1
1. بدأت حياتي الرابعة.
“كل هذا بسببكِ! لماذا كان لا بد أن يولد شيء مشؤوم مثلك!”
صفعتني أمي.
“اخرجي! اخرجي وموتي! هل تريدين إبادة عائلتنا؟ لو لم يكن بسبب اللقب لما تزوجتكِ أصلاً!”
وطردني زوجي.
سرت في الطريق دون أن أدرك أن قدمي أصبحتا داميتين. وبسبب الحرب وصعوبة العيش، تمسّك بي الناس لأنني فرد من العائلة الملكية.
“إنها ساحرة! وُلدت ساحرة كهذه في العائلة الملكية، ولهذا دُمّرت البلاد!”
“اقتلوها! لو قتلنا الساحرة سيرضى الحاكم ويرعى غليسيا!”
“اقتلوها! كلّ مآسينا بسبب هذه الساحرة!”
انتُزع شعري، وتمزقت ملابسي بأظافر حادة وخُدش جلدي. الحجارة كانت تنهال علي من كل اتجاه.
كنت الشخص الذي يكرهه الجميع.
⋮
غليسيا، أرض تُدعى ‘أرض الحاكم’.
أربعة دوقيات تنفع الشعب بقدرات خارقة على التحكم الأرض والريح والماء والضوء.
والعائلة الملكية تخلّص الدوقات من الآثار الجانبية لقدراتهم.
تلك التضحية النبيلة هي ما حمى سكان غليسيا.
أنا، رابعة مولودة للملك، كنت الوحيدة بين العائلة الملكية التي لا تملك أي قدرة.
لا، بل لو كنت عاجزة حقًا لكان ذلك أفضل.
بركة الحاكم التي تنقذ أصحاب القدرات عادةً ما تظهر عندما يبلغ طفل العائلة الملكية الخامسة.
ذلك اليوم المهم كان أسوأ يوم في حياتي؛ فقد أغمي على الشخص الذي تلقّى بركتي وهو يتألم.
بركتي لم تمنح إلا الألم.
مرّة، ومرّتين، وثلاثًا، وحتى دوق الرياح صاحب أقوى القدرات شعر بالألم من قوتي وصرخ قائلاً إنها ‘لعنة’.
غضبٌ من الحاكم.
عار غليسيا.
بضاعة تالفة.
هكذا أصبحتُ رمزًا للشؤم.
وبما أن الشعب يعرف بوجودي، كان عليّ حضور الفعاليات الرسمية.
وُصمت بالعجز، ورغم بقائي كأميرة، بالنسبة لهم كنت شبه غير موجودة.
وفي أحد الأيام ظهرت مرأة من عامة الناس تملك قوة الحاكم.
وسلبت مكاني.
كانت حياة مليئة بالإهمال وعدم المحبة.
قبلتُ بخطبة رجل عاملني بلطف، لكن حتى زواجنا لم يكن سوى قشرة فارغة.
كان زواجًا من أجل الحصول على اللقب، لا من أجل السعادة.
ثم زادت المأساة.
الإمبراطورية غزت مملكة غليسيا.
أنقذني وسط الفوضى ليام ويلبوير، الذي كان يقود الغزو.
الدوق المطرود من غليسيا بتهمة الهرطقة.
ظننت أنه سيقتلني كما فعل بأهلي وإخوتي. لكنه اكتفى بحبسي.
كان ليام الشخص الأكثر قسوة ممن قابلتهم. لم أشعر بأي عاطفة منه.
كانت عيناه فارغتين تمامًا.
ورغم أن من يعذبونني اختفوا، استمر الألم الغامض. كان جسدي يموت ببطء.
زارني ليام في السجن البارد، وقال بينما ينظر إليّ وأنا أموت.
“الدوقيات أصحاب القدرات يحاولون إنقاذ أميرة بلا بركة. يظنون أن طفل الأميرة قد يكون مختلفًا، وتمسكوا بأمل زائف.”
كان صوته البارد خاليًا من لذة الانتصار.
“لكنني لن أسلّم الأميرة لهم. يجب أن يشعروا بعذاب الموت. كما حدث لأخي.”
مفارقة مؤلمة؛ السجن كان المكان الوحيد الذي حماني.
وفيما كنت أحتضر، كان الشخص الوحيد الذي بقي بجانبي هو ليام ويلبوير.
طوال حياتي، لم يبقَ بجانبي أحد بهذه الطريقة. لا والداي، ولا إخوتي، ولا الخدم، ولا زوجي.
كنت ‘غضبًا من الحاكم’، مجرد وجودي كان مشؤومًا، ولذلك كان الجميع يبتعد عني.
كنت أموت، وكنت أعلم أن حياتي توشك على نهايتها.
كنت وحيدة وباردة.
اعتدت الوحدة طوال حياتي القصيرة، لكن أمام الموت أصبحت أضعف.
كان ذلك غريزة بشرية. في لحظة الموت، مدت يدي عبر القضبان نحو ليام.
هل شعر بالشفقة علي؟
أم أنه أراد إبعاد يدي القذرة ورميها داخل القفص؟
لكن يده لمست يدي.
كانت دافئة لدرجة أبكتني.
كان دفء الإنسان جميلًا إلى حد مؤلم.
وفي تلك اللحظة، انطلقت بركتي دون وعي مني.
لم أستطع التحكم بها.
تساقطت الأزهار البيضاء التي تظهر عند تفعيل قوتي، وتناثرت فوق جسدي الممدد على الأرض.
ليام ويلبوير بدا متألمًا في البداية، لكن شيئًا فشيئًا عاد الدم إلى وجهه، وحدّق بي بعينين صافيتين.
“أنتِ….”
آه… هكذا كانت تُستخدم قوتي.
كنت ‘غضبًا من الحاكم’ لأن بركتي سببت الألم فقط. لكني فقط لم أعرف كيف أستخدمها.
عرفت الطريقة الصحيحة لاستعمالها لحظة وفاتي.
وتلكَ كانت النهاية.
⋮
عندما فتحت عيني كنت في الرابعة عشرة من عمري.
لقد عدتُ إلى الماضي. كانت حياتي الثانية.
وفي هذه الحياة، أدركتُ طريقة استخدام بركتي الحقيقية.
لم أكن غضبا من الحاكم، ولا وصمة، ولا شيئًا مشؤومًا… بل كنت أمتلك قوة أعظم من أي فرد في تاريخ العائلة الملكية.
حضرتُ حفلة رسمية، وأمام الجميع أثبتُّ بركتي وقيمتي.
تناثرت زهور بيضاء حولي وأنا أقول للجميع.
“لستُ مكروهة من الحاكم.”
فسقط الدوقات أصحاب القدرات على ركبهم تحت تأثير بركتي، وارتجفوا تأثرًا.
وصفوها بأنها بركة ضخمة ومقدّسة لم يشعروا بها قط. الجميع هتف باسمي، والمعبد رفعني إلى مكانة قديسة.
وبينما كنت في المعبد، تعاونت العائلات الدوقية الأربع وأعلنوا التمرد.
تغيّر ملك غليسيا في ليلة واحدة.
أصبحت عائلة بيلتوا الملكية عبيدًا للدوقات، وتم حبسي في قفص.
“هيا يا أورميا. قوتك! امنحينا البركة!”
سجَنَني الدوق هايمان واحتكر بركتي.
وسط أشخاص مسكونين بالجنون أصبحت عرضًا يتفرجون عليه.
صرت دمية لهم وسُلبت حريتي.
ثم ظهرت الأعراض.
“ظهرت علامة زهرة الموت على جسدها. لن تتمكن من تجاوز الثانية والعشرين.”
حكم الطبيب عليّ بأنني محكومة بوقت محدود.
نادراً ما تظهر زهرة الموت على أفراد العائلة الملكية، ومن تظهر عليهم يموتون قبل بلوغ 22 عامًا.
وبالعودة بذاكرتي… تاريخ موتي في الحياة الأولى كان قريبًا من عيد ميلادي الثاني والعشرين.
عندما عرف الدوق هايمان بحالتي أصبح مستعجلًا.
تعلق بجعلِي أنجب طفلًا يحمل قدرتي ليحتكر القوة عبر ذريتي.
ظل يهددني بإجبارٍ على إنتاج ‘زهور البركة’.
بل أحضر والدي وإخوتي ووضع السيوف على أعناقهم ليرغمني.
كانت أيامًا من جحيم… لكن الأمل جاء أخيرًا. الإمبراطورية غزت غليسيا بقيادة ليام ويلبوير.
أخيرًا انتهى كابوسي.
وعندما دخل ليام غرفتي السرية في بيت الدوق، انتهت حياتي الثانية.
لكن… لم تكن النهاية.
⋮
عدت إلى الثامنة عشرة من جديد.
كانت حياتي الثالثة.
“أبي! أبييي!”
كان لقبًا لم أنطق به منذ زمن طويل. بكيت وأنا أركض إلى الملك وأخبرته بكل شيء.
حياتي الأولى… حياتي الثانية… كل شيء.
“ليست كذبة. ليست حلمًا. انظر. لم أكن غضبا من الحاكم.”
توسلت إليه أن يصدقني بينما أظهر له قوتي. أثبتُّ بركتي، وكشفت خيانة الدوقات.
الملك صدّق بكاء طفلته اليائس.
والنتيجة، حبسني في البرج.
كان الملك خائفًا من أن يثور الدوقات كما أخبرته. ولم يستطع مواجهتهم، فحبسني بدلًا من ذلك.
“أبي! أمي! السيف!”
تخلّى عني والداي. ولم يزرني إخوتي.
عين الملك المرأة المباركة من حياتي للأولى كبديلة لي.
غزا ليام غليسيا كما كان مقدرًا.
ورغم أن الملك استعد بناءً على المعلومات التي أخبرته بها، إلا أنه لم يستطع مواجهة قوة الإمبراطورية.
جسدي مات ببطء في البرج البارد.
ليام كان يعرف مكاني، ولكنه لم ينقلني إلى السجن هذه المرة.
“لو ساعدتنا عائلتكم بيلتوا قليلًا، لما مات أخي هكذا. لما جنّ والدي. ولما اضطررتُ لقطع رأسه بيدي.”
سمعتُ مرة أخرى شكواه الممزقة بالدموع.
كان ليام يأتي أحيانًا بلا تعبير، ينظر إليّ وأنا أموت. لم يكن يسخر، ولا يشفق.
لو كان يريد استخدامي كطعمٍ للقبض على الدوقات، لم يكن بحاجة لزيارتي.
كان يمكنه تركي أموت وحدي… لكنه كان يأتي. أحيانًا يتمتم وحده، وأحيانًا يرمي لي قطعة خبز كما لو كانت صدقة.
“…لماذا؟”
كنت أتساءل لماذا يأتي.
في حياتي الأولى لم أستطع السؤال. في الثانية لم يكن هناك وقت. لكن في الثالثة… أردت أن أعرف.
لماذا يبقى بجانب شخص يحتضر؟
“عندما مات أخي… لم أستطع أن أكون بجانبه. الموت وحيدًا… أمر مأساوي.”
بيت ويلبوير، دوقية النار الذين طردتهم المملكة باعتبارهم هراطقة.
أخ ليام يموت من آثار القدرة، وناسهم يتعذبون. كنت قادرة على إنقاذهم.
لو كان لدي حياة أخرى…
“إن كان هناك حياة قادمة… سأُنقذك. وأنقذ أخاك.”
حدّق ليام بعينين فارغتين.
انعكس جسدي المحتضر في عينيه. مددتُ يدي لأخبره بقوتي…
لكن لا أعلم إن كان أمسك بها أم لا.
ربما… لو كان هو الحنون في أعماقه… ربما أمسك بها.
وهكذا… متُّ للمرة الثالثة.
وبدأت حياتي الرابعة.
⋮
فتحتُ عيني فوجدت نفسي في غرفة نوم.
كانت زهور بيضاء تتساقط حولي ببطء.
غرفة زوجة الفيكونت جيفري أولان، الرجل الذي تزوجته في حياتي الأولى دون أن نكمل ليلة زفاف واحدة.
ورغم ذلك بقيت أنتظره طويلًا.
كنت ضعيفة، متعطشة إلى المودة، وطائرًا أليفًا لا يعرف الخروج من قفصه.
طفلة بائسة تربط القيود بقدميها بنفسها طمعًا بقليل من المحبة.
في حياتي الأولى رجمني الناس بالحجارة.
في الثانية خانتني العائلات الدوقية.
في الثالثة تخلّت عني عائلتي.
ورغم ذلك… ها أنا أحصل على حياة رابعة.
ضوء الشمس الداخل من النافذة، الهواء الذي أتنفسه، ملمس القماش على بشرتي، وحتى جوع الصباح الخفيف…
كلّها كانت… سعادة.
كنتُ سعيدة.
حتى لو كنت أعرف أنني سأموت في الثانية والعشرين، فقد كنت ممتنة.
غطيت وجهي وبكيت بصوت عالٍ.
كان بإمكانهم سماع بكائي حتى الممر، لكن لم يدخل أحد.
كنت مجرد قطعة زينة في هذا المنزل أيضًا، لكنني كنت ممتنة لأنهم لم يقاطعوني هذا الصباح.
رطّبت الدموع خدي والوسادة، ولم أستطع التوقف عن البكاء.
كنت أعرف غريزيًا أن هذه حياتي الأخيرة.
وإن كانت الأخيرة… وإن كنتُ سأموت مهما حدث…
“ليام ويلبوير.”
ربما… يمكنني تغيير حياتك هذه المرة.
Chapters
Comments
- 1 - بدأت حياتي الرابعة. منذ 9 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 1"