنها ليست من طبقة النبلاء، إلا أن الخادمات اعتدن على خدمتها احترامًا لمارغريت.
لكن الآن… تجاهلنها.
سالي، التي اعتادت على الدلال، نسيت مكانتها.
“هل يستخفّ بي الجميع الآن؟!”
صرخت وهي ترتعد غضبًا، ثم قررت الذهاب بنفسها لجلب الحلوى.
وفي طريقها للأسفل، مرّت بالطابق الثاني، حيث مكتب الدوق.
وفي تلك اللحظة بالذات، خرجت منه فتاة مألوفة.
‘أليست تلك الفتاة؟ لماذا تخرج من مكتب الدوق؟!’
كانت فيفيان تغادر المكتب، ويبدو أن أوين يرافقها.
“اليوم، تحدّثنا عن كتابٍ عنوانه…”
صوتها الرقيق، وضحكات أوين المنخفضة، انسابت في الممر.
لم تسمع ما قالته بالتحديد، لكنها أيقنت شيئًا واحدًا.
‘لقد أوقعت الدوق في شباكها أيضًا!’
من الخدم، إلى أوين، إلى راشيل، والآن ذلك الدوق المُرعب.
لماذا؟ من تكون لتجعل الجميع في صفّها؟
صرّت سالي على أسن
انها.
‘هناك سبب يجعل أمي لا تطردها بعد… تلك الفتاة المزعجة!’
شعرت بالخطر.
لم يعد من الحكمة الاعتماد على والدتها وحدها.
نظرت إلى فيفيان التي كانت تبتعد شيئًا فشيئًا، واتخذت قرارها.
ترجمة:لونا
‘لا بد من طردها… قبل فوات الأوان.’
التعليقات لهذا الفصل " 23"