6
الفصل 6
“همم…”
أمالت آيوديل رأسها مراراً وهي ترسم شيئاً ما بحماس باستخدام قلم شمعي.
رغم أن القلم كان قصيراً لأنها التقطته بعدما تخلّت عنه شينيل، إلا أنه كان مثالياً لتدوين خطتها في سرقة الرسالة.
“إن دوق فريا يخرج كل يوم، لكن…”
ضغطت شفتيها وهي تستحضر في ذهنها صورة الممر أمام مكتب الدوق.
إن بقي أحد أفراد العائلة في القصر، فلا بد أن كبير الخدم سيقف حارساً أمام المكتب.
فهو لا يغادر مكانه إلا في الأيام التي تخرج فيها الأسرة بأكملها، عندها فقط يحصل على وقت للراحة.
لذلك، كان أفضل توقيت لسرقة الرسالة هو اليوم الذي يختفي فيه كبير الخدم من أمام المكتب، أي في اليوم الذي تخرج فيه العائلة كلها.
“نعم، كما توقعت…”
رسمت دوائر حمراء بعنف وهي تبتسم في رضا.
“يوم خطوبة شينيل سيكون الأنسب. في ذلك اليوم… سأسرق رسالتي.”
لفّت الورقة التي بدت كخربشة طفل بشريط قديم، ثم خبأتها بعناية تحت وسادتها.
“ربما يكون والدي الحقيقي شخصاً رائعاً بحق…”
تمدّدت على السرير الصلب وأغمضت عينيها بهدوء.
ولسببٍ ما، مرت بخاطرها وجوه أفراد العائلة الإمبراطورية من إمبراطورية كاينيس الذين رأَتهم في الحفل.
لم تكن فقط أعينهم الذهبية اللامعة المشابهة لعينيها ما جذب انتباهها، بل ربما لأنهم كانوا أروع الأشخاص الذين رأَتهم في حياتها حتى الآن.
لكنها سرعان ما هزّت رأسها بعنف.
فلا يمكن لأشخاص بتلك الروعة أن يكونوا عائلتها، أليس كذلك؟
حتى هي رأت أن تلك مجرد خيالات سخيفة.
ثم حاولت أن تتخيل صورة والدٍ عادي من جديد.
“ربما يكون والداً حنوناً، يحب ابنته كثيراً.”
كانت لدى آيوديل صورة محددة لـ”الأب الحنون”.
أبٌ يخفي كوب الكاكاو المزين بحبات المارشميلو الكبيرة ليقدّمه لها سراً رغم تحذيرات أمها من عدم تناول الحلوى قبل النوم، ويظل يربّت على شعرها حتى تغفو.
فما إن تخيّلت ذلك المشهد حتى سالت دموعها بهدوء على أطراف عينيها.
“لماذا… أبكي؟”
نهضت فجأة من سريرها ومسحت دموعها بكمّها.
“صحيح، العثور على الرسالة أهم أولاً. لا يجب أن أضعف الآن.”
غطّت كتفيها بالبطانية ونظرت إلى القمر الكامل المضيء من النافذة.
كان القمر المستدير يسطع بوضوح، ينثر ضوءه الفضي عليها.
وفجأة تذكرت ما قالته الخادمات يوماً: إن من يتمنى أمنية تحت ضوء القمر الكامل تتحقق أمنيته.
كانت تسخر من تلك الخرافة حينها، لكنها الآن كانت الوحيدة التي ترغب في تصديقها.
ورغم أن العلية كانت خالية تماماً، إلا أن آيوديل ألقت نظرة حذرة حولها قبل أن تضم كفيها وتغلق عينيها.
“أيها القمر… لدي أمنية. أرجوك اجعلنا سعداء. ليس الجميع، فقط أنا ودينزل. نريد أن نأكل طعاماً لذيذاً بلا خوف، ونرتدي ثياباً جديدة بدل القديمة المهترئة، ونستحم بماء دافئ… وأيضاً، وأيضاً…”
تابعت تهمهم بأمنياتها الصغيرة ثم توقفت فجأة لتضيف بصوت خافت:
“واجعل أمي وأبي الحقيقيين سعداء أيضاً… لا أعرف ملامحهما، ولا لماذا تخلّيا عني، لكن…”
فتحت عينيها ببطء وهمست:
“أنا متأكدة أنهما ما زالا يحبّانني…”
انعكست عيناها الذهبيتان تحت ضوء القمر فتألّقتا ببريقٍ آسر.
لم تكن تلك الجملة الأخيرة أمنية، بل كانت رجاءً خافتاً.
رجاءٌ في عالمٍ لم يحبّها فيه أحد، أن يكون والدَاها اللذان أنجباها على الأقل يحبّانها حقاً.
“هاه… ما الذي أفعله الآن؟”
تنهدت بعمق، شاعرة بالسخف لأنها صدقت خرافة كهذه.
ثم هزّت رأسها في نفي، وكأنها نسيت أنها لا تزال طفلة.
“سأنام الآن، يجب أن أحتفظ بقوتي.”
استلقت على السرير وغطّت رأسها بالبطانية الرقيقة التي لا تناسب برودة الجو.
لكن وسط السكون، لم يُسمع صوت تنفسٍ ناعم، بل صوت بكاءٍ مكتوم يرتجف بين الحين والآخر.
***
مرّت أيام قليلة.
وجاء أخيراً اليوم الذي طال انتظاره، يوم خطوبة شينيل.
كان قصر دوق فريا في حركةٍ دؤوبة منذ الصباح الباكر.
فشينيل كانت تفحص للمرة الأخيرة فستان الحفل والمجوهرات التي سترتديها في الحفل الذي سيمتد حتى المساء، بينما كان الدوق وزوجته منشغلين بتجهيز المهر والهدايا التي سيقدمانها للعائلة الإمبراطورية.
“…آي.”
في تلك الأثناء، تحرك دينزل بخفة وسرعة.
طرق باب العلية مرتين بخفة، ثم فُتح الباب على مصراعيه.
“هل وجدتها؟!”
سألته آيوديل بلهفة وهي تمسك بيده.
“نعم، هنا.”
ابتسم وهو يناولها مجموعة من المفاتيح.
استغل انشغال الجميع وسرق بهدوء مفاتيح كبير الخدم.
“إنها فعلاً المفاتيح! مذهل، دينزل!”
“قلت لكِ، لا أحد ينتبه إليّ.”
ابتسم بفخرٍ بسيط، فشعرت آيوديل بسعادة غامرة.
“يسعدني جدًا أنك لم تُصب بأذى.”
قالت وهي تمسك بيديه وتنظر في عينيه بامتنان.
في الليلة السابقة، كانت قد شرحت له خطتها لاقتحام مكتب الدوق وسرقة الرسالة.
وأصرّ هو على أن يتولى بنفسه مهمة سرقة المفاتيح.
وبعد جدالٍ طويل، رضخت له أخيراً، لأنها تعرف طبعه جيداً—هادئ دائماً، لكنه إذا أصرّ على شيء، لا يتراجع أبداً.
“سأنسخ المفتاح الآن!”
“حسناً.”
أغمضت آيوديل عينيها وأطلقت طاقة سحرية زرقاء من أطراف أصابعها.
سرعان ما تشكّلت الطاقة على هيئة مفتاح المكتب بين المفاتيح المسروقة، ثم تجمّدت لتتحول إلى مفتاحٍ بلوري أزرق سقط على كفّها.
“نجحت! أول مرة أجرب هذا، ونجح فعلاً!”
هتفت بسعادة وهي تمسك بالمفتاح المتلألئ كالزجاج الشفاف، تقفز من الفرح، فيما نظر إليها دينزل بابتسامة رقيقة.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة تشبه ابتسامتها.
“آي.”
“همم؟”
“لا تقلقي بشأن أي شيء.”
ربّت على كتفها برفق.
ارتجّت عيناها الذهبيتان كأوراقٍ تهتز في مهبّ الريح.
‘كيف علم؟’ كانت تشعر بالقلق منذ لحظة قرأت تلك الرسالة.
فرفعت صوتها متعمدة لتبدو أكثر شجاعة.
“لن أقلق! أنا واثقة أن والدي الحقيقي شخص رائع! لا يُقارن أبداً بذلك القمامة الذي يسمّونه دوق فريا. ربما سيظهر أمامي فجأة مثل أميرٍ من القصص!”
“…ليس بالضرورة أن يكون أميراً، ولا حتى أن يكون والدك.”
قالها دينزل بصوتٍ منخفض، وقد خيّم شيء من الظل على وجهه.
“ماذا تعني؟”
“أقصد… يمكنني أن أكون أنا أميركِ، آي.”
رغم تردده، نطق كل كلمة بوضوح.
“لذا… لا تقلقي كثيراً.”
رمشت آيوديل بسرعة وهي تنظر في عينيه.
لم يكن كثير الكلام عادة، ولا يظهر مشاعره، لكن هذه أول مرة تتحدث فيها نظراته بجديةٍ صادقة كهذه.
‘أراد فقط أن يطمئنني.’
ابتسمت بلطف ولمست أنفه بخفة.
“أوه، أيها الأمير الأخرق، أي أميرٍ هذا؟”
ارتبكت نظراته لوهلة، وكأن كلماتها جرحت شيئاً في داخله.
لكنها لم تنتهِ بعد.
“ليس عليك أن تكون أميراً.”
“…هاه؟”
“أنت أغلى شخص لدي يا دينزل. حتى لو كنت مظلماً مثل الفحم، فأنت بالنسبة إليّ أجمل من القمر والنجوم.”
ابتسمت بعينين نصف مغمضتين وعانقته بقوة.
“حتى لو لم تكن أميراً، سأحبك دائماً أكثر من أي أحد.”
“آي…”
ظل صامتاً للحظة وهو بين ذراعيها، ثم بدا كأنه يريد قول شيء مهم.
“آي، في الحقيقة… أنا…”
لكن قبل أن يكمل، لفت نظرها من النافذة موكب العربات الذي يقلّ الدوق وعائلته مغادراً القصر.
“آه، لقد رحلوا! سأذهب الآن!”
كان هذا هو التوقيت المثالي لاقتحام المكتب.
لوّحت له بعجالة وخرجت مسرعة من العلية.
وبقي هو وحده في الغرفة، لم يفعل سوى التنهد بصوت خافت.
التعليقات لهذا الفصل " 6"