في هذه الأثناء، كانت إيلا وراندويل قد وصلا إلى الجسر بنفَسٍ مُتعَبٍ وقلوبٍ مُترقّبةٍ.
بعد عودة المرسول الذي كان متوجّهًا إلى سيغموند، سارع الاثنان مباشرةً نحو جسر.
خلال الأيام القليلة الماضية، أصبح من عادتهما أن يهرعا إلى الجسر كلّما سمعا أنّه سيُفتَح، منتظرين سيغموند بلهفةٍ.
بطبيعة الحال، أصبحت المهام اليوميّة التي يفترض بهما أداؤها في حالةٍ من الفوضى، لكن ذلك لم يكن مهمًّا.
ففي النهاية، حتّى لو بقيا في قصر الدوق الأكبر، لم يكن ليتمكّنا من التركيز على العمل على أيّ حال.
وكان الأمر نفسه بالنسبة للآخرين.
رغم أنّهم لم يتمكّنوا من الخروج إلى الجسر مثل راندويل وإيلا، قضى الجميع يومهم مُتعلّقين بالنوافذ، يترقّبون بقلقٍ.
منذ اختفاء الأطفال، توقّف الزمن تمامًا في قصر الدوق الأكبر.
“قيل إنّ السيّد آسيلت التقى اليوم بدوقنا الأكبر، فربّما يعود اليوم.”
تمتم راندويل بهدوءٍ.
كان آسيلت قد وصل لتوّه، وقد جاء بمفرده في عربةٍ أجرةٍ.
يبدو أنّه تلقّى بعض المال من سيغموند عندما التقيا.
على أيّ حال، عاد أحد الأطفال، لكن لا يزال هناك الذين يجب أن يعودوا.
“أتمنّى ألّا يكون قد حدث شيءٌ سيّئ…”
فركت إيلا أطراف أصابعها الباردة بنفَسٍ مُقلقٍ.
سيغموند، الذي لم يتمكّن من العودة إلى قصر الدوق الأكبر، وتوجّه مباشرةً إلى آشيلونيا بجسدٍ مُرهَقٍ.
كيليك، الذي اختفى فجأةً في اليوم التالي لمعرفته باختفاء مابيل، دون أيّ تجهيزاتٍ.
ومابيل، التي انطلقت في رحلةٍ شاقّةٍ في ذلك الفجر…
‘لو عادوا جميعًا، لو عادوا جميعًا بسلامٍ دون أذى…’
كانت إيلا تغمض عينيها الرفيعتين كالخيط، وتُصلّي بحرارةٍ في تلك اللحظة.
رغم أنّها ليست من ذوي الحواس الخارقة، إلّا أنّ سمعها الحادّ التقط صوت حوافر الخيول.
رفعت إيلا رأسها فجأةً، فصاح جندي الحراسة الذي كان يراقب من أعلى الأسوار:
“عربة الدوق الأكبر تلوح في الأفق!”
“هناك راية! دوقنا الأكبر يعود!”
ابتهجت ملامح راندويل وإيلا.
من يكون داخل العربة؟
تسارعت دقّات قلبيهما من جديدٍ بالتوتر والترقّب.
تباطأت العربة تدريجيًا لتمرّ عبر الجسر.
تعرّف السائق على رئيس الخدم وإيلا، فنزع قبّعته بسرعةٍ تحيّةً لهما.
هرع راندويل إلى جانب السائق وقال:
“ما الذي أتى برئيس الخدم إلى هنا؟”
“من بداخل العربة؟ من هناك؟”
قاطعه راندويل بسؤالٍ عاجلٍ.
كانت إيلا متشنّجةً من التوتر لدرجة أنّها لم تستطع الاقتراب.
بدت الحيرة على وجه السائق، لكنّه سرعان ما أدرك ما يقلق الاثنين وما ينتظرانه.
ابتسم السائق ذو الوجه المُسمر، وأشار إلى داخل العربة بدلًا من الردّ.
“لمَ لا تتكلّم؟”
كان راندويل على وشك توبيخ السائق بانفعال عندما فُتِحَت النافذة.
“أوه؟ رئيس الخدم!”
ظهر وجهٌ مألوفٌ مع صوتٍ مرحّبٍ طال انتظاره.
كان شعر مابيل الأرجواني اللامع، الذي كانت إيلا ترعاه بعنايةٍ وتسرّحه دائمًا، قد أصبح باهتًا وجافًّا.
لم تكن الخدوش على وجهها هي الوحيدة، بل كان هناك ضمادةٌ حول عنقها.
وجهها الناعم الممتلئ قد عاد هزيلًا مرّةً أخرى، لكن…
“لمَ أنتما هنا؟”
كانت مابيل بالتأكيد، بعينيها المستديرتين اللتين تشبهان عيني سيّدهما.
“آه، الآنسة…!”
هرع راندويل المُتأثّر لاستقبال مابيل، لكن…
“إن أخرجتِ رأسكِ من النافذة، سيكون ذلك خطيرًا.”
“آه!”
بصوتٍ منخفضٍ، اختفت مابيل فجأةً داخل العربة.
ثم ظهر من النافذة سيغموند، وليس مابيل.
“راندويل، لمَ أنت هنا؟”
“…”
طوال هذا الوقت، كان راندويل قلقًا جدًّا على سلامة سيغموند، لكن في هذه اللحظة، لم يكن يطيق رؤية وجهه.
‘لا، لا، لقد أُنهكَ سيّدي أيضًا.’
كاد أن يُظهر شعورًا غير مخلصٍ، لكنه تمكّن من ضبط ملامحه وتراجع خطوةً إلى الوراء، ثم انحنى بأدبٍ وقال:
“أهنّئكم على عودتكم، سمو الدوق الأكبر.”
“هل خرجتَ إلى الجسر فقط لتحيّتي؟”
عندما ظهر شكٌّ خفيفٌ على وجه ييغموند، برز وجه كيليك فجأةً وقال:
“وآسيلت؟ هل عاد أخي؟”
لم يكن وجه كيليك سليمًا تمامًا أيضًا.
كانت هناك خدوشٌ هنا وهناك، كما لو أنّ أحدًا رمى به على الأرض.
كان الجميع يدعون فقط بعودتهم سالمين، لكن عندما عادوا بالفعل، بدأت الصورة تتضح في أذهانهم عمّا قد يكونوا قد مروا به، فبدأ الغضب يتصاعد.
لكن راندويل، كرئيس خدمٍ محترفٍ، أخفى غضبه المشتعل كالبركان، وأجاب بأدبٍ:
“عاد هذا الصباح، ويجب أن يكون الآن يستحم ويستريح.”
“هذا جيّد، كنتُ قلقًا لأنّني لم أره في الطريق.”
“لو كنتُ مكان آسيلت، لكنتُ قد غفوتُ فورًا بعد أن أخبرته أن الأمور ستكون بخير.”
كان سيغموند هو من ردّ على كيليك.
“ماذا؟ هذا لا علاقة له بالأمر!”
قفز كيليك بحماسٍ، مما جعل العربة تهتزّ قليلًا.
“اهدأ.”
ضغط سيغموند على رأس كيليك وقال لراندويل:
“مابيل مصابة، اطلب من إيلا تجهيز العلاج بسرعة.”
في تلك اللحظة، سُمِعَ صوتٌ رقيقٌ من جهة الجسر:
“الآنسة!”
قبل أن يتمكّن سيغموند من الالتفات، سحبت مابيل كيليك وأخرجت رأسها من العربة وقالت:
“أختيي إيلا!”
ردّت مابيل بصوتٍ مرحّبٍ.
“الآنسة، الآنسة!”
ركضت إيلا نحو العربة بسرعةٍ مذهلةٍ، حتّى أنّ الريح هبّت بعد وصولها.
أذهلت سرعة إيلا مابيل، لكن عندما أمسكت إيلا يديها وهي تذرف الدموع، لم تعد سرعة إيلا تهمّ.
“أنا سعيدة جدًّا، سعيدة جدًّا بعودتكِ! شكرًا لعودتكِ!”
شكرًا لعودتكِ.
مدّت مابيل يدها الصغيرة لتمسح دموع إيلا، التي كانت تبكي دون أن تدرك أنّها هي نفسها تبكي.
“أنا من يجب أن أشكركِ على هذا الترحيب!”
عندما ابتسمت مابيل بخجلٍ، هزّت إيلا رأسها وهي تضع خدّها على يد مابيل الصغيرة وقالت:
“شكرًا؟ هذا أمرٌ طبيعيّ! أنتِ آنسة قصر الدوق الأكبر!”
في تلك اللحظة، شعرت مابيل بموجةٍ مدغدغة في صدرها.
آنسة قصر الدوق الأكبر.
قالتها إيلا وكأنّها أمرٌ بدهيّ.
“آمم…”
هل لاحظ سيغموند تصلّب جسد مابيل قليلًا؟
ضحك سيغموند بخفّةٍ وهو يربت على رأس مابيل بحماسٍ وقال:
“سعيدٌ لعودتكِ إلى المنزل.”
في تلك اللحظة، أدركت مابيل الواقع الذي لم تستطع استيعابه طوال الرحلة في العربة.
تحوّلت الموجة التي هزّت صدرها تدريجيًا إلى دقّات قلبٍ قويّة.
دق، دق، دق، دق-!
شعرت مابيل بدقّات قلبها القويّة وابتسمت ببراءةٍ وقالت:
“نعم!”
لقد عادت أخيرًا.
إلى المنزل.
* * *
بعد لقاءٍ مليءٍ بالدموع مع أهل قصر الدوق الأكبر، خضعت مابيل للعلاج على الفور.
خلافًا لتوقّعات سيغموند، لم تكن جروح يدها عميقةً كما تبدو، وقيل إنّها ستلتئم بسرعةٍ.
بعد ذلك، لفت مابيل جروحها بضمادةٍ مقاومةٍ للماء بعنايةٍ، ثم استحمت براحةٍ.
كانت تشعر بالضيق بعد مرورها عبر ممرٍّ سرّيٍّ مليءٍ بالغبار ودفنها في كومةٍ من القشّ الفاسد.
‘في السابق، لم أكن أعرف شيئًا عن الضيق أو أيّ شيءٍ…’
خلال إقامتها في قصر الدوق الأكبر، تعلّمت الكثير وشعرت أنّها تغيّرت عما كانت عليه.
في هذه الأثناء، كانت الخادمات يعتنين بمابيل بعنايةٍ، بينما يلعنن آشيلونيا في سرّهنّ.
لم يكفِ أن وجه مابيل أصبح شاحبًا خلال أيامٍ قليلةٍ، بل عادت وهي تحمل جروحًا أيضًا.
بينما كانت مابيل تنظر عبر المرآة إلى الخادمات اللواتي يرتجفن من الغضب، فتحت فمها بحذرٍ وقالت:
“لكن يبدو أنّ رئيس الخدم كان غاضبًا جدًّا أيضًا.”
كان راندويل يعتقد أنّه أخفى تعابير وجهه جيّدًا، لكنّه كان مخطئًا.
كانت الأوردة بارزةً على جبينه، وشفتاه ترتجفان.
“هذا طبيعيّ! الآنسة عادت مصابةً هكذا! حتّى أثناء انتظارنا معًا، كم كان قلقًا عليكِ!”
تنهّدت إيلا وهي تجفّف شعر مابيل وقالت:
“لكن إذا عادت الآنسة إلى تناول الطعام اللذيذ وأمورها اليوميّة، ستتحسّن الأمور!”
شعرت مابيل بالحرج قليلًا من كلام إيلا.
‘ظننتُ أنّه غاضبٌ لأنّني قد أتسبّب في حربٍ شاملةٍ مع آشيلونيا، لكن يبدو أنّني كنتُ مخطئة…’
كان راندويل لطيفًا مع مابيل، لكن ربّما بسبب منصبه كرئيس الخدم، بدا أكثر عقلانيّةً من الآخرين.
لذلك، ظنّت أنّه لن يرحّب بعودتها.
‘…يا للراحة.’
لم تكن عودتها إلى قصر الدوق الأكبر إزعاجًا.
شعرت مابيل بالراحة التامّة أخيرًا، وبدأت تغفو وهي تتلقّى عناية إيلا.
* * *
في اليوم التالي.
استُدعيت مابيل إلى مكتب سيغموند، وكان عليها أن تكون في غاية التوتر.
“مابيل.”
كان صوت سيغموند، وهو جالسٌ في مكانه، منخفضًا بشكلٍ غير معتادٍ.
لا تعرف ما السبب، لكن من الواضح أنّه سيوبّخها بشدّة!
– ترجمة: مـيـل~❀
التعليقات لهذا الفصل " 44"