“كككآآآآخ!”
صرخَ كليك صرخةً مملوءةً بالألم.
ثمّ تلا ذلك صوتٌ أشبهُ باحتراقِ اللحم، يتبعه رائحةٌ خانقةٌ خفيفة.
“آه، لا، لا يمكن…….”
انهارت مابيل جالسةً على الأرض بذهولٍ تامّ.
فما دام ختمُ التبعيّة قد وُسِمَ على جسدِ كليك، فلن يستطيعَ هذا الأخيرُ بعد الآن أن يُخالفَ إرادةَ كايسر.
باتَ كلامُها له عن أن تعيشَ حياتَها الخاصة بلا معنى، إذ بسبب مابيل أُجبِر كليك على أن يُصبح تابعًا لكايسر.
كان المشهدُ أمام عينيها مرعبًا إلى حدٍّ جعلها عاجزةً حتى عن البكاء.
“ها، هاها. تمّ الأمر.”
ضحك كايسر ضحكةً راضيةً وهو يحدّقُ في الختم المطبوع على عظمِ ترقوةِ كليك.
وكانت على وجهه لمحةُ جنونٍ غامضة.
“لقد جعلتُ الكلبَ الوفيّ الخاص بذلك الوغدِ سيغموند، ملكًا لي!”
أكانَ سرقَةُ شيءٍ من سيغموند أمرًا يُشبعُهُ إلى هذا الحدّ؟
صرخ كايسر في نشوةٍ لم يبلغها من قبل.
لكن سرعان ما انطفأ ذلك الحماس.
“ها، هذا الوغد انتهيتُ منه.”
رمى كايسر كليك أرضًا وكأنّه لم يَعُد به حاجةٌ إليه.
“أغغ، هه…….”
كانت عينا كليك الصفراء نصفَ مُطفأتَين من شدّة الألم، فارغتين من أيّ حياة.
ارتجف قلبُ مابيل وكأنّه هوى إلى الأرض وهي ترى ذلك.
“الآن جاء دورُكِ.”
اقترب كايسر من مابيل حاملًا الخاتم.
رفعت مابيل رأسها وهي ما تزال جالسةً في يأس، لتنظر إليه.
وكان وجهُه مشوّهًا بجنونٍ بشع، حتى لتتمنّى لو بقي قاسيًا بلا مشاعر.
“لا، لا تقترب…….”
أخذت مابيل تتراجعُ إلى الوراء على قَدميها المرتجفتَين وهي جالسة، لكنّها اصطدمت بالحائط.
وفي ذروةِ رُعبها، انتزعت آخرَ ذرةٍ من عقلها لتفكّر.
“أ، أصلاً هذه مجرّد اداةٍ، أليس كذلك؟ لا يمكنُ استخدامه-“
“هاه، لو كان مجردَ ختمٍ عاديّ لكان كذلك.”
قهقه كايسر بسخرية.
“لكن هذا ليس ختمَ تبعيّةٍ عاديًّا. لقد عُدِّل باستخدام مئات الأحجار السحرية وعشرات التوابع، حتى يُستَعمل على البشر أيضًا.”
“ماذا……؟”
“كان مُعدًّا أصلًا ليُطبَع على أمِّكِ حين تعود، لكن احمدي حظّكِ أني سأستخدمه عليكِ وعلى ذاك الوغد قبلكِ.”
“هذا غيرُ معقول……!”
انعقد لسانُ مابيل من وقع الصدمة.
لقد سمعت أنّه في غياب السحر لا يمكنُ للإنسان استعمال الأداة إلا إذا أصبحَ رفيقًا لمخلوقٍ خياليّ.
فهل كان ذلك مُمكنًا عبر التعديل؟
مدّ كايسر يدَه فجأةً وأمسكَ بعنقها.
“كخ……!”
“ابقَي ساكنة. سيكون مؤلمًا قليلًا.”
“هخ……!”
أغمضت مابيل عينيها بقوة وهي ترى الختم يقتربُ من بطنها.
لكن قبل أن يُطبَع الختم.
-طَرق!
أصابَ حجرٌ طائرٌ مؤخرةَ رأسِ كايسر.
تجمّد من وقعِ المفاجأة، والتفتَ بدهشة، فإذا بعينَيه تمتلئان رعبًا.
“أنت، كيف…….”
“اترك مابيل حالًا!”
كان من رمى الحجرَ في وجه كايسر هو كليك نفسُه.
وبجانبه وقف شخصٌ آخر.
“هنا ينتهي لعبُك القذر، كايسر.”
إنه سيغموند.
عند سماعها ذلك الصوت المألوف الذي طالما اشتاقت إليه، فتحت مابيل عينيها بذهول.
لم تُصدّق.
حقًّا كان سيغموند في سجنِ القبو بقصرِ آشيلونيا!
“سيدي الدوق……؟”
نادت مابيل باسمه بصوتٍ مختنقٍ تغمره المشاعر.
“…….”
رأى سيغموند حالَ مابيل فانعقد ما بين حاجبَيه بألمٍ شديد.
كان في عنقها جرحٌ من طعنةِ سيف، وجسدُها الذي سقط وتدحرج مغطّى بخدوشٍ وجروحٍ صغيرة.
حتى مجرّد النظر إليها كان كافيًا ليُغلي صدرَه ويُفور أسفلَ بطنه غيظًا.
فإن كان هو قد شعر بهذا الألم لمجرّد رؤيتها، فكيف بأبيها الذي فعل بها هذا؟
“حتى لو جئتَ، فلن يتغيّر شيء!”
ارتبك كايسر للحظة، لكنه مدّ الخاتمَ من جديد ليَطبعَ وسمَه على مابيل.
سواك-!
لكن كيف لسيغموند أن يدع ذلك يحدث؟
“كآخ!”
قطَع سيفُ سيغموند معصمَ كايسر، فسقطت قوّتُه في اللحظة نفسها وانفلت الخاتم من يده.
استغلّ كليك الفرصة، فتدحرج سريعًا والتقط الخاتم قبل أن يعود إلى كايسر.
“أمسكتُه!”
“أحسنت.”
أسرع سيغموند فأحاط مابيل بجسده ودفعها خلفه، ليقفَ في مواجهة كايسر.
“أيها الوغد…….”
نهض كايسر وهو يضغط على ساعده المصاب، ملامحُه مشوّهةٌ بالألم.
“كايسر. كنتُ أعلمُ منذ البداية أنّك أوضعُ من أن تُعدّ إنسانًا، وأنك قمامةٌ لا يُخالطها أحد.”
اتّسعت عينا مابيل دهشةً من حدّة سبابه.
فسيغموند لم يسبق له أن تكلّم أمامها إلا بألفاظٍ منضبطةٍ رصينة.
“مابيل! أسرعي إلى هنا!”
لولا أن ناداها كليك من الجهة الأخرى لبقيت مدهوشة في مكانها.
ركضت مابيل مسرعةً نحو كليك.
“إلى أين تظنّين أنّك ذاهبة!”
سحب كايسر سيفه محاولًا منعها، لكن-
– تشينغ!
“خصمُك هو أنا. رجلٌ بلغ الثلاثين ولا يجد أفضلَ من استغلال فتاةٍ صغيرة، يا لَخسّتك.”
بسهولةٍ وكأنه يصدّ طفلًا، أبعد سيغموند سيفَ كايسر.
“أتثرثر بهذا الشكل أمام الأطفال ولا تشعر بالعار؟ عجيبٌ كيف تعيش، حقًّا…….”
انهمرت إهانات سيغموند بلا توقّف، حتى ليظنّ الرائي أنّه حضّرها خصيصًا لليوم.
“تجرؤ أنت على التفوّه بهذا الهراء أمامي!”
احمرّ وجه كايسر خجلًا وغضبًا، ثم انقضّ بجنون.
تدفّقت هالةُ الأورا على سيفه.
لكن سيغموند تصدّى له بسيفٍ عاديّ دون أن يُطلق هالتَه أصلًا.
تشينغ- تشينغ، سَررَرنغ…… تشينغ!
ارتجّ المكان من صليل السيوف المتصادم.
ورغم قلقها على سيغموند، انشغلت مابيل أولًا بتفقّد عظم ترقوة كليك.
“أخي، انتظر قليلًا. دعني أرى. كيف تشعر؟ هل ما زلتَ تتألم؟”
ارتجفت يدُها وهي تلمس مكان الختم.
لكن كليك، الذي كان يلمع بريقُ عينيه إعجابًا بسيف سيغموند، قبض على يدها المرتجفة.
“لا تقلقي. لم يُطبَع.”
“ماذا؟”
“انظري، عندي هذا.”
كشف كليك عن جيبٍ في ثوبه مخيطٍ بخيوطٍ غير متقنة، وظهر داخله أداةٌ سحرية صغيرة.
“الأداة السحرية المُبطِلة!”
كان يحمله في جيبه عادةً، لكنه خيّطَه في الثوب قبل مغادرة القلعة احتياطًا.
ابتسم كليك مازحًا وهو يقول إن الحذر قد أنقذه.
حين أدركت مابيل ذلك، انهارت جالسةً وقد انفكّ عنها التوتر.
“كنتُ…… كنتُ أظنّ أنّني سأفقدك حقًّا…….”
عادت أنفاسها وانبض قلبها بعد أن كان مقبوضًا، لكن الدموع كادت تنهمر.
أخفت وجهها بين كفّيها، فأصابه الارتباك.
“كـ-كنتُ أظنّ أنّكِ تعرفين…….”
“لكنّك كنتَ تتألّم بشدّة! فظننتُ، ظننتُ أنّ…….”
“ذ-ذلك لأنّه كان أداةً معدَّلةً. وإلّا لما شعرتُ بألم أصلًا. ثمّ إن ابتكار أستاذي لا يمكن أن يخسرَ أمام نفاية كهذه.”
وأضاف أنّه لو كان ختمًا عاديًّا لما شعر حتى بالوخز.
لم تتمالك مابيل نفسها، فاندفعت تعانقه.
“شكرًا للرب…… حقًّا شكرًا للرب…….”
ارتعش صوتُها وقد ابتلّ بالدموع وهي تردّد كلمات الاطمئنان.
ولم يلبث كليك أن عانقها بدوره.
“وأنتِ، كيف حالُ عنقكِ؟”
“أنا بخير. الدم توقّف سريعًا…….”
وبينما كان الصغيران يتبادلان القلق على بعضهما، ظلّ صراعُ الكبار محتدمًا.
كاغاغانغ- كاغ!
ضغط كايسر بكلّ قوته، لكن قدَمي سيغموند لم تتحرّكا قيد أنملة.
“أيها الوغد……!”
“يُقال إن المبارزَ البارعَ يكشف خصمَه من مجرّد التقاء السيوف.”
“ها……؟”
“إذن، قد فهمتُك جيّدًا يا كايسر. كم أنتَ إنسانٌ بائسٌ ومثيرٌ للشفقة.”
دفعه سيغموند بقوّةٍ فسقط كايسر في الهواء قبل أن يهبط متمايلًا.
“لا بدّ أنّك في جحيم. رغبتَ في هذا القصر بكلّ كيانك، لكن في النهاية لم تُحقّق شيئًا بيدَيك.”
“هراء! هذا القصر ملكي! أنا سيده ومالكه!”
استشاط كايسر غضبًا بعدما أصاب سيغموند كبدَ الحقيقة، فانقضّ مرةً أخرى.
ازدادت الهالة المحيطة بسيفه حِدّةً وسماكة.
لكن سيغموند ما زال لا يستخدم الهالة.
فهو بمهارته وحدها، حتى بسيفٍ عادي، قادرٌ على إخضاع كايسر.
وبينما شتّت سيغموند بسهولةٍ ضربةَ الهالة، قال ببرود:
“من يدري؟ أظنّ أنّ كلّ من يعرفك يدرك أنّك من دون صوفيا لستَ شيئًا.”
فاضطرب كايسر بشدّة، وارتجفت ضربةُ سيفه.
★ تـرجـمـة: لـيـنـو ~★
التعليقات لهذا الفصل " 41"