الفصل 23
“ما هذا بحقّ خالق السماء؟”
كان آسيلت يرفع ساق النظّارة ليتفحّصها ذهابًا و أيابًا بدهشة، إذ لم يسبق له أن رأى مثلها من قبل.
“السيّد آسيلت، السيّد كليك. الآنسة مابيل جاءت لزيارتكم.”
“هـيك! لـ-لا! أنا فقط أردتُ أن أطمئنّ عليكم فحسب……!”
جاء صوت الخادمة، ومعه صوت مابيل، من خلف الباب.
في تلك اللحظة تجعّد وجه كليك على الفور.
“تسك، لقد قلتُ لها بوضوح أن ترحل.”
“ماذا؟ قلتَ لها أن ترحل؟”
“أجل، هي لا تكفّ عن التسكّع أمام غرفة أخي. ممسكةً بتلك.”
وأشار كليك بذقنه إلى النظّارة التي كان آسيلت يحملها.
“فقلتُ لها أن تختفي عن وجهي. فهي السبب في إصابة أخي، فهل يودّ رؤية وجهها أصلاً؟”
قال كليك ذلك بعينين تملؤهما آثار الدموع، لكنّ نبرته كانت مليئة بالاعتداد، وكأنّه ينتظر المديح على ما فعل.
غير أنّه لم ينتبه إلى أنّ وجه آسيلت بدأ يتيبّس شيئًا فشيئًا.
“على كلّ حال، هي قالت لي ذلك. أن أوصل هذه إليك، ثمّ لن تأتي مجددًا. فكيف تعود عن كلامها؟ لا عجب، فهي ابنة تلك المرأة صوفيا—”
“كليك، انتبه لكلامك.”
“هاه؟”
“قبل أن تكون ابنة تلك المرأة، فهي الآن مساعدة المعلّم.”
“ماذا؟”
قال آسيلت بنبرة صارمة وهو يرفع صوته قليلًا نحو الباب:
“ادخلي، يا مابيل.”
“أخي……؟”
فتح كليك عينيه الصفراوين وأخذ يرمش محدّقًا بأخيه.
‘ألم يكن قبل أيّام فقط يرتجف من الغضب لمجرّد ذكرها؟’
أليس بسبب تلك الفتاة نفسها أصيب أخوه بهذه الجراح؟
أدار كليك ما أوتي من عقل بسيط، لكنّه لم يستطع أن يجد تفسيرًا واحدًا.
وما هي إلّا لحظات حتى انفتح الباب، لتقف مابيل في العتبة متردّدة لا تدري ما تفعل.
وما إن رأت كليك حتى لوّحت بيدها الملفوفة بالضماد بعجلة وهي تبرّر:
“ل، لم أعصِ أوامر السيّد كليك! إنّما أنا فقط—”
“لم تعصي أوامري؟! لقد قلتُ لك ألّا تأتي! أنتِ السبب في إصابة أخي!”
زمجر كليك مبرزًا أنيابه وكاد أن ينقضّ عليها.
“كليك.”
لولا أنّ آسيلت مدّ يده فأمسكه، لكان أنقضّ بنفسه عليها.
“آه، لماذا تمنعني!”
صرخ كليك غاضبًا من إيقافه.
لكنّ اندفاعه ما لبث أن خبا.
“كفى، واخرج الآن.”
قال آسيلت بوجه متجمّد وصوتٍ هادئ يخفي الغضب.
لم يستطع كليك أن يستوعب الموقف.
‘لماذا……؟’
هي المخطئة.
هي السبب في جراح أخيه.
فلماذا يُطرَد هو بدلًا منها؟
لماذا يطرده أخوه؟!
كانت الكلمات تملأ صدره، لكنّ قهره أسكته أمام صرامة آسيلت.
فما لبث أن احمرّت عيناه وهو يحدّق بأخيه، ثم ضرب الأرض بقدميه بعنف وغادر الغرفة.
“أغغ!”
ولم ينسَ أن يصدم كتفه بمابيل وهو يمرّ، وإن لم يكن بالقوّة الكافية لإسقاطها.
“كليك!”
ارتفعت صرخة آسيلت وهو يزيح الغطاء عن جسده، إذ كادت مابيل أن تترنّح وتسقط.
لكنّ كليك لم يتوقّف، بل زادته المرارة اندفاعًا، فأخذ يركض في الممرّ هاربًا.
“أخي الأحمق!”
صرخ بأعلى صوته حتى دوّى صدى كلماته في أرجاء الممرّ.
“هذا الصبي…….”
تنهد آسيلت مبحوحًا من الألم الذي وخز ظهره وهو يحاول ضبط نفسه.
ثم وقعت عيناه على مابيل، التي كانت تعبث بأطراف أصابعها مرتبكة، فاسترخى وجهه وأطلق تنهيدة.
“هل فزعتِ؟ تعالي هنا.”
“آه، ذ-ذاك…….”
لمّا التفتت مابيل إلى الوراء متردّدة، أشار آسيلت بيده.
“دعيه. لا تهتمّي. سأهدّئه بنفسي فيما بعد.”
“حسنًا…….”
اقتربت مابيل بخطوات حذرة وجلست على الكرسي بجوار سريره.
“كيف حالك الآن؟”
“هاه؟ آه، ليس سيّئًا. ظهري يؤلمني قليلًا، لكن بصري بخير.”
“هذا جيد!”
وضعت مابيل يدها على صدرها بارتياح وقد بدا أنّها كانت قلقة للغاية.
“لقد سمعتُ أنّ الدماء سالت بغزارة، فخفتُ كثيرًا.”
“شكرًا. وأنتِ؟ هل أنتِ بخير؟”
رمق آسيلت يدها الملفوفة بنظرة سريعة.
“آه، أجل! إصابتي طفيفة. كلّه بفضل السيّد، شكرًا لك.”
“لا بأس. المهم أنّك لم تُصابي إصابة كبيرة.”
ابتسم آسيلت بخفّة.
“هُمم…….”
ارتبكت مابيل أمام لطفه النادر، وأخذت تعبث بأصابعها.
وفيما هي تفكّر بما يمكن أن تقول، سبقها آسيلت بالكلام.
“في المرّة الماضية كنتُ أنا المخطئ.”
“نعم؟”
“أعني حين كنتُ قاسيًا معكِ.”
“آه، آه…….”
تفاجأت مابيل إذ لم يخطر ببالها أن يعتذر لها آسيلت.
حكّ آسيلت خدّه بابتسامة متردّدة، وقد ظهر عليه الخجل.
“في الحقيقة، لقد استمعتُ خلسةً إلى حديثكِ مع إيلا. فغضبتُ قليلًا…… لأنّك أصبتِ كبد الحقيقة.”
“الحقيقة؟”
“أجل. كنتِ محقّة، مابيل. لم أُرد قطّ أن يخافني الناس. كرهتُ أن أُعامل كوحش. لذلك لبستُ العِصابة على عيني.”
“آه…….”
“لكن باستثناء المعلّم وكليك، لم ينتبه أحد إلى تلك الحقيقة. وأنتِ كنتِ الأولى التي لاحظتها. وهذا ما أزعجني.”
خفض آسيلت بصره إلى الفراش، ثم انحنى قليلًا نحوها.
“أعتذر. لقد أسأتُ إليكِ.”
أسرعت مابيل تهزّ رأسها نفيًا.
“لـ-لا! لم تُسئ إليّ يومًا!”
“بلى. لقد نزعتُ العِصابة أمامكِ عمدًا، لأفضحكِ أمام الآخرين وأقول إنّكِ منافقة تدّعين فهمي.”
وأخذ يسرد مشاعره في ذلك اليوم، وكيف تراكمت شكوكه تجاهها منذ اللحظة التي تصلّبت فيها ملامحها عند رؤيته.
ظنّ أنّها تجمّدت لاكتشافها حقيقته، أو لأنّ شكله قبيح.
عندها انتفضت مابيل وصاحت باندهاش:
“قبيح؟! بوجهٍ وسيم كهذا؟! ألم تنظر إلى المرآة قطّ؟!”
ثم أخذت تسرد له أيّ الملامح في وجهه جميلة وكيف يراه الناس، بكلمات جعلت وجه آسيلت يحمرّ.
لم يسبق له أن نزع العِصابة أمام أحد، ولا سمع من أحد حديثًا عن مظهره.
فكان هذا أوّل تقييم صريح يسمعه عن وسامته.
“كفى، كفى. فهمتُ.”
“لا، لم أنتهِ بعد. شعرُك وحده—”
كان اندفاعها مبالغًا فيه، حتى خشي أن تكون هذه عادة سيّئة اكتسبتها من ملازمة إيلا.
“قلتُ كفى! لستُ قبيحًا. أدركتُ هذا الآن!”
قاطعها آسيلت ملهوفًا ووجهه متوهّج بالحمرة.
“حسنٌ إذن.”
ابتسمت مابيل في رضا، وعادت تُصغي إلى حديثه.
تنحنح آسيلت وأكمل:
“على أيّ حال، أنتِ غيرٌ عن صوفيا. لكنّي حاولتُ أن أكرهكِ بسببها، وكان ذلك خطأً.”
ثم اعتذر مرّة أخرى.
ارتبكت مابيل وألحت عليه أن يرفع رأسه.
وحين لم يفعل، تمتمت هي الأخرى:
“لا، لستَ وحدك. أنا أيضًا تذكّرتُ شخصًا آخر، شخصًا سيّئًا جدًّا…… وليس أنت.”
لم تجرؤ على القول إنّها تذكّرته كونه شرير الرواية. فاكتفت بتغيير الكلام.
“أنا المخطئة أيضًا. أعتذر.”
وأحنَت رأسها كما فعل.
نظر آسيلت إلى خدودها المستديرة، ثم انفجر ضاحكًا.
“إذن، نحن ارتكبنا الذنب نفسه.”
“نعم؟ آه، أ-أيمكن أن يُقال ذلك؟”
“أجل. فلنصفح عن بعضنا إذن.”
مدّ يده نحوها. كان قد مدّها يوم التقيا أوّل مرّة، لكن هذه المرّة كان شعوره مختلفًا.
“موافقة!”
ابتسمت مابيل ابتسامة مشرقة وأمسكت يده بقوّة.
لاحظ آسيلت أنّها ارتعشت قليلًا من شدّة قبضتها على جرحها.
“هل يؤلمكِ؟ دعيني أنظر.”
أسرع آسيلت يُبعد يدها ليفحصها، لكنّها امتنعت قائلة إنّها بخير.
“بالمناسبة، هل رأيت النظّارة الشمسية؟”
“النظّارة الشمسية؟”
★ تـرجـمـة: لـيـنـو ~★
التعليقات لهذا الفصل "23"