الفصل 22
المشاعر التي كانت تربكُ رأسه نزلت إلى صدره، كأنّها تمزّق قلبه من الداخل.
“لماذا… لماذا أنتِ بالذات….”
تمتم آسيلت بصوتٍ خافت.
كانت مابيل تهمّ بالنهوض، لكنّها توقّفت عند سماع ذلك الصوت.
الألم من شظايا الزجاج المغروسة في كفّها كان كافيًا ليُغرورقَ الدمع في عينيها، لكنّها تماسكت.
الآن، كلّ ما أرادته هو أن تسمع حديث آسيلت.
نصبت مابيل أذنها باهتمام.
“أنا لا أعترف بكِ. ولن أعترف.”
كان في صوت آسيلت مسحةُ ألمٍ واضحة.
لقد كان يعرف تمامًا كم كانت جريمة صوفيا في حقّ سيغموند عظيمة، وكم عانى بسببها.
لم يستطع يومًا أن يغفر لها.
ولذلك، لم يكن بمقدوره أن يقبل ابنتها مابيل أيضًا.
حتى وإن كانت مابيل لا تُميّزه لا بمظهره ولا بجنسه.
حتى وإن كانت هي الشخص الذي انتظره طويلًا ليفهم قلبه.
‘ما دمتُ أُبغض صوفيا، تلك المرأة… فلا بدّ أن ينكسر كلّ شيء يومًا ما.’
فالأفضل ألّا يبدأ شيئًا من الأساس.
لكن….
“لا بأس إن لم تعترف بي. فأنا أصلًا لا أنوي أن أحظى باعترافك يا سيّدي.”
“…ماذا؟”
“أليس كذلك؟ أنا مُساعدة السيّد سيغموند، لا مُساعدتك أنت.”
عند كلماتها الجريئة، شعر آسيلت وكأنّ كلّ قواه خارت.
“ثمّ إنّك تعرف… في الحقيقة، أنا أيضًا أكره أمّي.”
كان ذلك اعترافًا من قلب مابيل لم تُفصح به لا لسيغموند ولا لإيلا.
في الواقع، لم تتح لها الفرصة.
فالكبار لم يذكروا أمامها قطّ شيئًا عن آشيلونيا.
كانت تدرك أنّهم فعلوا ذلك مراعاةً لمشاعرها.
لكن بسبب ذلك، لم تستطع هي أيضًا أن تُفصح بما تحمله تجاهها.
تمامًا كما حدث مع آسيلت الذي حُمِيَ من طرفٍ واحد.
“لذلك، حتى وإن كرهتَ أمّي كما تشاء، فهذا لا يخصّني.”
بينما كانت كلماتها تتخلّلها ابتسامة، كاد آسيلت أن يُرخِي يده.
حرّك شفتيه بصعوبة، ثمّ أخرج صوته بعد جهد.
“لماذا أنتِ….”
تقولين دائمًا ما أريد سماعه؟
كان على وشك أن يسأل، مُجاهدًا صوته المحبوس في حلقه، حين—
“يا آنسة…!”
ارتفع صوت خطواتٍ مسرعة، وظهرت إيلا وهيسين.
شهقا كلاهما عند رؤيتهما لآسيلت وقد تحجّرت ساقاه، و مابيل جالسة فوق الزجاج.
“أختي!”
عند صوت إيلا، فتحت مابيل عينيها بلا وعي، ثمّ سارعت إلى إغلاقهما ثانية.
“أنا بخير! هذا فقط…. آه!”
حاولت النهوض وهي مغمضة العينين، لكنّها فقدت توازنها وكادت تسقط.
‘ستسقط!’
لو سقطت هكذا، لغرست شظايا الزجاج أعمق.
انكمشت مابيل استعدادًا للألم.
لكن مهما مرّ الوقت، لم تشعر بوخز الشظايا في جلدها أو ثيابها.
“آه…؟”
حين فتحت عينيها بحذر، سمعت صرخة إيلا وهيسين.
“يا للمصيبة!”
“يا سيّدي!”
ارتبكت مابيل حين وجدت وجه آسيلت أمامها مباشرة.
“سيّدي…؟”
“أنتِ….”
كان وجه آسيلت مُلطّخًا بالدموع والدماء، وعليه ملامح ألمٍ شديد.
“كوني أكثر حذرًا…”
آنذاك فقط أدركت مابيل أنّه ضمّها وحماها بجسده، وسقط معها.
فرفعت جسدها بسرعة.
“آسفة!”
“أهغ…”
حين اعتدل آسيلت، بدا موضع الجرح حيث انغرس الزجاج محمرًّا واضحًا.
اشتدّ الألم في ساقه، ففتح عينيه فجأة.
“ساقي…؟”
لقد كانت قبل قليل متحجّرة كالصخر، لكنّها الآن عادت لطبيعتها.
“ماذا نفعل، أختي إيلا! أختي إيلا، آ…. آه؟”
كانت مابيل تلوّح مستغيثة بإيلا، ثمّ صمتت فجأة عند سماع ترديد آسيلت.
لو كانت ساقاه متحجّرتين، لما استطاع أن يمدّها ليحميها!
نسي آسيلت أن ينهض، وأخذ يُحرّك قدمه بحذر.
لقد تحرّر فعلًا من التحجّر.
“يا سيّدي، هل استطعتَ أن تُبطل قدرتك؟”
“لا، لا… هذا أوّل مرّة يحدث لي شيء كهذا…”
أجاب آسيلت على سؤال مابيل بذهول.
فهو لم يسبق له يومًا أن فكّ قدرته بعد إطلاقها.
كان كلّ من تحوّل إلى حجر يضطر للانتظار ساعاتٍ حتّى يزول الأثر.
وكليك الذي تحجّر مرارًا لم يكن استثناءً.
لكن لم يكن ثَمّة وقتٌ للتفكير في ما حدث.
“أسرعوا، أحضروا الطبيب!”
“الآنسة والسيّد قد أُصيبا بجراحٍ خطيرة!”
بمجرد صراخ إيلا وهيسين، عاد القصر الكبير إلى صخبه بعد أن كان متجمّدًا كأنّ الزمن توقّف.
“انتظروا، لم أضع العصابة بعد…!”
حاول آسيلت أن يُغطي عينيه بعجلة، لكن هيـسين الذي اندفع نحوه أمسك بيده ومنعه.
“يجب أن نفحص عينيك أيضًا. ألا ترى الدماء الغزيرة؟”
“لكن إن حوّلت الطبيب إلى حجر—”
“لا بأس. سيزول الأمر مع الوقت. ثمّ إنّ الأهم أنّك يا سيّدي لقد استطعتَ التحكّم بقوتك أخيرًا، أليس كذلك؟”
كان على وجه هيسين خليطٌ من القلق والاعتذار، لكنّه كان مفعمًا بالإيمان بآسيلت.
لم يكن فيه أيّ أثرٍ للخوف بعد الآن.
سواءً لسمع الناس كلام هيـسين، أو لأنّ جراح آسيلت كانت أكثر إلحاحًا، فقد اندفع الجميع إلى قاعة النشاط.
“ها هنا! ماء دافئ ومناشف!”
“وملقط لإخراج الشظايا!”
“بينسون ذهب لإحضار الطبيب، سيصل قريبًا!”
وبينما كان الجميع يُحيطون بآسيلت وملامح القلق مرتسمة على وجوههم، كانت العصابة القديمة ملقاة تحت أقدامهم.
قد داسها الكثيرون، وتقطّعت بشظايا الزجاج، فلم تعد صالحة للاستعمال.
***
استفاق آسيلت بعد ثلاثة أيّام.
جُرح ظهره احتاج إلى أربع غُرز فقط، لكنّه ظلّ فاقدًا للوعي أيّامًا بسبب انفلات قدرته.
وحين فتح عينيه، مدّ يده إلى الطاولة الجانبيّة كعادته باحثًا عن العصابة.
لكن الطاولة كانت خالية.
‘آه، صحيح.’
آخر ما يذكره عن العصابة أنّها كانت ملقاة تحت الأقدام.
لكن هذه المرّة، على خلاف السابق، لم تُمحَ ذاكرته.
“هل عليّ أن أطلب واحدة جديدة….”
تمتم آسيلت وهو ينظر إلى الطاولة الفارغة، فجاء صوت طرقٍ من الخارج.
“أخي، استيقظت؟”
إنّه كليك.
“نعم، استيقظت.”
ما إن جلس آسيلت ببطء على السرير حتى اندفع كليك إلى الداخل.
“أخخخييي!”
كان وجه كليك وعيناه منتفخين من كثرة البكاء.
من الواضح أنّه قضى الليالي السابقة باكيًا دون انقطاع.
ابتسم آسيلت بخفوت وهو يربّت على شعره المنكفئ على صدره.
“يبدو أنّك بكيتَ كثيرًا؟”
“طبعًا! هل تعرف كم فزعت؟!”
رفع كليك وجهه المبلّل بالدموع وحدّق في آسيلت بغضبٍ.
“فجأة سمعتُ ضجّة وشممتُ رائحة دمك، ثم قالوا إنّك أُصبتَ بجراحٍ خطيرة!”
كان وقتها يتدرّب في ساحة القتال على الدمى الخشبيّة، ولم يسمع الخبر إلّا متأخرًا.
أراد أن يهرع مباشرة إلى القاعة حيث كان آسيلت، لكنّ الخدم منعوه بحجّة أنّ المكان خطر.
“كان الأطبّاء في فوضى! ثمّ، ثمّ لم تستفق، وقالوا إنّ قوتك أنفلتت! ظننتُ أنّك نسيتَ كلّ شيء مجددًا!”
وانفجر باكيًا من جديد.
كان كليك قد بلغ العاشرة لتوّه، ومع أنّه يختلف عن آسيلت في النوع والجنس، إلّا أنّهما كانا كالأشقاء.
فقد أُلقيَ كليك الصغير في قفص آسيلت ليكون طعامه، لأنّه كان جريحًا ولم يستطع التحوّل إلى هيئة بشريّة.
لكن آسيلت لم يلتهمه، بل اعتنى به حتى تعافى.
ومنذ ذلك اليوم لم يفترقا أبدًا، وصارا أقرب من إخوة الدم.
“نعم، لا بدّ أنّك ارتعبت.”
“ارتعبتُ أكثر من ذلك! لو لم تكن موجودًا… أنا حقًا…!”
شهق كليك ورفع رأسه وهو يشهق بأنفه، فصدر صوتُ ارتطامٍ معدني.
تجمّد وجهه بغتة.
“آه، صحيح.”
مسح دموعه بكمّه بسرعة، ثمّ مدّ يده إلى جيبه.
مشاعر كليك في العادة لا تدوم أكثر من عشر ثوانٍ.
تلك البساطة كانت إحدى حسناته، لكن آسيلت الذي تأثّر بصدقٍ شعر بقليل من الخيبة.
“خذ.”
قالها كليك وهو يمدّ شيئًا نحوه.
“تلك الفتاة أعطتني هذا لأُسلّمه لك.”
“تلك الفتاة؟”
سأل آسيلت، فأومأ كليك بضجر.
“نعم، ابنة صوفيا. قالت إنّه ربّما لم تعد بحاجة إليه الآن، لكنّها صنعته لك على كلّ حال.”
“من أجلي…؟”
أخذ آسيلت الشيء بحذر من يديه.
كان نظّارة.
الاختلاف الوحيد أنّ عدستيها كانتا مطليّتين بالسواد.
★ تـرجـمـة: لـيـنـو ~★
التعليقات لهذا الفصل "22"