الفصل 4
نظرت آيوديل بشرود إلى نهاية الرسالة التي كُتب عليها: “أمك، روز”.
لكن ما كان صادماً أكثر من فكرة أن أمها التي قيل إنها تخلّت عنها أمام قصر الدوق قد أرسلت إليها رسالة،
هو ما ورد داخل تلك الرسالة نفسها.
“أنا…”
سقطت يدها التي كانت تمسك الرسالة من دون وعي، وارتجف صوتها المرتعش في الهواء.
كانت الرسالة تحمل حقيقة مذهلة.
الحقيقة كانت:
“أنني… لست ابنة الدوق فريا؟”
نعم، والد آيوديل الحقيقي لم يكن الدوق فريا.
لم تكن الرسالة تحتوي سوى على سطرين فقط.
أن آيوديل ليست ابنة الدوق فريا،
وأن هوية والدها الحقيقي مذكورة في الرسالة.
لكن الغريب أن الاسم قد تلطخ وتشوّه كما لو أنه تلاشى بالحبر المذاب في الماء.
“كيف… كيف راودكِ التفكير في مثل هذه الخديعة؟!”
تمتمت بالشتائم وهي تسحق الرسالة بقبضتها وتلقيها على الأرض بغضب.
“هذا… جريمة، إنها جريمة بحق!”
إن لم يكن الدوق فريا والدها الحقيقي،
فلماذا إذن تخلّت عنها أمها أمام قصره؟
هل كانت حقاً كما قال عنها، امرأة وضيعة منحطة؟
وإن كانت قادرة على إرسال رسالة كهذه الآن،
فلماذا تركتها هنا منذ البداية؟
إذا لم يكن الدوق فريا والدها… فلماذا إذن؟
“آي…”
“ماذا عليّ أن أفعل الآن؟”
ارتجفت أطراف أصابع آيوديل بشدة.
لم تعد تعرف إن كانت تلك الرسالة قد أُرسلت حقاً من والدتها،
ولا إلى أي حد يجب أن تصدّق ما كُتب فيها.
لكن إن كان ما ورد فيها صحيحاً،
وإن لم تكن حقاً ابنة الدوق فريا،
فذلك يعني وقوع كارثة حقيقية.
فالناس هنا يعاملونها كمخلوقة دون البشر لأنها “ابنة غير شرعية” فحسب.
كانت تشكرهم لمجرد إعطائها خبزٍ يابس،
وتتلقى الإهانات والضرب والسجن كما لو كان ذلك جزءاً من حياتها اليومية.
أما لو انكشف أنها “مزيفة”…؟
‘سيفصلون رأسي كما تتساقط زهور الماغنوليا الذابلة.’
“ما بكِ؟”
“إنها رسالة مزيفة… لابد أنها كذلك! عليّ أن أحرق هذه الرسالة حالاً!”
حدّقت بالرسالة الممزقة على الأرض، وبدأت تبحث بعينيها عن عود ثقاب.
“ها هو!”
التقط دينزل علبة الثقاب الموضوعة على المكتب بسرعة،
ومرّر رأسها على سطح المكتب ليُشعلها.
“خذي.”
“شكراً لك.”
وفي اللحظة التي همّت فيها آيوديل بإشعال الرسالة،
انفتح الباب فجأة بعنف.
“هاه…”
ارتسم ظلّ ضخم أمامها.
رفعت رأسها ببطء، ثم شهقت بشدة.
كان الواقف أمامها هو الدوق فريا نفسه.
‘يا إلهي، لماذا الآن بالذات!’
صرّت على أسنانها وهي تخفي عود الثقاب المشتعل خلف ظهرها لتطفئه خلسة.
كان هذا الرجل نادراً ما يدخل هذه الغرفة،
إلا عندما يأتي ليعاقبها.
هل ما زال غاضباً بعد العقوبة التي أمر بها قبل قليل؟
لكن مهما كان، لم تكن تحتمل أن تُهان أمام دينزل.
ومع ذلك، لم يكن بوسعها أن تفعل شيئاً.
انحنت بخضوع، عاجزة تماماً.
“هاه، مثير للسخرية.”
انتقلت نظراته الباردة بين النافذة المفتوحة ودينزل الواقف هناك.
“أتشبهين أمكِ الوضيعة؟ أبدأتِ بإغواء الرجال وأنتِ في هذا العمر؟”
“يا صاحب السمو…”
خشية أن يضربها الدوق، ركع دينزل على ركبتيه فوراً.
“أنا من جاء من تلقاء نفسه.”
قالها بوجه مرتبك على غير عادته، محاولاً الدفاع عنها.
وكان صادقاً، إذ لم تدعه آيوديل؛ هو من دخل الغرفة بنفسه.
“الفتاة لا ذنب لها…”
“اصمت!”
اشتعلت نظرة الدوق فريا بوحشية غاضبة.
“أتجرؤ أيها الحقير؟!”
رفع يده ليضربه.
نظرت آيوديل إليه برعب.
‘أعطاني غرفة صغيرة بالكاد تصلح للسكن، والآن يثور على دينزل؟! لماذا؟ لا أفهم… ولا أريد أن أفهم.’
غطّت عيناها الذهبيتان بالغضب المكبوت.
“سيدي!”
لكنها أدركت أنه إن حاولت التحدّث الآن،
فهي ودينزل سيعاقبان معاً، وربما يُقتل هو.
لذا، ركعت على ركبتيها لأول مرة في حياتها.
“دينزل لم يفعل شيئاً!”
رغم ألم جسدها من الضرب السابق،
إلا أنها لم تستطع تحمل فكرة أن يُؤذى صديقها.
“نعم، لقد ورثتُ دماء أمي الوضيعة…”
كانت كلماتها تخرج متهدجة، ودموعها تتساقط قهراً.
ثم ابتلعت ريقها بصعوبة وتابعت بصوت خافت:
“أنا من أغويته.”
انخفض صوتها حتى كاد يختفي.
لكن كلماتها تلك بدت مرضية للدوق فريا.
ابتسم بخبث وهو يُنزل يده ببطء، ثم التفت نحو روبيتا التي كانت قد تبعته إلى الغرفة.
“اطردي هذا العبد من هنا فوراً.”
“نعم، سيدي.”
قبضت روبيتا على ياقة دينزل بعنف ورفعته عن الأرض بسهولة مذهلة.
“دينزل!”
تململ محاولاً الإفلات، لكن قوّتها الجسدية كانت تفوقه بكثير.
“آي!”
“دينزل!”
سُحب دينزل كالحيوان المقيّد خارج الغرفة،
وظلت آيوديل تحدّق بمشهد رحيله بوجهٍ شاحبٍ خالٍ من الحياة.
ثم اندفعت وأمسكت بطرف سروال الدوق فريا متوسلة.
“أرجوك، لا تعاقبه!”
إن كانوا يعذبونها هي بلا رحمة،
فما الذي سيفعلونه بعبدٍ مثله؟
“اتركيني.”
رمقها بنظرة باردة كالثلج،
وسحب ثوبه من يدها بعنف.
“آه!”
سقطت الرسالة المجعدة وعود الثقاب من يدها على الأرض.
“رسالة؟”
“ليست شيئاً! مجرد ورقة عبثتُ بها!”
كذبت بوجه جامد دون أن ترمش.
لكن الدوق كان قد رأى الرسالة الممزقة.
“تكذبين عليّ أيضاً؟ وما هذا إذن؟”
التقط الرسالة من الأرض.
“ظننتها أُرسلت بالخطأ، فأردت حرقها.”
“هل هي من أمكِ؟”
قالها بنبرة ساخرة وهو يفتح الورقة لقراءتها.
“لا!”
أسرعت آيوديل نحوه تحاول منعه،
لكن جسد طفلة لا يمكنه مجابهة قوة رجل بالغ.
“تنحّي.”
دفعها بقسوة فسقطت أرضاً.
نهضت فوراً، لكن فوات الأوان،
فقد كان يقرأ ما كُتب داخل الرسالة.
“لا… لا يمكن…”
شحب وجه آيوديل تماماً.
كانت لا تزال في العاشرة فقط.
إذا طُردت الآن، فلن يكون أمامها سوى التسول لتعيش.
رغم امتلاكها طاقة سحرية ضعيفة،
كان عليها أن تصمد حتى تبلغ الرشد لتتمكن من البقاء.
“يبدو… يبدو أن هناك خطأ ما… إنها رسالة خاطئة…”
ارتبكت تماماً حتى لم تعد قادرة على التفكير أو تبرير الموقف.
لكن بينما كانت تحاول استجماع الكلمات، انفجر الدوق فريا ضاحكاً.
“هاهاهاهاها!”
ضحك بصوت مرتفع حتى ارتجّ المكان، ثم همس بوجهٍ متجهم:
“سخافة… لا يُصدّق هذا أبداً.”
أخفى الرسالة في جيبه الداخلي،
ونظر إليها بنصف ابتسامة وهو يرفع حاجبه بخفة.
“ارتاحي.”
“ماذا؟”
‘قال… ارتاحي؟’
هل سمعتُه حقاً يقول ذلك؟
رمشت آيوديل بذهول.
في تلك الرسالة ما ينفي أبوته لها…
ومع ذلك لم يضربها، ولم يطردها.
هل يعقل أن ينتهي الأمر هكذا فقط؟
“هاها… والدها الحقيقي، إذن…”
تمتم ضاحكاً لنفسه بضحكة مضطربة،
ثم غادر الغرفة والرسالة في جيبه.
وبقيت آيوديل وحدها، تحدّق في الباب المغلق أمامها بعينين فارغتين، كأن شيئاً لم يحدث.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"