12
ما زال هناك من يبحث عن الناس عبر الصحف إذن.
وفوق ذلك، أن يكون البلاغ صادراً عن مركز الشرطة…
مهما كان الأمر، فبالتأكيد هناك حادث غريب وقع في هذه القرية الهادئة.
“سيدي! هذه الشتلة من النوع الذي يُزرع في الظل، فسأغرسها لاحقاً…”
رفعت إيلا رأسها بلا تفكير، لكنها حين صادفت وجه الجار خطرت ببالها فكرة ما.
هذه قرية ريفية نائية، بالكاد يسكنها أحد، والشباب نادرون فيها أشد الندرة.
‘مستحيل…’
“إيّاك أن تنسي ما قلتُ، لا تؤجليه وتتركيه هكذا.”
لم يدرِ الجار أن مجرد رؤيته جعلها ترفض الفكرة التي قفزت إلى ذهنها.
شَعره الأسود يتمايل مع النسيم، وتحت خصلاته تلألأت عيناه الحمراوان.
ملامحه كانت بديعة. الانطباع الأول الذي أخذته إيلا يوم التقت به للمرة الأولى ظلّ حاضراً حتى اليوم، جمالٌ ساطع لا يتغير.
ثم ذلك الجسد…
‘يا إلهي… قامة طويلة، أكتاف عريضة، جسد متماسك… من أي زاوية بدا مثالياً.’
“جارتـي؟”
“نـ… نعم؟”
“لماذا تحدّقين بي بهذه النظرة الوقحة؟”
“أنا؟!”
ارتعشت إيلا كمن ضُبط متلبساً، واتسعت عيناها.
“كدتُ أسيء الفهم. حسبتُكِ تتفحصين جسدي.”
“لم أفعل شيئاً كهذا أبداً!”
خفضت إيلا رأسها بسرعة، وكادت أن تدفن وجهها في التراب من شدّة الحرج.
أجبرت نفسها على استجماع تركيزها وعادت إلى غرس الشتلات بحزم.
‘مستحيل أن يكون هو نفس الشخص الذي يبحثون عنه في الجريدة… لا، هذا مستبعد تماماً.’
كان الأجدر بها أن تركز على الشتلات المتراكمة أمامها لا على تلك الترهات.
لكنها بالكاد أمسكت المعول بعزم حتى جاء صوت غريب آخر:
“يا شاب!”
مرة أخرى، ضيف جديد عند بيت الجار. قبل قليل كان موزّع الصحف، فمن يا ترى هذه المرة؟
“من هناك؟”
ترك الجار الصحيفة جانباً وتوجه نحو البوابة. أما إيلا فاختارت أن تصير أشبه بنملة عاملة، منشغلة بعملها دون أن ترفع رأسها.
“أوه، هل سمعت الأخبار؟ هناك لص يتجول في قريتنا.”
“لص؟”
“نعم. حتى الصحيفة نشرت أوصافه. لا أدري ما الذي يجده في قريتنا ليسرقه! قيل إنه يختار سرقة الجواهر الثمينة. جئتُ فقط لأحذرك يا شاب… هـم؟”
تلاشت كلمات المرأة فجأة.
كانت إيلا قد توقفت عن العمل دون أن تشعر، فضولها يجرها لسماع المحادثة.
“من الفتاة هذه؟”
حينها، حاولت إيلا أن تخفي وجهها تحت قبعتها وهي تنظر بحذر نحو البوابة.
“آه…”
“لا تقل لي… أنك لست شاباً أعزباً كما كنتَ تقول؟”
وعندها تعرفت إيلا على تلك السيدة. كانت السيدة كلابيل، رئيسة جمعية النساء في مابراغ منذ سنوات.
لم يكن السبب كفاءتها أو حسن سمعتها، بل لأن القرية لم تجد من يتولى المنصب غيرها، فحُملت على توليه حملاً.
عجيب حقاً…
حتى لو كان لص خطير يعبث بالقرية، لم تكن السيدة كلابيل من النوع الذي ينهض لحماية الناس.
حين اجتاحت الفيضانات القرية المجاورة قبل سنوات، لم تفعل أكثر من إذاعة تنبيه عبر مكبرات الصوت.
إيلا نفسها سمعت صوتها مراراً عبر إذاعات القرية، لكن رؤية وجهها هذه أول مرة.
“آه، أهلاً وسهلاً! خالتي!”
بادرت إيلا بالكلام قبل أن يتلعثم سيدها الغبي الذي لم يعرف كيف يرد.
“من…؟”
وكما توقعت، لم تتعرف عليها. فما كانت إلا رئيسة جمعية نساء بالاسم لا بالفعل.
“ألا تعرفينني؟ أنا إيلا، أسكن في البيت المقابل!”
“آه آه، طبعاً! إيلا!”
كان جوابها متكلفاً، وبدا واضحاً أنها لا تعرفها، لكنها لم تشأ أن تفضح جهلها.
أومأت السيدة بعجلة ثم سألت برأس مائل:
“لكن يا إيلا، لماذا أنت هنا تعملين؟”
“هاها! الحقيقة أنني حديث عهد بالقرية، ولا أعرف كيف أعتني بالحديقة جيداً بعد.”
عندها التفتت السيدة إلى الجار الشاب وصرخت فجأة:
“يا ويلي! يا بني! لو كان لديك مثل هذه المشكلة كان عليك اللجوء إلى جمعية نساء مابراغ!”
“ماذا؟”
“هاه؟”
ردّ كل من إيلا والجار بدهشة وقد عقدت المفاجأة لسانيهما.
“انتظر لحظة، عليك أن تغرس كل هذه الشتلات فقط، أليس كذلك؟”
أشارت السيدة إلى كومة الشتلات المكدسة في الفناء الخلفي.
“لا لا يا خالتي! أنا أستطيع أن أنجزها وحدي.”
“وهل تظنين أنني أفعل هذا من أجلك؟! أنا، بصفتي رئيسة جمعية النساء في مابراغ، لا يمكن أن أرى عائلة جديدة تكابد المشقة هكذا!”
كادت إيلا أن تقول: *لكن يا خالتي، طوال السنين الماضية اكتفيتِ بالمشاهدة كلما مرّت القرية بمصيبة!* لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة.
“خالتي، أرجوكِ، دعيني…”
“انتظري قليلاً! سأعود سريعاً، يا بني.”
وهنا فقط فهمت إيلا لماذا أظهرت كلابيل كل هذا الحماس لمساعدة سيدها.
لقد كان بسبب ذلك الوجه… الملامح البريئة التي تستثير غريزة الحماية.
وبينما كان الجار يميل رأسه في حيرة من الموقف، التفت نحو إيلا بابتسامة مشرقة وقال:
“يؤسفني أن عملك قد ينقص اليوم يا جارتي.”
“أتراك ستخصم من أجري لمجرد أن الحمل خف عليّ؟”
“لم أفكر بذلك، لكن إن كانت ضميرك يؤنبك…”
“لا، أبداً! ضميري مرتاح تماماً.”
كانت إيلا بلا ضمير.
هي تؤمن أن عليها أن تردّ جميل الدين الكبير الذي أنقذها به سيدها، لكنها لم تكن من الطيبة بحيث تفرّط في فرصة ثمينة كهذه.
‘يا سلام! أجري مضمون اليوم بلا جهد!’
“عندي آيس كريم في البيت. ترغبين في بعضه؟”
“أوه، طبعاً! أعطني كثيراً. نادراً ما أتناول الآيس كريم.”
بالفعل، كان سيدها غريباً.
كأنه خطط مسبقاً لإرهاقها بالعمل ثم دلّلها بالطعام والشراب، وحتى الحلويات لم يغفل عنها.
“لدي نكهة الفراولة والفانيليا.”
“الفانيليا من فضلك.”
ناولها سيدها الآيس كريم وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة، وعيناه تتلألآن بتوقع.
“شكراً جزيلاً.”
كان الآيس كريم بالفانيليا يعلو الكوب بشكل مغرٍ، ينتظر أن تتذوقه إيلا.
“ما رأيك، يبدو لذيذاً أليس كذلك؟”
“نعم.”
ابتسم سيدها ابتسامة عريضة، وكأنه ارتاح لسماع الجواب. يبدو أن انزعاجها المرة الماضية حين لم يكن الطعام لذيذاً قد ترك أثراً فيه.
“وسيكون منعشاً أيضاً، أليس كذلك؟”
“آه… نعم.”
حرّك الجار ذيله الخفي بخفة، كما لو كان كلباً يتوق للثناء. بدا واضحاً أنه يريد سماع المزيد من المديح.
“هذا أحضرته منذ الصباح من متجر مشهور بمذاقه…”
“يا بني!”
لم يكد يكمل كلامه حتى عادت رئيسة جمعية النساء.
‘هل كانت جمعية نساء مابراغ نشيطة ومتحمسة هكذا دائماً؟’
فقط قبل أيام، حين طلب العم ريمو مساعدتهن في تقطيع علف البقر، أجابته بأن مثل هذه الأشياء يقوم بها بنفسه، وأن هذا هو طعم حياة الريف!
لكن الآن، أمسكت السيدات بيد الجار وبدأن يربتن على كتفه ووجوههن تلمع بالحماس.
“هاهاها! وجدناك أخيراً!”
“يا بني، لا تقلق. هذه الشتلات التافهة سننتهي منها خلال نصف نهار!”
وما المشكلة في ذلك؟
ما دام هناك من يقوم بالعمل عوضاً عنها، فلن تعترض إيلا أبداً. جلست تدندن بمرح وتلتهم الآيس كريم.
“ومن هذه الفتاة؟ هل تزوجت يا بني؟”
“لا لا. إنها فقط تسكن في الجهة المقابلة.”
سارعت السيدات اللواتي كن يرمقن إيلا خلسة إلى التفاعل بحماس مع كلمات الرئيسة.
“آه، إذن هكذا! ظننتك متزوجاً. أنا أول من يقف في الصف لأجعل منك صهري!”
“ماذا تقولين؟! أنا من وقفت في الصف أولاً!”
‘آه… يا إلهي.’
تنهدت إيلا بصوت خافت.
اطمئنوا يا سيدات. أنا، لاڤيييلا، لست إلا خادمة في هذا البيت! لا نية لي بخطف صهركن المستقبلي.*
لكنها كتمت تلك الكلمات في قلبها، واكتفت بابتسامة صغيرة.
“هيا، لا تقفن هكذا! فلنبدأ بالعمل!”
وبمجرد أن أنهت الرئيسة كلامها، انطلقت بقية النساء بسرعة مذهلة.
“مابراغ حقاً قرية رائعة. الجيران لا يتجاهلون من يحتاج المساعدة.”
“ألم تسمعن ما قيل قبل قليل؟”
“عن ماذا؟”
“عن أنهن أردتن سيدنا صهراً… آه… لا، لا شيء!”
قررت إيلا ألا تزيد الأمر فضيحة.
فحتى هذه الفرصة للعمل السهل مقابل المال لم تأت إلا بفضل سوء فهمهن!
ابتسمت في سعادة بينما أنهت كوب الفانيليا بالكامل، ثم التهمت بمهارة حتى آخر قطعة من آيس كريم الفراولة الذي أعطاها سيدها أيضاً.
وبالفعل، كانت أيدي نساء الجمعية سريعة وخبيرة.
في لحظات قليلة زُرعت كل الشتلات. ابتسمت إيلا برضا وهي تنظر إليها.
*في العادة كان عليّ أن أنجز كل هذا وحدي. لكن منذ أن جاء جاري الجديد، يبدو أن حظي قد تغير. ليت كل يوم يكون مثل هذا اليوم.*
فكرت إيلا بذلك وهي غارقة في السعادة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"