كاري: ━━━●┉◯⊰┉ الفصل 3 ┉⊱◯┉●━━━
“مابيل، مابيل…”
تسلّلَ صوتٌ منخفضٌ إلى ذهنِ مابيل الغارقِ في الضَّبابِ.
غريبٌ، لا أحدَ في القصرِ يناديني باسمي.
‘إذنْ، لا بدَّ أنَّه حلمٌ.’
بينما كانتْ تفكّرُ أنّها لا تريدُ الاستيقاظَ، شعرتْ بمنْ يمسكُ كتفَها ويهزُّها برفقٍ.
منْ يجرؤُ على لمسي؟
الجميعُ لا ينظرونَ إليَّ حتّى، فكيفَ يلمسونَني؟
فتحتْ عينيْها بصعوبةٍ، وبينَ رؤيةٍ ضبابيّةٍ بسببِ النُّعاسِ، رأتْ شعرًا فضّيًّا.
“أوه، هاه…؟”
“يبدو أنَّ المقعدَ مريحٌ.”
ضحكَ سيغموند بخفّةٍ وهو ينظرُ إلى مابيل المذهولةِ التي لمْ تستعدْ وعيَها بعدُ.
“هاكِ، لقد سالَ لعابُكِ.”
“شكرًا…”
لمْ تعُدْ عينا مابيل إلى التركيزِ إلّا بعدَ أنْ أمسكتْ بمنديلٍ مبلّلٍ.
‘آه، متى نمتُ؟!’
كانتْ متأكّدةً أنّها كانتْ متوترةً، تنتظرُ أيَّ فرصةٍ للنَّزولِ منَ العربةِ!
لكنْ، دونَ أنْ تشعرَ، جفَّ اللُّعابُ الذي سالَ على شفتيْها، وغرقتْ في نومٍ عميقٍ!
‘أغهه، هذا كلُّه بسببِ الحليبِ والخبزِ!’
آخرُ ذكرى لها كانتْ تناولَ خبزٍ طريٍّ وناعمٍ معَ حليبٍ دافئٍ وعطريٍّ.
معَ بطنٍ ممتلئةٍ، ومقعدِ عربةٍ مريحٍ، وسيغموند الذي نظَّفَ وجهَها ويديْها وقدميْها، كانَ منَ الطَّبيعيِّ أنْ يغلبَ النَّومُ جسدَ طفلةٍ متعبةٍ مثلها.
‘البطلُ الثَّانويُّ المرعبُ…!’
فركتْ مابيل فمَها بقوّةٍ، ونظرتْ إلى سيغموند بعينيْن متورّمتيْن لا تُفتحانِ بسهولةٍ.
“لستُ أنا منْ يجبُ أنْ تنظري إليهِ، بلْ إلى النَّافذةِ. هيَّا، انظري هناكَ.”
ضحكَ سيغموند بخفّةٍ وأشارَ إلى النَّافذةِ.
خلفَ غابةٍ كثيفةٍ منَ الأشجارِ الصَّنوبريّةِ، على قمّةِ جرفٍ شاهقٍ، وقفَ قصرٌ أبيضُ شامخٌ.
قلعةٌ محاطةٌ بخندقٍ طبيعيٍّ وقنواتٍ مائيّةٍ، استُخدمتْ فيها الطَّبيعةُ بشلّالٍ عالٍ، قلعةٌ يُعترفُ بها كحصنٍ لا يُقهرُ.
“هذا قصرُ إسكليد الأكبرُ.”
معقلُ البطلِ الثَّانويِّ.
آه، لقدْ وصلتْ إلى هنا إذن…
‘كانت وجهتي دارَ أيتامٍ مناسبةً للأطفالِ!’
لكنَّ الاستسلامَ لمْ يكنْ خيارًا بعدُ.
ألمْ يُقالْ إنَّ الدّخولَ إلى عرينِ النَّمرِ آمنٌ إذا حافظتَ على وعيكَ؟
هذهِ المرَّةَ، سأجدُ فرصةً للهروبِ.
حتّى لو كانتْ قلعةً لا تُقهرُ، يجبُ أنْ يكونَ هناكَ ثقبٌ صغيرٌ يمكنُ لطفلةٍ صغيرةٍ أنْ تتسلّلَ منهُ.
‘يجبُ أنْ أبقى متيقّظةً!’
شدت مابيل قبضتيْها بقوّةٍ.
***
لكنْ عزيمتَها لمْ تدمْ أكثرَ منْ عشرِ دقائقَ.
“لقدْ تعبتِ كثيرًا في الطَّريقِ، أليسَ كذلكَ؟ هلْ تريدينَ كوبًا منَ الكاكاوِ الحلوِ؟”
“يا فتاة، لا بدَّ أنَّ العربةَ جعلتْها تشعرُ بالدّوخةِ، فكيفَ تعرضينَ مشروبًا ساخنًا؟ المشروباتُ الباردةُ أفضلُ. سيّدتي الصَّغيرةُ، ماذا عنْ ليموناضةٍ؟ إنّها منعشةٌ وباردةٌ جدًّا.”
“صحيحٌ، الليموناضةُ فكرةٌ جيّدةٌ. لكنْ، ربَّما نجهّزُ كعكًا حلوًا بدلًا منْ ذلكَ؟”
“الكعكةُ جيّدةٌ أيضًا. معَ الكريمةِ والفواكهِ الكثيرةِ، ستكون شيئًا جميلًا.”
كلَّما تحدَّثتِ الخادماتُ، تحوَّلتْ نظراتُ مابيل منْ هنا إلى هناك.
بمجرَّدِ نزولِها منَ العربةِ، استُدعيَ سيغموند منْ قِبلِ مساعدِه بسببِ أمرٍ طارئٍ، وأُخذتْ مابيل بيدِ خادمةٍ إلى غرفةِ الاستقبالِ.
حتّى جلوسِها على الأريكةِ النَّاعمةِ، بقيتْ مابيل متيقّظةً. المشكلةُ بدأتْ عندما فتحتْ فمَها.
“مرحبًا.”
كلمةٌ واحدةٌ فقطْ!
مجردَ تحيّةٍ، لكنَّ الخادماتِ، اللواتي كنَّ ينظرنَ إليها بتمعّنٍ، ذابَتْ تعابيرُهنَّ، وبدأنَ يتحدَّثنَ منْ كلِّ جانبٍ.
“أخيرًا، سيكونُ لي سيّدةٌ صغيرةٌ في حياتي…!”
“كنتُ أدعو أنْ يحضرَ السَّيّدُ سيّدةً صغيرةً!”
“شهادةُ الحياكةِ بالدَّانتيلِ منَ الدَّرجةِ الأولى، ألمْ تنتهِ فترةُ التَّسجيلِ؟ أريدُ الأنضمامْ مِن أجلِ سيدتنا الصغيرة!”
“يا فتاةُ، انتهتْ فترةُ التسجيلِ تلكَ منذُ زمنٍ! لكنْ، كمْ عمرُ سيّدتِنا الصَّغيرةِ؟ يسألُ الطَّاهي عنْ عددِ الشَّمعاتِ التي يجبُ تحضيرُها لكعكةِ عيد الميلاد.”
إذا عرفتَ عدوَّكَ ونفسَكَ، ستنتصرُ في كلِّ معركةٍ.
كانتْ مابيل طفلةً صغيرةً تعرفُ المستقبلَ بفضلِ تذكّرِها لأحداثِ الرِّوايةِ، لكنْ الخادماتُ أمامَها…
“هاااه… أريدُ أنْ أجعلَ هذهِ الخدودَ ممتلئةً بسرعةٍ…”
“أنا، أغهه، أريدُ أنْ أمشّطَ هذا الشَّعرَ الوفيرَ بسرعةٍ، يا الهي لا استطيع التحمل…”
“سأربطُ شعرَها كلَّ يومٍ بشكلٍ لطيفٍ جدًّا. كمْ سيكونُ ذلكَ رائعًا؟ آآآه!”
آهٍ منهن، كنَّ خصومًا أقوى منْ أنْ تُقاومَ!
‘التَّملّقُ كانَ لطيفًا وممتعًا عندَ قراءةِ الرِّوايةِ فقطْ.’
لكنْ، عندما واجهتْه بنفسِها، لمْ تعرفْ كيفَ تتصرَّفُ.
في حياةِ مابيل البالغةِ ثماني سنواتٍ، لمْ تُحاطْ قطُّ بهذا العددِ منَ النَّاسِ، ولمْ تواجهْ وجوهًا مبتسمةً، ولمْ تُسألْ أسئلةً منْ قبلُ.
‘يجبُ أنْ أبقى متيقّظةً… لا ينبغي أنْ أستسلمَ…’
مثلما شعرتْ معَ نظراتِ سيغموند، كانَ قلبُها يدغدغُها وخدَّاها يسخنانِ بحمرةٍ تشبهُ حُمرةَ الغروبِ الآن.
في النِّهايةِ، أجابتْ مابيل وهي تدحرجُ عينيْها:
“أنا، أممم، في الثَّامنةِ…”
“كياااه! قالتْ إنّها في الثَّامنةِ!”
“يا لها من طفلةٍ صغيرةٍ جدًّا!”
“صوتُها لطيفٌ جدًّا أيضا!!”
“آآه، سيّدتُنا الصَّغيرةُ في الثَّامنةِ! ما اسمُكِ؟”
“اسمي… مابيل…”
“يا إلهي! حتى الاسمُ لطيفٌ أيضًا!”
“كيفَ يكونُ اسمُ شخصٍ ما جميلًا هكذا؟!”
كلَّ إجابةٍ منها كانتْ تُقابلُ بجرعةٍ منَ التَّملّقِ.
كانتْ الأجواءُ مختلفةً تمامًا عنْ قصرِ آشيلونيا، مما جعلَها تشعرُ بالغرابةِ.
“هيَّا، سيّدتي مابيل؟ هذهِ ليموناضةٌ منعشةٌ.”
قدَّمتْ خادمةٌ ترتدي زيًّا طويلًا مشروبًا مليئًا بالثَّلجِ.
كانتْ فقاعاتُ الصّودا ترتفعُ في المشروبِ معَ قطعةِ ليمونٍ صغيرةٍ.
ابتلعتْ مابيل ريقَها دونَ قصدٍ.
لكنْ، عندما رأتِ الخادماتُ أنّها تنظرُ دونَ أنْ تمدَّ يدَها، مالَتْ رؤوسُهنَّ بدهشةٍ:
“ما الأمرُ؟ هلْ لا تحبّينَ المشروباتِ الباردةَ؟ هلْ شعرتِ بألمٍ في بطنِكِ منْ قبلُ؟”
“إذنْ، ماذا عنْ شيءٍ دافئٍ؟ كاكاو حلوٌ، أو ربَّما حليبٌ دافئٌ معَ عسلٍ؟”
“لا، ليسَ هذا…”
مشروبٌ باردٌ؟ لا تكرهُه.
حليبٌ دافئٌ حلوٌ وكاكاو؟ مجرَّدُ سماعِه جعلَ فمَ مابيل يسيلُ.
لكنْ…
“قولي أيَّ شيءٍ تريدينهُ بِراحةٍ، سيّدتي الصَّغيرةُ.”
بعدَ تردّدٍ طويلٍ، همستْ مابيل للخادمةِ التي ركعتْ أمامَها بأدبٍ:
“كمْ سعرُه…؟”
ثم أكملت وهي تهمسُ بصوتٍ خافتٍ:
“ليسَ لديَّ مالٌ…”
كانَ محرجًا أنْ تبدو بخيلةً وفقيرةً هكذا، لكنَّ هذا كانَ حقيقيًّا.
لقدْ تلقَّتْ الكثيرَ منْ سيغموند بالفعلِ. كعكٌ، شوكولاتةٌ، حليبٌ دافئٌ، خبزٌ…
حتّى أنّه استخدمَ هالتَه لإزالةِ الحشراتِ التي كانتْ تدغدغُ رأسَها!
هلْ سيطالبُها بثمنِ العربةِ التي أتتْ بها إلى هنا؟ هلْ تستطيعُ تسديدَ كلِّ ذلكَ؟
بعدَ تقييمٍ عقلانيٍّ، كانَ يجبُ أنْ ترفضَ أيَّ شيءٍ يُعرضُ عليها.
كانَ يجبُ أنْ تفعلَ ذلكَ…
‘لكنَّ هذا مشروبٌ غازيٌّ!’
في ذكرياتِ حياتِها السَّابقةِ، أو شيءٍ منْ هذا القبيلِ، كانَ هذا المشروبُ لذيذًا جدًّا.
وكانَ غاليًا جدًّا أيضًا.
إذا لمْ تشربْه الآنَ، فمتى ستتذوَّقُه مجدَّدًا؟
بينما كانتْ تفكّرُ في إغماضِ عينيْها وتذوّقِه، أدركتْ فجأةً أنَّ المكانَ أصبحَ هادئًا.
شفاهُ الخادماتِ، اللواتي كنَّ يضحكنَ بحماسٍ، أُغلقتْ في خطٍّ مستقيمٍ.
بلْ، كانَ هناكَ ضيَّقٌ في عيونهن حتى.
‘آه، هلْ لأنّني قلتُ إنّني بلا مالٍ؟’
كانتْ تنوي السَّدادَ يومًا ما، لكنْ ربَّما لمْ يكنْ ذلكَ مقبولًا.
بينما كانتْ مابيل تُديرُ رأسَها بعيدًا عنِ الليموناضةِ، قالتْ خادمةٌ:
“…إنّه مجّانيٌّ.”
كانتْ حواجبُ الخادمةِ التي تنظرُ إلى مابيل قدْ هبطتْ.
كانتْ عيناها النَّاعمتانِ مملوءتيْن بالدُّموعِ.
“لذا، لا تفكّري هكذا واشربي فقطْ. كما تشائينَ، سيّدتي، بقدرِ ما تريدينَ…”
“نعمْ، صحيحٌ. الأطفالُ الصِّغارُ لا يحتاجونَ للتَّفكيرِ في هذهِ الأمورِ.”
“على الأقلِّ لا تفكّري بهذا هنا، سيّدتي الصَّغيرةُ.”
تحدَّثتِ الخادماتُ الأخرياتُ وهنَّ يكتمنَ دموعَهنَّ.
وعلى غرار هذا…ارتجفتْ مابيل عندَ كلماتِهنَّ.
‘هنا…’
كانتْ العلاقةُ بينَ دوقيّةِ آشيلونيا ودوقيّةِ إسكليد سيّئةً.
جزءٌ منْ ذلكَ بسببِ كونِهما عائلتيْ البطلِ والبطلِ الثَّانويِّ، لكنَّ السببَ الأكبرَ كانَ عنادَ كايسر.
في الرِّوايةِ، كانَ كايسر دائمًا يعاني منَ النَّقصِ، وكانَ يتوقُ لانتقادِ سيغموند.
على عكسِ كايسر، الابنِ غيرِ الشَّرعيِّ، كانَ سيغموند ابنًا شرعيًّا ومتفوّقًا في كلِّ شيءٍ.
‘لذا، إذا عرفوا أنّني منْ آشيلونيا، سيشعرونَ بالانزعاجِ.’
على الأقلِّ، لنْ يكونوا لطفاءَ وودودينَ هكذا.
معَ هذهِ الفكرةِ، أصبحَ منَ الأصعبِ عليها مدُّ يدِها إلى الليموناضةِ…
“هيَّا، سيّدتي. إنّها منعشةٌ ولذيذةٌ حقًّا.”
فقاعاتٌ تخرج من الكأس ورائحةُ ليمونٍ خفيفةٌ تداعبُ أنفَها.
في النِّهايةِ، لمْ تستطعْ مابيل مقاومةَ إغراءِ الصّودا، فأغلقتْ عينيْها وأمسكتِ كأس الليموناضةَ.
عندما شربتْ بحذرٍ منْ قشَّةٍ زجاجيّةٍ شفَّافةٍ، اتّسعتْ عيناها الحمراوانِ.
‘ما هذا…الطَّعمُ…؟!’
انتشرَ الطَّعمُ الباردُ المنعشُ في جسدِها الصَّغيرِ.
“هواااه…”
ذابتْ مابيل تمامًا معَ طعمِ الصّودا الذي تتذوقهُ لأولِ مرةٍ.
‘آه… حتّى لو غرقتُ في ديونٍ ضخمةٍ، لنْ أندمَ على هذا…’
كانتْ مرارةُ الفشلِ الثَّانيةُ منعشةً وباردةً هذه المرة.
***
بعدَ انتهاءِ سيغموند منْ أمرٍ طارئٍ، سارعَ إلى غرفةِ الاستقبالِ.
حيث كانتْ الطِّفلةُ التي كانتْ تصرخُ ‘ هذا اختطافٌ’ وتطالبُ بالنَّزولِ وهي نصفُ نائمةٍ بينما تدخلُ العربةُ الطريق إلى القصرَ.
فضلًا عنْ ذلكَ، كانتْ مابيل منْ آشيلونيا. لمْ يُظهرِ الخدمُ انزعاجَهم أمامَه، لكنْ أمامَ الطِّفلةِ، قدْ يكونُ الأمرُ مختلفًا.
لهذا، أسرعَ في خطواتِه.
لكنْ…
“ما هذا الصَّفُّ؟”
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي إلى ميل.♡
التعليقات لهذا الفصل " 3"