1
“أنا آسف يا كارينا. أنتِ ستتفهمين… أليس كذلك؟.”
كان الخريف قد بدا واضحًا في الهواء، بنفحته الرقيقة ورائحة الأوراق المتساقطة بكسل. لم تُجب كارينا سؤال صديق طفولتها القديم، بل رفعت فنجان الشاي نحو شفتيها. رأى فيليس ذلك، فابتسم ابتسامته المعتادة، ثم امتدّت يده متأخرة نحو فنجانه.
كانت يده الأخرى تشبك يدَ شابة صغيرة القامة. أخذت كارينا نفسًا عميقًا حبسَتْه في صدرها، ورفعت زوايا فمها بابتسامة هادئة.
“بالطبع…”
“هذا مطمئن. خشيتُ أن تكوني منزعجة.”
تنفّس فيليس الصعداء ووضع فنجانه جانبًا. كان ضوء الشمس ينساب على خصلات شعره الأشقر الفاتح، المائل إلى البني، فيجعله يبدو كالخيوط الذهبية. وتحت خصلاته، كان بريق عينيه، بلونهما المشابه لشعره، يلمع برفق.
“ولِمَ أنزعج؟ نحن… مجرد أصدقاء.”
أجابت كارينا بنبرة متماسكة. في كل مرة كانت تفتح فيها فمها، شعرت وكأن حلقها يجفّ. سرعان ما تحدثت الشابة الجالسة بجوار فيليس، وتلك اللحظة تحديدًا كانت كفيلة بأن تهتزّ ملامح الهدوء التي بالكاد حافظت عليها كارينا.
“أشكركِ يا آنسة كارينا… لأنكِ استمعتِ إلينا رغم حضورنا المفاجئ.”
تحرّكت شفتاها الصغيرتان بخفة أشبه بحركة سنجاب صغير، وكانت رؤيتها ممتعة حدَّ أن يستحيل كرهها. من شعرها البني المحمر إلى عينيها بلون الزيتون، بدا كل شيء فيها آسرًا وجميلاً.
عضّت كارينا شفتها محاولة كتم مشاعرها، ثم تظاهرت بالسعال في منديلها. كانت الكلمات على وشك الفرار من فمها.
‘أهذا فقط ما يجعلك ممتنة؟.’
سألها فيليس إن كانت بخير، وعلى وجهه قلق واضح. أومأت كارينا برصانة وأجابت:
“أنا بخير… اختنقتُ فقط للحظة. المهم الآن… يا آنسة كورنيل؟.”
“نعم؟.”
اتسعت عيناها بدهشة بريئة. شدّت كارينا قبضتها على المنديل وابتسمت ابتسامة باهتة.
“لا داعي لأن تتوتري… ولا حاجة لأن تشعري بالامتنان أو الاعتذار تجاهي.”
اختفى الاضطراب الذي كان يلوح في عيني كورنيل الزيتونيتين. أما فيليس، وكأنه توقّع ردّها، فقد ابتسم لها نفس الابتسامة الهادئة التي اعتادت أن تراها منه منذ الطفولة. ولم يكن ذلك إلا مزيدًا من الألم لقلبها.
عشر سنوات. هذا هو الزمن الذي استغرقه لقاؤهما الأول حتى باتا جزءًا مهمًا من حياة بعضهما. لكن الآنسة كورنيل لم تحتج سوى عامين فقط. عامان كانا كافيين لتحلّ مكان كارينا… لا كصديقة، بل كمن يحبها فيليس.
“أنا وفيليس مجرد صديقين. أما الخطوبة… فكانت ترتيبًا بين كبار العائلتين ليس إلا.”
رغم الألم الذي كان يعتصر قلبها، خرجت الكلمات من فمها تلقائيًا. ربما كان ذلك آخر ما تبقّى لها من كبرياء.
والأكثر سخرية أنّ كل ما قالته لم يكن كذبًا. فهما حقًا مجرد صديقين… وخطبتهما حين كانا في الرابعة عشرة لم تكن سوى اتفاق فرضته العائلتان.
«كارينا… أنا حقًا أحبك. أعني… أحبك كصديقة.»
رنّ صوت فيليس الأصغر سنًا، الأكثر براءة، في أذنها فجأة. ارتجفت كارينا دون إرادة منها.
وخز ألم حاد صدرها، وكانت الكلمات تكاد تخنقها وهي تجبر نفسها على النطق.
“وهو ترتيب يمكننا التخلّي عنه في أي وقت، إن أراد أحدنا ذلك.”
كانت كارينا تعرف الحقيقة المؤلمة. تعرفها جيدًا، مهما حاولت التهرب منها.
كارينا كانت تحب فيليس. وقبل أن تتمكن حتى من الاعتراف بمشاعرها، أعلن هو انتهاء خطوبتهما. الكلمات التي خرجت منها أكدت لها حقيقة الأمر، فانخفض نظرها إلى الطاولة.
وحين رفعت رأسها من جديد، كان فيليس ما يزال يبتسم بجماله المعتاد. انعقدت على شفتيها ابتسامة صغيرة، لم تكن مصطنعة هذه المرة. ابتسامة حقيقية… مختلطة بمرارة.
في تلك اللحظة خطرت لها فكرة: ربما لم تكن تحب فيليس ذاته… بل ابتسامته تلك فقط.
ومع ذلك… كانت ترغب في سعادته. حتى لو كان ثمن ذلك تعاستها.
فتح فيليس شفتيه ببطء، فبقيت تنظر إليه بصمت.
صديق طفولتها… حبّها… عالمها، قال:
“لقد قررنا أن نعلن خطوبتنا.”
كانت ابتسامته سعيدة إلى حد جعل كارينا تعجز عن التفكير بإفسادها.
“في هذا الشتاء، يومَ تسقطُ أولُ ندفةِ ثلج، سنُقيم حفلَ الخطوبة.”
وفي تلك اللحظة… انهار عالم كارينا كله.
—
كانت شمس الربيع الدافئة تغمر الحديقة الغضة بالنور. وقفت كارينا هناك تحدق في ظهر صبي صغير.
كان شعره الأشقر الفاتح يلمع تحت الشمس، ويلامس ياقة قميصه. وما إن التفت الصبي حتى انعكس وجهها الشارد في عينيه.
“كارينا!.”
ابتسم الصبي بصفاء ومدّ يده نحوها. كانت يداه المتّسختان بالتراب تمتدان ببطء. من دون تفكير، أمسكت بها.
رمشت مرة، لتجد نفسها جالسة على العشب الأخضر. كان فيليس هيروين، ذو السبعة أعوام، يساعدها على الوقوف، وقد عادت يداه نظيفة.
“…رينا، هيا. أنا بانتظارك.”
تلاشى صوته شيئًا فشيئًا كلما ابتعد. مدت كارينا يدها نحوه ثم فتحت عينيها.
“آنسة كارينا، استيقظي. لقد حل الصباح.”
ما إن فتحت عينيها حتى قابلتها زخرفة السقف المألوفة. جلست ببطء بينما كانت خادمتها، بيكي، تنظر بفضول إلى يدها التي أمسكت بها كارينا أثناء نومها.
حدّقت كارينا للحظة ثم رمشت وهي تتأمل ضوء الشمس المتسلل من النافذة.
“هل رأيتِ كابوسًا؟ لقد مددتِ يدك فجأة فأخفتِني.”
“…نعم. أظن ذلك.”
ابتسمت كارينا ابتسامة واهنة وأقرت لها بذلك. كان الأمر صحيحًا… لقد كان حلمًا مرعبًا.
بعد أن أنهت بيكي عملها، أرسلت باقي الخادمات للخارج، ثم أمسكت بآخر قطعة من الملابس. عندها فقط تذكرت كارينا شيئًا مهمًا.
“هل يمكنكِ إحضار الفطور إلى غرفتي؟ أفضّل أن آكل هنا اليوم.”
“ماذا؟ لكنك تناولتِ طعامك هنا بالأمس أيضًا.”
عقدت بيكي حاجبيها ثم أضافت:
“وليس أمس فقط… ألم تمكثي في غرفتك قبل أمس… وقبله أيضًا؟.”
لم تجد كارينا ما تقوله. كان ما تقوله بيكي صحيحًا. تهربت من نظراتها وخفضت عينيها. بدا واضحًا أنها حُبست داخل غرفتها لأيام. ولم يعد ذلك قابلاً للتبرير بقول ‘كنت متعبة’.
لكنها لم تستطع مغادرة الفراش. ترجّت كارينا بيكي بإصرار، وفي النهاية تنازلت بيكي وهي تضع يديها على خصرها بتذمر واضح.
“ما الذي يجري معكِ هذه الأيام يا آنسة؟ حتى تلك الدعوة على العشاء قبل أيام… لم تذهبي.”
“هذا… لأنني كنت متعبة أيضًا.”
“إن كنتِ متعبة إلى هذا الحد، عليكِ زيارة الطبيب.”
قللت كارينا من الأمر، مؤكدة أن لا حاجة لذلك. ولم تتذكر إلا الآن أنها تغيبّت عن عشاء عائلة الكونت هيروين قبل أيام.
ولم يكن هناك ما يُقال. بعد أن سمعت تلك الأخبار… لم تستطع مواجهة فيليس ببساطة.
“هل أنتِ متأكدة من أنكِ بخير؟.”
تأكّدت بيكي منها ثلاث مرات قبل أن تغادر.
عندما بقيت وحدها، تنهدت كارينا وتمددت على السرير. أغمضت عينيها ببطء، وفي رؤيتها الباهتة ظل صوته يتردد.
«لقد بدأت أشعر بمشاعر تجاه الآنسة كورنيل… ورأيت أن من الصواب إخبارك أولاً.»
كان صوته الخافت يعذّب ذهنها بقدر ما ترهقها دموعها. ضغطت كارينا كمّ ثوبها على عينيها ثم استدارت على جانبها.
«لقد قررنا أن نعلن خطوبتنا.»
من أحلامها حتى لحظة استيقاظها… لم يتوقف عن ملاحقتها.
وحين تذكرت وجه الآنسة كورنيل وهي تقبض على يده بقوة، لسعت عينيها دموع ساخنة.
غطّت كارينا رأسها بالبطانية، متجاهلة احتمال عودة بيكي في أي لحظة. كانت عاجزة عن فعل غير ذلك.
“سألتني إن كنتُ أتفهم…”
كانت عينا فيليس، المغرقتان بالذنب والارتباك والثقة بها، أصفى مما سواهما.
وكانت تعلم… أنّ هذا التحدي يجب أن تتجاوزه.
“لا يمكنني ذلك… بأي حال.”
ابتلعت كلماتها داخل البطانية. وحتى طرق الباب لم يستطع إخراجها من شرودها الثقيل.
—
مرّت ساعات، واستيقظت كارينا أخيرًا على صوت توبيخ بيكي، وبيدها فطور متأخر.
“أوه، يا آنسة… أنا آسفة.”
كانت كارينا تفرك عينيها وتلتقط الملعقة حين توقفت بيكي عند الباب، مترددة.
ثم أخرجت رسالة من جيبها وقدمتها بخجل.
“…هل هي لي؟.”
“يبدو أنها وصلت قبل يومين… لا بد أن إحدى الخادمات نسيت تسليمها.”
أخذت كارينا الرسالة، وما إن وقعت عيناها عليها، وضعت الملعقة جانبًا.
كانت رسالة من فيليس. مجرد رؤية خطه الأنيق على الظرف كانت كافية لقتل شهيتها تمامًا.
بعد أن طمأنت بيكي وغادرت، أزاحت كارينا طبق الطعام جانبًا وفتحت الرسالة.
—
『 إلى كارينا،
كنت قلقًا عليكِ، لذا قررت كتابة هذه الرسالة.
سمعت من والدتكِ أنكِ لستِ مريضة حقًا، وقد ارتحت لذلك.
سأرسل إليكِ ببعض الأعشاب الطبية وشراب الفاكهة. آمل ألا تحتاجي إليه.
إن قرأتِ هذه الرسالة… فأتمنى أن تراسليني.
من صديقكِ القديم، فيليس. 』
—
كانت الرسالة، كما توقعت، بشأن العشاء الذي تغيبت عنه قبل أيام.
لم تكن قد ذكرت له أنها مريضة، لكن يبدو أن قلة شهيتها أوصلت الخبر بشكل مختلف.
『 ملاحظة: العشاء في ذلك المساء كان جيدًا… لكنه لم يكن ممتعًا. ربما لأنكِ لم تكوني هناك. 』
قرأتها مرارًا، مرة بعد أخرى، حتى حفظت كلماتها. لكن سعادتها لم تدم طويلًا. فسرعان ما ألقت بالرسالة المفتوحة فوق السرير.
“ما الذي أسعدني حقًا؟ يا للحماقة…”
هبط شعورها العالي كصخرة إلى أعماق معدتها. تنهدت بعمق وغرست وجهها في الوسادة. حتى الأعشاب الطبية التي ألقتها من النافذة قبل أيام عادت لتطاردها في ذاكرتها.
وهي مثقلة بالخيبة، جلست ببطء، التقطت الرسالة الملقاة، واتجهت نحو مكتبها.
التعليقات لهذا الفصل " 1"