لماذا كان كليك في قصر آشيلونيا؟
لا بدّ أن تعود القصة إلى عدّة أيّام مضت.
* * *
قبل بضعة أيّام، عند بزوغ الفجر.
كان كليك قد سقط في نومٍ عميق بلا وعي، غير أنّه استيقظ على وقع ضجّةٍ عالية.
“آه… ما الذي يجري بحقّ السماء….”
لقد كان مرهقًا للغاية بعدما اضطر إلى حضور دروسٍ تعويضيّة متتالية بسبب تغيّبه عن بعضها للهو واللعب.
وفي مثل هذا اليوم، كان ينبغي له أن ينام نومًا عميقًا حتى يتأخّر في النهوض.
لذا، حاول أن يسدّ أذنيه بالوسادة ليعود إلى النوم مجدّدًا.
لكن لم تمضِ لحظات حتّى دوّى الطرق بعنف:
“سيدي! سيدي!”
“هل أنتَ هنا يا سيّد آسيلت؟”
صوت الطرق المذعور على باب آسيلت أيقظ عيني كليك من جديد.
وكانت غرفة كليك ملاصقةً لغرفة آسيلت، فلم يستطع أن يغفو وسط تلك الضجّة.
“هـااام… ما الأمر بحقّ السماء… في مثل هذه الساعة….”
ولمّا لم يعد يحتمل، خرج يتمطّى متثائبًا من غرفته.
رآه راندويل فاقترب بوجهٍ كأنّ قلبه قد سقط في قاع صدره من شدّة الفزع.
“آه، يا للراحة. كنت نائمًا يا سيدي!”
“طبعًا، وهل ترى كم الساعة الآن… هـاام.”
إلى حدّ أنّه، وقد غمره الارتياح، ارتمى على كليك معانقًا له بشدّة.
“هـه…؟ ماذا… ماذا تفعل؟”
كان راندويل دائمًا يوبّخه ليكفّ عن التصرّفات المتهوّرة، لذلك فإن احتضانه إيّاه كان شيئًا لم يحدث منذ زمنٍ طويل.
أحسّ كليك بالحرج فاستعاد توازنه.
وحينها فقط التفت إلى ما يحيط به.
“ما بال الجميع مجتمعين في الخارج… ما الذي يحدث؟”
“ذاك هو أنّ…”
تلعثم راندويل على غير عادته.
وقد ارتسمت على وجهه غشاوة من الكآبة في لحظة.
لكن لم يكن وجهه وحده المظلم؛ إذ كانت إيلا -التي ينبغي أن تكون في غرفة مابيل- تقف بالجوار بملامح ثقيلة.
ولقد لمح كليك أثر دموعٍ جافة تحت عينيها نصف المغمضتين دائمًا.
“ما هذا…؟”
“سيدي، من الأفضل أن تعود إلى غرفتك أوّلًا-“
“هل حصل أمر ما؟ لا، بل هناك ما حصل فعلًا.”
نفض كليك يد راندويل الممسكة بكتفه، ودفع باب آسيلت على مصراعيه.
لكن الغرفة كانت خالية.
“أين أخي؟”
وحين التفت وسأل، تردّد الجميع في الإجابة.
شعر أن ثمّة ما يبعث الريبة.
وفجأةً انتبه إلى أنّ جمعًا غفيرًا كان في هذا المكان.
“لحظة… لماذا لا أحد يذهب إلى مابيل؟ لا بدّ أنّها استيقظت وسط هذه الجلبة.”
لقد كانت الضوضاء صاخبة بما يكفي لإيقاظها.
ومن الطبيعي أن تخرج مابيل لترى ما يجري، فإهمالها من قِبَل رجال الدوقيّة أمرٌ غير منطقي.
“…لا يمكن.”
“آه، سيدي!”
قبل أن يتمكّن راندويل من منعه، اندفع كليك راكضًا نحو غرفة مابيل وقد تسلّل إليه خاطرٌ مرعب.
وبينما كانت الغرفة باديةً في آخر الممرّ، رأى أنّ بابها مفتوح على آخره.
ومن خلاله بدت الغرفة فوضى عارمة، وكأنّ أحدهم قد حزَم أمتعته على عجل.
توقّفت قدما كليك بغتةً.
“آه…”
ها هي غرفة مابيل أمامه مباشرة، لكن…
كان يشعر أنّه لا يقوى على التقدّم خطوةً أخرى.
فالجسد أحيانًا يسبق العقل في معرفة الحقيقة.
“أين مابيل؟”
“…”
“قلت لكم أين ذهبت مابيل؟!”
اهتزّ الرواق بصدى صرخته الهادرة.
زئيرٌ غاضب أرعب الكبار حتى انكمشوا على أنفسهم.
مخالبه أخذت تستطيل حادّة كالوحوش، وصوت احتكاك أنيابه كان يقشعرّ له البدن.
امتدّت يد كليك المشتعلة غضبًا لتقبض على راندويل مباشرة.
مزّقت مخالبه الحادّة الثوب وخدشت الجلد.
لكن ما آلَم راندويل أكثر من جراح جسده هو مشهد كليك وهو يبكي مبحلق العينين.
لقد كان مؤلمًا أن يكون هو حامل هذا الخبر.
فغصّ بأسنانه وهو يعضّ لحم فمه الداخلي، ثم تكلّم بصعوبة:
“لقد… عادت إلى آشيلونيا.”
فجأةً ارتخَتْ ساقا كليك فجلس على الأرض.
“يا سيدي!”
أمسكَ راندويل به على عَجَلٍ وساعده على الوقوف، لكن كليك لم يَستطع الصمود أو الوقوف بثبات.
“لماذا…؟”
ارتعشت عيناه بلا رحمة لخبرٍ لم يكن في الحسبان أصلًا.
“بيت مابيل هنا. عائلة مابيل هم نحن. فلماذا…؟”
كان يعلم أن مابيل أميرة آشيلونيا ووريثتها، لكنّه لم يستطع تقبّل سبب رحيلها.
وظنّ، بما أنّ سيغموند قد جاء بها، أن باستطاعتهما البقاء معًا مستقبلًا.
كما عاش مع آسيلت الذي هو من جنسٍ مختلف دون صعوبات حتى الآن.
لكن لماذا إذًا؟
“…هل ربما مابيل رَغبت في الذهاب بنفسها؟”
تردّد راندويل قليلًا عند هذا السؤال الممزوج بخفة من خيانةٍ ضبابية.
فالآن لن تعود مابيل إلى القصر الدوقي على كلٍ.
فهل لا يكون من الأفضل أن تُقال لكِذبةٍ حسنةٍ من أجل طمأنة كليك؟
إلا أنّ إيلا بادرت قبل راندويل.
“لا لا ، أرادَت الأنسة البقاء هنا!”
حتى لو كان ذلك من أجل كليك، لم تستطع إيلا أن تُشَوّه شعور مابيل بحقيقةٍ مخادعة.
وعندما أدرك راندويل فِكرَ إيلا، انقبض قلبه سرًا.
لقد كاد أن يرتكب خطأً جسيمًا بحقّ مابيل.
“كلام إيلا صحيح. لكن… لم يكن بمقدورنا فعل شيء.”
بصعوبةٍ سرد راندويل لكليك قصة تعقّباتٍ بين العائلات.
“أظنّ أنّ مابيل، لعلمها بعدم القدرة على البقاء، تَبعَتْهم طوعًا.”
مع رواية راندويل هدأ كليك ببطء.
عادت مخالبُه الحادّة وأنْيابه إلى طبيعتها، وهدأت خصلات شعره القصير المنتصّبة.
“حسنًا… فهمت.”
أجاب كليك بصوتٍ ضعيفٍ.
فظنّ راندويل أن كليك قد تفهم الأمر.
لم يخطر بباله قطّ أنّ كليك سيختفي تمامًا.
* * *
خرج كليك من قصر الدوق وتحوّل فورًا إلى هيئة ثعلب.
لأن سوين الثعلب كان ذا حاسة شمٍ فائقة ككلب، عزم على تتبّع رائحة مابيل.
لم يكن يعرف مكان قصر دوق آشيلونيا.
وبينما كان يتتبّع رائحتها أيّامًا وليالٍ متواصلة، ما إن وصل حتى وَقَع في فخّ!
“أتركوني! دعوني!”
تمكّن لاندر من الإمساك بمؤخرة عنق كليك؛ فتحوّل إلى إنسانٍ وطرحَ بحركة مضطربة.
كانت قوة لاندر كبيرةً لدرجةٍ أن جسده تَمايل.
وبعد أن نجح كليك أخيرًا في تخلّصه من لاندر والهبوط على الأرض، اندفع فورًا نحو كيسار.
“أين مابيل!”
لكن مهما بذل من قوّةٍ خارقة، فإنه في النهاية طفل.
“يا هذا!”
أُمسِكَ كليك مجددًا من قبل اثنينٍ من الرجال.
“أمسِكوه! أمسِكوه!”
“لا تدعوه يقترب من سمو الدوق!”
وهذا المرّة ألحق الكبار الذين كانوا يفتشون المكان أنفسهم؛ فقيدوا ساقي كليك بإحكام.
“أتركوني! أتركوني!”
إلا أن كليك لم يكلّ، فاضطر إلى النضال والزأر باتجاه كيسار.
“أين أختي يا مختطف!”
“ها، أختك؟”
ضحِكَ كيسار بسخرية، فأحمر وجه كليك غيظًا حتى احمرّت ألوانه أكثر.
“إذا لمستَ شعرة من أختي فستدفع الثمن! لن أترككم تفلتون!”
زأرَ كليك بكلّ قوّته، لكن كيسار لم يكترث لصوته.
تناثر الغبار والأوراق حول كليك، فسأل كيسار كمن يَشمئزّ من اتساخه:
“هل هذا هو فقط من كان يعبث في أراضي قصري؟ أليس هناك آخرون؟”
ما رآه كيسار لم يكن مجرد حيوانٍ فرويّ.
بالتأكيد كان هناك واحدٌ آخر.
“نعم. ربما يختبئ واحدٌ في القصر.”
أجاب لاندر وهو يمسح خده النازف من خدشٍ سبّبته مخالب كليك.
انحنى لاندر باعتذارٍ طائش، فتفوّه كيسار بشقّ الأنفس.
“تسك… احبسوه في السجن تحت الأرض، وفتِّشوا القصر بحثًا عن المختبئ الآخر. إذا عرفت أنّه جاء هنا فسيكون الأمر مزعجًا؛ أعطوا مابيل مهدئًا للنوم.”
“نعم، سيدي.”
“نعم، حاضر.”
انحنى لاندر مرةً أخرى خاضعًا لأمر كيسار.
فعندها اتّسعت عينا كليك الصفراء غضبًا.
“مُهدِّئ؟”
ألم يكن ذلك دواءً سامًّا حتى سيغموند، بصفته راشدًا، كان يتردد كثيرًا قبل أن يتجرّعه!
وكيف يجرؤون على إعطائه لطفلة مثل مابيل!
“توقّفوا! ما الذي تفعلونه بمابيل!”
عاود كليك التخبّط بعنف، لكن سرعان ما كبته الرجال الذين أحضروا اللجام والحبال.
“ممف! ممف!”
“احبسوه في السجن تحت الأرض.”
أمر كيسار ببرود وهو يراقب كليك يصرخ حتى مع فمه المكموم.
وفي تلك الأثناء، كانت مابيل واقفةً على أطراف قدميها، تراقب المشهد كلّه.
“ماذا نفعل؟ أُمسِكوا بأخي كليك!”
“نعم، لقد أُمسِك بكليك.”
خلافًا لذعر مابيل، ظلّ آسليت هادئًا.
“حسنًا، إذن سأذهب الآن… ‘وحدي’.”
“ماذا؟! وأخي كليك؟!”
“مَن يدري. لكن بما أنّه قد جاء إلى هنا، أليس على أحد أن يُخبِر قصر الدوق بما يجري؟”
التفتت إليه مابيل وكأنها تقول له ألا يمزح، لكن آسيلت كان جادًّا.
“إذن نلتقي في قصر الدوق.”
“مـ-مهلًا يا أخي!”
مدّت مابيل يدها لتوقفه، لكن الأوان كان قد فات.
إذ تحوّل آسيلت إلى ثعبان وزحف عبر فتحة النافذة، ليختفي في طرفة عين!
‘مستحيل!’
أسرعت مابيل إلى النافذة، لكن لم يظهر لآسيلت أيّ أثر.
‘ما الذي تفعله حقًّا؟ أهذا واقع؟!’
الذهول الشديد جعل أنفاسها تتلاحق، لكن لم يكن لديها وقت لتضيعَه بالانفعال.
طَرق، طَرق-
“آنستي، حان وقت تناول الدواء.”
دخلت الخادمة.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ سايومي إلى ميل ♡
التعليقات لهذا الفصل " 36"