الفصل 21
“أه؟ آسيلت، سيّدي؟”
التفتت مابيل التي كانت جالسة بهدوء على الكرسي إلى الخلف.
فالتقت عيناها الحمراوان بعيني آسيلت البيضاء في الفراغ.
لكن… لم يحدث شيء.
وكان ذلك طبيعيًّا.
فقد مضى زمن طويل منذ أن أصبح آسيلت قادرًا على التحكّم بقوّته.
صحيح أنّه لم يكن كامل السيطرة بعد، إلّا أنّه كان واثقًا من أنّه لن يخطئ.
ومع ذلك لم يصدّقه الناس أبدًا.
-“ألم يقولوا إنّ البازيليسق يُحوِّل أمَّه إلى حجرٍ فور ولادته؟”
-“نعم، لذلك يفقد كثير منهم أمّهاتهم. فالابن هو من يقتل أمَّه.”
كان بعض أفراد بيت الدوق منشغلين بترديد معلومات غير مؤكّدة سمعوها من هنا وهناك.
لكنّها لم تكن سوى خرافاتٍ سخيفة.
‘قدرة البازيليسق تقوى مع النضوج.’
فآسيلت، وهو ما يزال صبيًّا، لم تتجاوز قوّته حدّ تحويل أحدهم إلى حجرٍ لبضع ساعات ليس أكثر.
بل إنّه حين خرج من البيضة لتوّه، كان على عينيه غشاء يمنعه أصلًا من استخدام تلك القدرة.
ولو أنّهم جالوا قليلًا في السوق السوداء أو سوق “أنصاف البشر” المنتشر حديثًا، لعرفوا هذه الحقائق فورًا.
لكن أفراد بيت الدوق لم يكونوا يعلمون.
فهم يعتبرون أنفسهم “أناسًا صالحين لا يشترون ولا يبيعون أنصاف البشر”.
وفي هذا العصر الذي ساد فيه الاعتقاد أنّ دراسة خصائص أنصاف البشر لا يقوم بها سوى المهرّبين، لم يكن الخدم ليكلّفوا أنفسهم بالدراسة من أجل آسيلت.
غير أنّه، كما أنّ الإنسان الصالح ليس بالضرورة صالحًا للجميع، فكذلك قد يؤذي الطيبُ أحيانًا لأنّه طيبٌ أكثر من اللازم.
ولهذا التناقض ظلّ آسيلت دائمًا وحيدًا ومعزولًا.
حتى حين كان يستأذن كليك، ويُظهر لهم أنّه حوَّله إلى حجر ثم أعاده سالمًا، لم يكن ذلك يشفع له.
فكلّ ما كانوا يركّزون عليه أنّ آسيلت قد خلع عصابة عينيه.
وحين سأل سيغموند إن كان عليه أن ينبّه الناس بنفسه، هزّ آسيلت رأسه نافيًا.
فما النتيجة؟ لم يعد الأمر سوى أنّهم يتحمّلون خوفهم تنفيذًا لأوامر سيغموند.
لكن آسيلت لم يكن يريد هذا.
ما كان يرجوه هو ألّا يشيحوا بأبصارهم حين يلتقون به، وألّا يتحقّقوا أولًا من أنّه يضع عصابته قبل أن يقتربوا منه…
كان يريد أن يُعامَل ببساطة كإنسان عادي.
بل ليتهم ميّزوه كـ”نصف أنسان”، فهذا أهون من أن يعاملوه كوحشٍ يخشون حتى الاقتراب منه.
‘لكن لعلّ هذا أيضًا طمعٌ منّي.’
لذلك، فسبب اتّساع عيني مابيل الآن وجمودها مكانها… لم يكن سوى شدّة صدمتها.
فهي إن أصابها فزع شديد لا تستطيع الكلام، ولا حتى التنفّس كما ينبغي.
‘تمامًا كما حدث أوّل مرة رأتني فيها.’
كان من الطبيعي أن تتجمّد حين ترى وجهه القبيح وعيني البازيليسق معًا.
وحيث إنّ نتيجة هذا الأمر كانت محسومة، همَّ آسيلت أن يدير وجهه بعيدًا.
“العِصابة… لا بأس إن لم تضعها؟”
“……ماذا؟”
رفع رأسه مندهشًا، فإذا بمابيل تقفز فرِحة في مكانها.
“إنّه حقيقي! لم أتحوّل إلى حجر.”
رفعت يديها تحدّق فيهما ثم سألت من جديد:
“هل تستطيع حقًّا التحكّم بقوّتك؟”
وكلّ هذا وهي تنظر مباشرة في عينيه البيضاوين.
في تلك اللحظة، كان آسيلت هو من تجمّد كالحجر.
فلم يتوقّع هذا أبدًا.
كان يظنّها ستصرخ.
أو ترتمي في أحضان من حولها باكية.
لكنها لم تصرخ، ولم تبكِ، ولم تستدعِ أحدًا.
بل تقدّمت نحوه بخطى ثابتة وعينين صافيتين تحدّقان فيه مباشرة.
“أ… أنتِ، أنتِ… ألستِ خائفة منّي؟”
تراجع آسيلت بخطوة إلى الوراء، فيما غمر مابيل إحساس غريب بالتكرار.
‘أين سمعتُ هذه الكلمات من قبل؟’
أخذت تفكّر قليلًا حتى أدركت الحقيقة.
-“أ… أتَراني، حقًّا…؟”
كان هذا شبيهًا بما قالته لسيغموند.
حينما نظر إليها مباشرة وأجابها للمرة الأولى.
حين لم تصدّق أنّها تحادثه حقًّا فسألته مرارًا في تلك اللحظة.
فتذكّرت ذلك المشهد، وأخذت تبتسم بخجل وهي تهزّ رأسها.
“ما دمتُ لم أتحوّل إلى حجرٍ وأنا أنظر في عينيك، فهذا يعني أنّك لا تنوي ذلك. إذن لا، لستُ خائفة.”
ثم أضافت مبتسمة أنّه بدا أجمل بكثير حين نزع عصابته، واقتربت منه بخطوات ثابتة كلّما ابتعد.
“آه!”
-تَحطّم!
جاء صوت ارتطام حاد من ناحية الباب.
فقد أسقطت الخادمة الصينية الفضّية المملوءة بأدوات الشاي حين رأت آسيلت بلا عصابة عين.
ارتبك آسيلت واندفع منه وميض قوّته.
“آه…!”
لقد كان خطأً.
غير أنّه أسرع ينظر إلى الأرض بدلًا من الخادمة، فانعكست قوّته على الصينية الفضّية الساقطة ثم ارتدّت نحوه.
“آه! سيّدي، ساقاك!”
وفي لحظة، تحجّر نصفه السفلي.
“اللعنة…”
ومع أنّ التحجّر سينقشع بعد مرور بعض الوقت، إلّا أنّ المشكلة لم تكن في ذلك.
“آآآآه!”
فقد أطلقت الخادمة، التي كادت أن تتحجّر، صرخة هستيريّة تستنجد بالآخرين.
وكانت هذه الخادمة هي إحدى اللواتي يخشين قدرة آسيلت.
“ما الذي يحدث؟”
“ما الأمر بحق خالق السماء…!”
ارتفعت أصوات التكسير ثم تلتها صرخة الخادمة، فاجتمع الناس في لحظة.
ورأوا جميعًا ساقَي آسيلت وقد تحجّرتا.
الوجوه التي طالما كانت ودودةً رقيقة تحجّرت بدورها، وبدأت تكسوها طبقة الخوف في لمح البصر.
“أرجوكم، انتظروا قليلًا! الأمر بخير! لأنّـ…”
حاولت مابيل أن تدافع عنه، لكن بلا جدوى.
“آآآااه!”
“النّجدة! أنقذونا!”
صرعهم الذعر حين شاهدوا آسيلت متحوّل الساقين، فانطلقوا هاربين مذعورين.
وما هي إلّا لحظات حتى زاد خوفهم بعضهم بعضًا، فلم يسعَ أحد منهم لفهم ما حدث حقًّا، بل اندفعوا عشوائيًّا.
يتدافعون للخروج، ويتصادمون يمينًا ويسارًا، حتى انقلبت أثاثات غرفة الأنشطة رأسًا على عقب.
-واااااج! قددددوم!
تحطّم زجاج الطاولات، وتدحرجت الكراسي أرضًا.
“آه…!”
بلغت الضوضاء حدًّا جعل مابيل تسدّ أذنيها وتجلس أرضًا مرتجفة، وكأنّها في ساحة حرب.
وفي الجهة الأخرى، كان قلب آسيلت يخفق باضطراب منذ أن واجه هذه الفوضى العارمة والرعب المباشر من الناس.
‘اهدأ… أهدأ أيّها الأحمق…’
لكن مهما ألحّ على نفسه، لم يُجدِ ذلك.
فداخل جفونه المطبقة بقوّة، كانت صور الخادمة المتحجّرة والوجوه المشوّهة بالرعب ترتسم بوضوح.
الصرخات المستغيثة… الأجساد الهاربة…
كلّها مشاهد لم يكن يريد مواجهتها يومًا، فإذا بها تنغرس في قلبه جروحًا عميقة.
“آه… أُغـ…”
أمسك آسيلت بعينيه بكلتا يديه في هلع.
لم يكن واهمًا.
عيناه كانتا تحترقان وكأنّهما تذوبان نارًا.
قدرة البازيليسق كانت تفلت من السيطرة!
“تبًا…”
ومن بين أصابعه المشدودة تسلّل سائل دافئ.
هل هي دموع؟
لا… إنّه ليس كذلك، فلرائحته مذاق دمويّ حاد.
“هذا… دم؟”
“سيّدي…؟!”
شهقت مابيل وهي ترى الدم يسيل من ظهر كفّيه، وقد جلست مذهولة على الأرض.
‘ما زالت هنا؟’
ارتجف آسيلت وأطبق بقوّة أكبر على عينيه صارخًا:
“لا تقتربي!”
“لكن… إنّها دماء!”
“قلتُ لك لا تقتربي!”
صرخ آسيلت بأعلى صوته، قاسيًا على نفسه أكثر من غيره.
كان عاجزًا عن مغادرة المكان، فساقاه صارتا حجرًا.
كلّ شيء تحوّل إلى فوضى.
‘كنتُ أريد فقط أن أزيل القناع عن وجه تلك الطفلة…’
كيف انتهى الأمر هكذا؟ لم يعد يدري.
وما زاد الطين بلّة أنّ هذه أول مرة يختبر فيها انفلات قوّته، فأصابته رهبةٌ عارمة.
‘ماذا لو فقدتُ بصري؟ ماذا لو لم أرَ أبدًا بعد اليوم؟’
وفي تلك اللحظة تسلّل شعور غريب…
وكأنّه قد عاش انفلاتًا كهذا من قبل.
‘أنا… قد انفلتت قوّتي مرّة؟’
ومع هذه الفكرة، انفتح سدّ داخله فجأة، وتدفّقت الذكريات المنسيّة كالسيل الجارف.
‘رأسي… سينفجر…!’
كان الدم والدموع يتجمّعان في كفّيه حينها.
-كلارررك
خطوات خفيفة ركضت فوق شظايا الزجاج المحطّم، متّجهة نحوه مباشرة.
وفجأة توقّفت الخطوات أمامه، فشَمَّ رائحة غريبة.
رائحة لم يلتقطها من قبل بسبب غمر دمه لأنفه… رائحة مسحوق أطفال ناعمة.
ثم شعر بلمسة صغيرة دافئة على ظهر كفّه.
“اهدأ!”
إنّها يد مابيل.
“أنتِ… أنتِ مجنونة؟! لماذا تقتربين منّي؟!”
“لكن… إنّك تنزف…”
صرخ آسيلت مرعوبًا وهو يدفعها بعيدًا.
طحاااط!
ارتدّت مابيل بقوّة إلى الوراء وسقطت.
“آه!”
وعندها تصاعدت رائحة دماء أخرى، ليست دماءه.
وبرفقة تلك الرائحة، لم تعد تتراءى أمام جفونه وجوهُ الخائفين فقط، بل صورةٌ أخرى.
غرفة الأنشطة وقد عاثت فيها الفوضى.
أرضيّة مغطّاة بالزجاج المكسور.
‘لا… لا يمكن!’
أراد آسيلت أن يمدّ يده ليتأكّد من حال مابيل، لكنّه لم يستطع إنزالها.
فإن فعل، ستتحجّر على الفور.
وإن حدث ذلك للوحيدة التي فهمته، فستتحوّل بعد ذلك إلى واحدة من أولئك الذين يخافونه.
حينها لن يبقى للرجاء مكان.
ومع ذلك كان قلقًا… فقد بدا أنّ مابيل سقطت على شظايا الزجاج بعدما دفعها.
‘ماذا عليّ أن أفعل؟’
ارتجفت أصابعه وهمّت بالتحرّك، فيما كان يعضّ شفته بعجز.
“أتريد أن تُنزل يديك؟ إذن… أنا… أنا أغلقتُ عيني الآن!”
كلماتها جعلت قلب آسيلت يهبط فجأة كصخرة.
صوت مابيل لم يكن يرتعش بالبكاء.
لم يكن فيه أثر للرهبة.
‘حتى الآن… أنتِ ما زلتِ لا تخافين منّي؟’
لقد تعمّدتُ أن أُريَك عينَيّ لأخيفكِ، ثم أصابتني قوّتي المرتدّة فحوّلتُ ساقَيّ إلى حجر.
وها أنا دفعتكِ بقسوة فتأذّيتِ.
ومع ذلك… لماذا ما زلتِ تعاملينني وكأنّ شيئًا لم يحدث؟
★ تـرجـمـة: لـيـنـو ~★
التعليقات لهذا الفصل "21"