━━━●┉◯⊰┉ الفصل 2 ┉⊱◯┉●━━━
منذُ متى كانتْ هناكَ؟ توقَّفتْ عربةٌ كبيرةٌ أمامَ مابيل.
رفعتْ مابيل رأسَها، فالتقتْ عيناها بعينيْ رجلٍ في العربةِ.
شعرٌ فضّيٌّ أنيقٌ كأنَّه مبشورٌ منَ اللَّؤلؤِ ومكللٌ بالجواهرِ، وعيونٌ حمراءُ، كأنّه أميرٌ منْ قصّةٍ خياليّةٍ.
‘هذا الشَّخصُ…’
إنْ لمْ تكنْ مخطئةً، فهو بالفعلِ أميرٌ.
أدركتْ مابيل منْ هو على الفورِ.
سيغموند إسكليد، الدّوقُ الأكبرُ.
صديقُ طفولةِ صوفيا، والبطلُ الثَّانويُّ في هذهِ الرِّوايةِ.
‘لكنْ، ماذا ناداني البطلُ الثَّانويُّ للتَّوِّ؟’
أرادتْ أنْ تسألَ، لكنَّ قلبَها كانَ يدقُّ بشدَّةٍ فلمْ تستطعِ النُّطقَ.
كانَ ذلكَ بسببِ خوفٍ غريزيٍّ راودها.
‘ربما قد سمعتُ بشكلٍ خاطئ…’
كانتْ تخشى بالفعل أنها ليست معروفةً لأحد في العالمِ الخارجيِّ.
بينما كانتْ مابيل المذعورةُ تنظرُ إليهِ بدموعٍ متعلّقةٍ بعينيْها، مال سيغموند برأسِه وسألَ مجدَّدًا:
“مابيل… ألستِ أنتِ هي مابيل؟”
لمْ تسمعْ بشكل خاطئ. لقد سمعتْ بوضوحٍ!
تألّقتْ عينا مابيل المبلّلتانِ بدموعٍ لم تذرف.
‘هذا اسمي!’
في تلكَ اللحظةِ، اندفعَ شعورٌ بالفرحِ لا يوصفُ منْ أعماقِ قلبِها.
سألتْ مابيل وشفتاها ترتعشانِ:
“هلْ… هلْ ترانَي؟”
“ماذا…؟”
ردَّ سيغموند متعجّبًا وكأنّه لا يفهمُ ما تقوله.
ولكن…
كانَ سؤالهُ يعد جوابًا أيضًا.
كانا يتحدَّثانِ الآنَ!
“أقصدُ، هلْ تراني حقًّا…؟”
أمامَ أسئلةِ الطِّفلةِ المتكرّرةِ، عبسَ سيغموند للحظةٍ كأنّه لا يفهمُ، ثمَّ فتحَ فمَه:
“أراكِ. بوضوحٍ تامٍّ.”
“آه…”
في تلكَ اللحظةِ، شعرتْ مابيل كأنَّ طبقةً منَ القلقِ، التي كانتْ عالقةً بها كالطّينِ، قدْ تَقشَّرتْ.
والأكثرُ منْ ذلكَ، كانَ سيغموند لا يزالُ ينظرُ إليها.
خلالَ الثَّماني سنواتٍ الماضيةِ، كانَ الجميعُ يُديرونَ رؤوسَهم بعيدًا كأنّهم رأوا شيئًا مخيفًا إذا التقتْ عيناهم بعينيْها.
كانتْ هذهِ المرَّةَ الأولى التي يطولُ فيها نظرُ أحدهم إليها.
شعرتْ بالحرارةِ والدغدغةِ وهي تواجهُ عينيْه الحمراويْن.
كأن شعورًا بالحياةِ ينبعث في جوف روحها.
‘لم اعتقد قط أن إحساس الوجودِ في هذا العالمِ رائعٌ هكذا.’
لمستْ العواطفُ المتدفّقةُ منْ أعماقِها دموعَها.
تساقطتْ دمعةٌ منْ عينيْ مابيل الكبيرتيْن.
كانَ ذلكَ البدايةَ فقط.
“وااه… أغهه…”
بوجهٍ أحمرَ منْ كتمِ أنفاسِها، بدأتْ مابيل تبكي بحرقةٍ.
“مهلًا، مهلًا! هييَّ!”
تَرنَّحتِ العربةُ!
نزلَ سيغموند منَ العربةِ مرتبكًا.
كانَ وجهُه يعكسُ الحيرةَ، غيرَ عارفٍ لمَاذا تبكي الطِّفلةُ….
لكنْ، ومعَ ذلكَ، مدَّ يدَه بحذرٍ وربَّتَ على كتفِ الطِّفلةِ التي تبكي وهي تحاول كتمَ صوتها ولكن عبثًا كان جهودها.
رجلٌ، هو الأعلى منزلةً في إمبراطوريّةِ غرينهيرست بعدَ العائلةِ الملكيّةِ، راكعٌ على ركبةٍ واحدةٍ على الأرضِ.
“هيك… هيك…”
“ستؤذينَ نفسَكِ هكذا.”
أمسكَ سيغموند يدَ مابيل، التي كانتْ تمسحُ عينيْها بعشوائيّةٍ، وأنزلَها.
كانتْ يدُ الطِّفلةِ الصَّغيرةِ متشقّقةً ومتورّمةً.
نظرَ سيغموند إلى يدِ مابيل للحظةٍ، ثمَّ سألَ بحذرٍ:
“مابيل… صحيحٌ، أليسَ كذلكَ؟”
كمْ كانَ رائعًا أنْ يناديَها أحدهم باسمِها!
كمْ كانَ مدهشًا أنْ يستمرَّ الحديثُ ويردَّ الجوابُ عليها!
ابتسمتْ مابيل ابتسامةً عريضةً بوجهٍ مليءٍ بالدُّموعِ، وصرختْ بكلِّ قوتِها:
“نعمْ، نعمْ! أنا مابيل!”
‘أنا هنا، أعيشُ أيضًا لذلك انظر إلي!’
***
بعدَ عاصفةِ العواطفِ هذه وبعد أن هدأتِ الأمورُ، عادَ عقلها إليها. ‘آه، إنَّه محرجٌ بعضَ الشَّيءِ…’
كمْ كانَ محرجًا أنْ تبكيَ فجأةً هكذا!
ألقتْ مابيل نظرةً خاطفةً على سيغموند، الذي أركبَها العربةَ.
كانَ سيغموند، الجالسُ مقابلَها وينظرُ منَ النَّافذةِ مفكّرًا، يستحقُّ لقبَ البطلِ الثَّانويِّ بجدارةٍ.
شعرٌ فضّيٌّ يتمايلُ برقّةٍ معَ الرّيحِ، رموشٌ طويلةٌ، وعيونٌ ناعمةٌ…
كانَ مثالَ الجمالِ، وأصغرُ منْ أظهرَ هالةً، والأعلى سلطةٍ والأكثر معرفةً وعلمًا في أبحاثِ الخيمياءِ.
إذا كانَ كايسر نموذجَ البطلِ النادمِ الذي يسيءُ للبطلةِ، فسيغموند كانَ البطلَ الثَّانويَّ المخلصَ في حبِّه.
‘لمْ أتوقَّعْ لقاءَه بهذهِ الطَّريقةِ.’
كانَ سببُ مرورِ سيغموند إسكليد بقصرِ آشيلونيا مذكورًا في الرِّوايةِ.
كانَ رجلًا مخلصًا لصوفيا، حتّى أنّه كتبَ أبحاثًا نيابةً عنها.
بعدَ اختفاءِ صوفيا التي أحبَّها، كانَ يمرُّ بجوارِ قصرِ آشيلونيا كلَّ شهريْن أو ثلاثةٍ.
على أملِ عودتِها.
على أملِ سماعِ أخبارِها.
ويبدو أنَّ اليومَ كانَ ذلكَ اليومَ. ‘رؤيتُه عنْ قربٍ تجعلُه أكثرَ إثارةً للشَّفقةِ. صوفيا الآنَ…’
مهلًا؟
بينما كانتْ مابيل تفكّرُ أينَ ستكونُ صوفيا، التي اختفتْ فجأةً، اتّسعتْ عيناها فجأةً.
كانتْ تعرفُ دليلًا عنْ مكانِ صوفيا!
‘ألا يمكنُني بيعُ هذهِ المعلومةِ لسيغموند؟’
كانتْ قلقةً منْ التَّجوّلِ وحيدةً دونَ حامٍ، خوفًا منَ الاختطافِ.
في تلك اللحظة، أمسكتْ مابيل بمقعدِ العربةِ بقوَّةٍ.
‘سأطلبُ منهُ أنْ يأخذَني إلى هناكَ فقطْ.’
“أمم، أيُّها السَّيّد!”
“…السَّيّد؟”
في سكونِ العربةِ، حرَّكَ سيغموند ببطءٍ رأسَه عندَ سماعِ الصَّوتِ.
ارتعشَ حاجباه الأنيقانِ، لكنْ مابيل، المنشغلةَ باختيارِ كلماتِها، لمْ تلحظْ.
“أتيتَ تبحثُ عنْ أمّي، أليسَ كذلكَ؟”
“ماذا؟”
“أعرفُ أينَ أمّي، وسأخبرُكَ وحدَكَ.”
“…”
“لكنْ، أنا بحاجةٍ للذَّهابِ إلى مكانٍ بعيدٍ بعضَ الشَّيءِ.”
“…”
“سأخبرُكَ بما تريدُ معرفتَه، فهلْ يمكنُكَ أخذي إلى هناكَ؟ إذا أعرتَني العربةَ فقطْ، يمكنُني الذَّهابُ وحدي!”
“لماذا؟ منزلُكِ هناك بالفعل.”
“آه، حسنًا…” تردَّدتْ مابيل للحظةٍ حولَ كيفيّةِ شرحِ الأمرِ، ثمَّ قرَّرتِ قول الصِّدقَ:
“لقدْ هربتُ منَ المنزل.”
“…ماذا؟”
‘هلْ سمعتُها بشكلٍ خاطئ؟’
فركَ سيغموند جبينهُ بلا تهذيبٍ وسألَ مجدَّدًا:
“لمَ ذهبتِ بعيدًا؟”
“لأنّني هربتُ منَ المنزل!”
لكنْ، ردَّتْ مابيل بنفسِ الإجابةِ.
حينها شعرَ سيغموند بأن عقلهُ يبتعدُ للحظةٍ.
كانتْ مابيل لا تزالُ نحيلةً، بعينيْها الحمراويْن الكبيرتيْن كعينيْ أرنبٍ.
‘الآنَ عندما أفكّرُ في الأمرِ…’
في الحقيقةِ، كانَ إركابُ سيغموند لمابيل في العربةِ تصرّفًا عفويًّا.
خافَ أنْ تنهارَ الطِّفلةُ التي تبكي بضعفٍ.
عندما فحصَها في العربةِ، بدتْ، كما توقَّعَ، وكأنّه لم تتم العناية بها.
وجهُها الملطَّخُ بالدُّموعِ كانَ متَّسخًا، وجسمُها النَّحيلُ الصَّغيرُ جعلَها تبدو أصغرَ بكثيرٍ منْ عمرِها.
فستانُها وأحذيتُها الباليةُ لمْ تكنْ تليقُ بأميرةِ دوقيّةٍ.
بلْ، يدُها المتشقّقةُ المليئةُ بالجروحِ كانتْ كافيةً للدّلالةِ على أفكّاره.
‘يبدو أنَّه منذُ اختفاءِ صوفيا، لمْ يعتنِ بها أحدٌ، حتّى والدُها كايسر.’
فكَّرَ سيغموند في كايسر.
بما أنّه صديقُ طفولةِ صوفيا، كانَ يعرفُ كايسر جيّدًا أيضًا.
‘قضى كايسر طفولةً بائسةً مهملةً، لذا ظننتُ أنّه لنْ يهملَ طفلَته كي لا تُقاسي ما عاشهُ…’
بينما كانَ سيغموند يعبسُ بحزنٍ، لاحظَ يدًا تتحرَّكُ.
“سيدي، أنا لا أكذبُ، أنا أعرفُ مكانها حقًّا!”
توك، توك.
كانتْ أظافرُ مابيل الممزَّقةُ تنزفُ، لكنّها لمْ تتوقَّفْ عنِ الحركةِ كأنّها لا تشعرُ بالألمِ.
“توقَّفي، توقَّفي.”
أمسكَ سيغموند يدَ مابيل وهو يراقبُها بصمتٍ.
كانتْ يدُها المتشقّقةُ نحيلةً حتّى شعرَ بعظامِها.
“إنّها تنزفُ.”
“آه، نعمْ. أعرفُ. أشعرُ بالوخزِ.”
“إذنْ كانَ يجبُ أنْ تتوقَّفي.”
لفَّ سيغموند إصبعَها بمنديلٍ أخرجَه منْ جيبِه وسألَ:
“هل هو مؤلمٌ؟”
“آه، أنا بخيرٍ. أحبُّ الألمَ.”
“ماذا…؟”
“الألمُ والدَّمُ يعنيانِ أنّني على قيدِ الحياةِ!”
تجمَّدَ وجهُ سيغموند عندَ إجابةِ مابيل الحماسيّةِ.
‘ما هذا…’
كلَّما استمرَّ الحديثُ معَ الطِّفلةِ، شعرَ بحلقِه يضيقُ وألمٌ ما يزدادُ في رأسِه.
فركَ سيغموند وجهَه النَّحيلَ، وتحدَّثَ بصوتٍ ثقيلٍ:
“لنذهبْ إلى المنزل أوّلًا.”
“المنزل؟ لكنّني هربتُ منَ المنزل!” هلْ سيأخذُني إلى قصرِ الدّوقيّةِ مجدَّدًا؟
تجمَّدتْ مابيل ونهضتْ قليلًا منْ مقعدِها.
وضعَ سيغموند يدَه على كتفِها ليطمئنَها:
“لا، ليسَ منزلكِ. لنذهبْ إلى منزلي.”
“منزلكَ، سيدي…؟ لماذا أذهبُ إلى هناكَ؟”
“لأنّه يبدو أنَّ لديكِ الكثيرَ لتقوليهِ لي.”
“مهلًا؟ لكنّني كنتُ ذاهبةً إلى…”
لكنْ، قبلَ أنْ تنهي مابيل كلامَها، طرقَ سيغموند جدارَ العربةِ.
تَرنَّحتِ العربةُ. بدأتِ العجلاتُ، التي كانتْ متوقّفةً، تدورُ.
رأتْ مابيل قصرَ آشيلونيا يبتعدُ منْ النَّافذةِ، فاتّسعتْ عيناها.
فتحتْ فمَها الصَّغيرَ وصرختْ:
“انتظرْ! هذا اختطافٌ!”
“تعرفينَ كلمةً كهذهِ، يا للدهشةِ.”
“أغهه…! سأنزلُ!”
“الوقوفُ في عربةٍ متحرّكةٍ خطرٌ، فاجلسي.”
“إذنْ أوقفْها!”
“ستتوقَّفُ حتمًا عندما نصلُ إلى منزلي.”
يأتي الجوابُ، ويبدو أنهُ يستمرُّ بالحديث معي، لكنَّ الكلامَ الذي يقولهُ لا يمرُّ في عقلي!
‘أهو حقًّا البطلُ الثَّانويُّ الودودُ في الرِّوايةِ؟ أليسَ هذا انهيارًا للشَّخصيّةِ؟!’
كيف لهُ أنْ يختطفَ طفلةً ويتصرَّفَ بكلِّ هذه الوقاحةِ!
لكنْ، على عكسِ مابيل المضطربةِ، كانَ سيغموند هادئًا جدًّا.
“سيستغرقُ الأمرُ بعضَ الوقتِ، فنمي قليلًا.”
وهكذا، خُطفتْ مابيل منْ قِبلِ البطلِ الثَّانويِّ الذي اعتقدتْ أنّه طيّبٌ، وتجرَّعتْ مرارةَ فشلِ خطَّتِها.
“هلْ تريدينَ كعكةً؟ أمْ تفضّلينَ الشّوكولاتةَ؟”
…كانتْ مرارةً حلوةً بعضَ الشَّيءِ.
__تَرْجم بِكلِّ حُبٍّ مِنْ قَبْلِ كَارِيبِي إلى ميل.♡
التعليقات لهذا الفصل " 2"