3
الفصل 3
‘واو…’
لم تستطع أن تبعد عينيها عنهم، وخرجت ببطء من الفتحة الصغيرة.
حتى بعد أن خرجت تماماً، ظلّت نظراتها معلّقة بأفراد العائلة الإمبراطورية.
لم يسبق لها أن رأت البحر، لكنها تخيّلت أنه لو رأته فعلاً لكان بلون عيني دينزل نفسه.
لكنها اكتشفت الآن أنها كانت مخطئة.
ذلك الشعر الأزرق الذي لا يُمنح إلا لأفراد السلالة المباشرة من العائلة الإمبراطورية في كاينيس، كان يخطف الأنظار أكثر من الثريات المتلألئة في القاعة.
ذلك اللون الأزرق الساحر، كان يمكن وصفه بأنه الأمواج ذاتها.
أما شعر الأميرتين التوأم، فكان أشبه بشعرٍ رأتْه ذات مرة من بعيد في حفلة شاي أقامتها شينيل — كغيمة من غزل البنات، ورديٍّ رقيقٍ يبدو وكأنه سيذوب في الفم بمجرد لمسه.
‘كيف يمكن أن يكون شعر الإنسان بهذا الجمال…؟’
تمتمت آيوديل بإعجابٍ دون أن تشعر، وظلت تحدّق في أفراد العائلة الإمبراطورية مأخوذة بسحرهم.
“انظري إلى عيونهم الذهبية تلك، أليست مدهشة؟”
“صحيح، من أين يأتي كل هذا الجمال؟”
حتى النبلاء كانوا يتهامسون بما كانت تفكر به هي نفسها.
عندها فقط، انتقلت نظراتها من شعرهم إلى أعينهم.
‘ما هذا؟’
لونها الذهبي يشبه عيون النمر — نفس لون عينيها تماماً.
‘إنها تشبه عيوني! أم أنها مختلفة قليلاً؟’
أمالت رأسها بخفة وهي تشعر بشيءٍ غريبٍ في صدرها.
الناس الذين كانوا يرتجفون خوفاً من لون عينيها الذهبيّ ويصفونه بالمرعب، الآن يمدحون العيون الذهبية نفسها لأنها تخصّ العائلة الإمبراطورية.
‘يا للسخرية.’
ظلت تنظر إليهم بغيظ، شفتيها متجهمتين.
وفجأة التفتت نظراتها إلى برجٍ صغيرٍ من الحلوى الملوّنة.
‘آه! ماكارون!’
تذكّرت حين تسللت إلى المطبخ ذات مرة لتحاول سرقة خبز، ووجدت صدفةً قطعة صغيرة من حلوى الماكارون على الأرض، التقطتها وأكلتها.
ذلك الطعم الساحر لم يفارق ذاكرتها أبداً.
‘دينزل… لم يتذوقها ولو مرة واحدة بالتأكيد.’
ابتلعت ريقها بصعوبة.
كانت خطتها أن تدور في القاعة وتسبب الإحراج للدوق فريا بمناداته “أبي” أمام الجميع، لكن رؤيتها لتلك الماكارونات جعلت كل تلك الأفكار تتبخر من رأسها.
‘حسناً، اليوم سأكتفي بسرقة بعض الماكارون فقط. ما الضير في ذلك؟ على أي حال، إن أمسكوا بي فلن يقتلوني… سيكتفون بضربي.’
هزّت رأسها بسرعة لتقنع نفسها، ثم انحنت بخفة والتقطت قطعتين من الماكارون.
لكن في تلك اللحظة،
“آه! ما هذه الطفلة القذرة؟!”
صرخت إحدى السيدات بصوتٍ مرتفع عندما رأت آيوديل بملابسها البالية، وسقطت قطع الماكارون من يدها إلى الأرض.
وفي اللحظة نفسها، التفت الرجل الذي بدا أنه الإمبراطور نحوها.
كانت عيناها على وشك أن تلتقيا بعينيه، عندما انقضّ عليها أحدهم فجأة.
“أنت!”
كان ذلك الدوق فريا نفسه.
“ما الذي تفعلينه هنا؟!”
نظر حوله بارتباك، كأنه يخشى رد فعل العائلة الإمبراطورية، ثم عضّ على أسنانه بقهر.
“هاها، إنها مجرد خادمةٍ تصرّفت بوقاحة، سيدتي.”
“آه… لا بأس، يا صاحب السمو.”
“إذن، أستأذن.”
في لحظةٍ واحدة، جذبها إليه وأخفى جسدها داخل معطفه الكبير وغادر القاعة بخطواتٍ غاضبة.
كانت خطواته سريعة وغليظة حتى وصلا إلى العلية، وهناك فتح الباب ورماها على السرير بقسوة.
“آآه!”
“أيتها الصغيرة الحقيرة، كيف تجرؤين على التسلل إلى القاعة؟!”
قفزت من السرير بسرعة، وصرخت في وجهه بعينين تومضان كالقط الغاضب.
“…أنا أيضاً… أنا أيضاً ابنتك! لماذا لا يُسمح لي بالذهاب؟!”
“ابنتي؟”
ضحك الدوق فريا بسخرية وهو يحدّق فيها، لا يصدق جرأتها على النظر إليه مباشرة.
“ابنة؟ ابنةٌ ودمك مختلطٌ بدمٍ حقير؟ يا للسخافة.”
التوى وجهه غضباً، ثم قال ببرودٍ شيطاني:
“يبدو أنك تحتاجين إلى تأديب.”
أمر عبر أنبوب الاتصال بإحضار كبيرة الخادمات، روبيتا.
لم تمضِ لحظات حتى دخلت امرأة ضخمة تشبه الضفدع، وانحنت أمامه.
“هل استدعيتني يا سيدي الدوق؟”
“روبيتا.”
“نعم، يا سيدي.”
“الفتاة السيئة…”
ألقى نظرةً جانبية نحو آيوديل، ورفع زاوية فمه بابتسامةٍ بغيضة.
“…تستحق العقاب، أليس كذلك؟”
“بالطبع، يا سيدي.”
أجابت روبيتا بابتسامةٍ مطابقة لابتسامته تماماً.
وفي تلك اللحظة، وسط كراهيةٍ مبهمةٍ من الكبار لا تفهمها الطفلة، لم تستطع آيوديل سوى الاستسلام بصمتٍ وعجز.
***
انتهت الحفلة الفخمة، وغمر الهدوء الخانق قصر الدوق.
في العلية، كانت آيوديل جالسة في ركن السرير، تعانق ركبتيها وتدفن وجهها بينهما.
وفجأة، فُتح نافذة العلية بصوت خفيف.
“…آي.”
كان القادم هو دينزل.
“يبدو أن الدوق أخذ المفتاح معه. لم أستطع إيجاده هذه المرة…”
كان قد تسلّق جدار القصر مستعيناً بكروم اللبلاب، ويداه داميتان من شدّة الخدوش، لكنه لم يحتمل البقاء بعيداً وهو قلق عليها.
أخفى يديه الجريحتين خلف ظهره وتقدّم نحوها.
“آي، هل كنتِ تبكين؟”
ارتجف كتفاها عند سماع صوته، ثم رفعت رأسها بسرعة وقالت:
“لم أبكِ!”
تأمّل وجهها بصمت — عيناها متورمتان، وشفاهها مشققة ينزف منها الدم، وخدّاها مبللان بآثار الدموع.
‘كم من الوقت ظلت تبكي تعض على شفتها كي لا تصرخ…’
“لكن ما زال هناك دموع.”
أخرج من جيبه منديلاً نظيفاً.
“ليست دموعاً، إنها… لعاب!”
كان يحتفظ دائماً بذلك المنديل مغسولاً بعناية من أجلها، لأنه يعلم كم تحاول إخفاء بكاءها.
“إذن امسحي لعابك.”
بدأ يمسح آثار الدموع بخفة، لكن ما إن جففها حتى انهمرت دموع جديدة مكانها.
“لماذا أنا الوحيدة التي يكرهونها هكذا؟”
“آي…”
“أعرف! أنا أعرف السبب!”
خَطفت المنديل من يده ومسحت وجهها بعنف.
“أنا مجرد لقيطة ودمي دنيء، وليس فيّ ما يُحب!”
حاولت أن تبتلع غصّتها وتكتم بكاءها، لكن الحزن المنفجر لم يُرَدّ.
“لهذا يكرهونني…”
عضّت على شفتها المجروحة محاولة كتم شهقاتها.
تأملها دينزل بصمت، ثم لمس شفتيها برفق وقال:
“توقفي، ستؤذين نفسك.”
“لا يؤلمني.”
“آي.”
رفع عينيه الزرقاوين نحوها وقال بهدوءٍ صادق:
“أنت لستِ حقيرة. لا يوجد في هذا العالم من يستحق الكراهية بلا سبب.”
ومثلما كانت تفعل معه، مدّ يده وربت بلطّف شعرها البنفسجي ببطء.
“أنت لطيفة ومميزة، آي.”
كانت كلماته بسيطة، لكنها محمّلة بالصدق والدفء.
“لذا توقفي عن البكاء، فالأمر ليس ذنبك.”
“ما بك…”
لكن تلك الكلمات الصادقة كانت كافية لتذيب حزنها.
مسحت دموعها بسرعة، فهي تكره أن يراها أحد تبكي، لكن الغريب أن وجود دينزل لم يجعلها تشعر بالخزي أو الضعف.
“لماذا أصبحت بارعاً في الكلام فجأة، دينزل؟”
قالت محاولة إخفاء ارتباكها بابتسامةٍ خفيفة.
“أمم… المهم.”
سعلت بخجل وأغمضت عينيها لحظة.
“شكراً لك… دينزل.”
كانت خجولة، لكنها ممتنّة بصدق.
“أنت حقاً أعزّ أصدقائي.”
أمسكت يديه بحرارة وهزّتهما بابتسامةٍ مشرقة، فاحمرّت وجنتاه كزهرة الخوخ.
“آه، تذكرت.”
كأن فكرة خطرت له، أخرج شيئاً من جيبه — رسالة صغيرة.
“ما هذه؟ رسالة؟”
“وجدتها أمام بوابة قصر الدوق. عليها اسمك، فظننت أنها لك.”
“أمام القصر؟ بهذه الصدفة؟”
رمشت آيوديل بدهشة.
“أظن أن بومة البريد أسقطتها.”
“بومة البريد تُخطئ؟”
كان الأمر غريباً، فهي لم تتلقَّ أي رسالة في حياتها.
“هاك، خذيها.”
“حسناً.”
مدّت يدها بتردد وأخذت الرسالة.
على الغلاف كُتب: إلى آيوديل التي تسكن في العلية بأعلى قصر الدوق فريا، في أقصى اليسار.
بفضولٍ غامض، شكّلت خنجراً صغيراً من الجليد وفتحت الظرف.
بدأت عيناها تتنقل بسرعة بين الأسطر، ثم فُتح فمها ببطء.
“…هاه.”
ضحكت بخفة دون وعي.
“أمي؟”
كانت المرسِلة هي والدتها — المرأة التي أنجبتها.
التعليقات لهذا الفصل " 3"