الفصل 2
“……آي.”
“كيف فتحت الباب؟”
“……سرقتُه.”
أجاب الفتى المسمّى دينزل ببطء وبنبرة ساذجة.
كان يعمل في أقصى أركان قبو الدوقية، ينقل الحطب أو يشعل النار باستخدام أحجار المانا، وكان عبداً اشتراه الدوق فريا من سوق العبيد.
‘حين جاء إلى هنا أول مرة… كان جميلاً حقاً. لم يكن يعرف الكلام ولا القراءة، لكن…’
تمتمت آيوديل وهي تستعيد يوم لقائها الأول بدينزل.
كان شعره الفضيّ، النادر في إمبراطورية كاينيس، أشبه بوميض ضوء القمر الناعم، يخطف الأنفاس. أما عيناه الزرقاوان فكانتا كصفاء الياقوت الأزرق النقي، بلون يثير الدهشة لمجرد النظر إليه.
لكن رغم هذا الجمال الساحر، كان عاجزاً عن الكلام ولا يعرف القراءة أو الكتابة.
وفي النهاية، بعدما جلبه الدوق ليكون خادماً خاصاً لابنته شينيل، طُرد في يوم واحد إلى قبو الدوقية المظلم.
بسبب كونه عبداً، كان يُعامل أسوأ حتى من آيوديل، ابنة الدوق غير الشرعية.
وفي الأيام التي يفشل فيها في أداء عمله، كان يُترك بلا طعام تماماً.
‘لكن حاله تحسَّن كثيراً الآن. طبعاً، ومن علّمه غيري؟ هيهي.’
كانت آيوديل هي من علّمه التحدث بلغة كاينيس وقراءتها.
سخر منهنّ الخدم لأن الطفلين القذرين لا يفترقان، وتعرّضت للعقاب والجوع مراراً لأنها كانت تساعده، لكنها لم تكن من النوع الذي ينهزم.
“هل أكلت شيئاً يا دينزل؟”
حدّقت عينَاها الذهبيتان المتلألئتان تتفحصانه من رأسه إلى قدميه.
كان شعره الفضيّ متسخاً لدرجة يصعب معها تمييز لونه الأصلي. ووجهه كذلك مغطى بالتراب، وملابسه البالية تفوح منها رائحة كريهة.
ومع ذلك، كان هو الملاذ الوحيد لها في هذا المكان.
كانت تشعر نحوه بألفةٍ خفية، فقد شاركها حتى فتات الخبز القاسي الذي كانت تحصل عليه بالكاد.
“……لا.”
‘هاه، كما توقعت. لو لم أكن هنا لما أكل شيئاً أبداً.’
تنهدت آيوديل وهزّت رأسها بأسى.
“صمتَ مجدداً؟ كان عليك أن تسرق خبزاً بدلاً من المفتاح!”
“لكن…”
تردد طويلاً قبل أن يقول ببطء:
“كنتِ… محبوسة هنا.”
“……حقاً.”
كانت عيناه تنظران إليها كجروٍ مخلصٍ إلى سيده.
ابتسمت بخفة وعبثت بشعره المتسخ.
“هيا بنا.”
سحبته من يده.
“إلى أين؟”
“لننتقم.”
“انتقام؟”
“نعم. كيف يجرؤون على حبسي؟”
اتجهت بنظرها نحو قاعة الاحتفالات الكبرى، حيث كانت الأضواء المتلألئة تتراقص خلف النوافذ العريضة.
كانت عربات الضيوف تصل واحدة تلو الأخرى، إيذاناً ببدء الحفل.
“سنرى من سيتلقى العار الليلة.”
عاد إلى ذهنها الحوار الذي سمعته سابقاً بين الدوق وشينيل، فشدّت على أسنانها وهي تحدق نحو القاعة.
صحيح أنها مجبرة على العيش بصمتٍ وخضوع، لكنها لم تكن ممن يتحمّلون الإهانة.
“أولاً، نذهب لنأكل شيئاً. أنت تبدو جائعاً.”
في مثل هذه الحفلات، تكون المائدة مليئة بأطعمةٍ باردة وأصناف يمكن تناولها بسهولة باليد، لذا كانت واثقة أن التحضيرات أوشكت على الانتهاء.
“بهذه الساعة، المطبخ شبه خالٍ. الجميع مشغول بالخمر والطعام، لذا هذا الوقت مثالي…”
“لتتلقّي الضرب ثانيةً؟”
قاطعها دينزل ببساطة ووجهه بريء تماماً من أي خبث.
رمشت آيوديل مرتين بعينين متفاجئتين ثم صاحت غاضبة:
“من قال إن أحداً سيضربني!”
“رأيت الخادمات يضربنك على رأسك.”
“هه! لم يكن مؤلماً إطلاقاً!”
رغم أنه كان يؤلمها فعلاً، لكنها كانت تكره أن تظهر ضعفها أمامه.
قالت بلهجة متعالية وهي ترفع رأسها:
“أقول لك لم يكن يؤلمني أبداً!”
“لكنه يؤلمني.”
“ما الذي يؤلمك؟”
“هنا.”
وأشار بإصبعه إلى صدره.
“……ماذا؟”
مالت برأسها مستغربة.
“ولمَ يؤلمك؟ أنت مريض؟”
“لا أدري… لكن حين يضربونك… لا أحب ذلك.”
عبس قليلاً وأزاح نظره عنها.
“ربما يجب أن تذهب إلى الطبيب.”
“عادةً لا أشعر بشيء. إلا عندما يؤذونك فقط…”
تابع كلامه ببطءٍ شديد.
“فقط في تلك الأوقات.”
“آه يا لي من حمقاء، لا يجب أن تمرض أبداً. أمثالنا إن مرضوا يعانون أكثر.”
مدّت يدها برفق تضعها على جبينه.
لحسن الحظ، لم يكن مصاباً بالحمى.
تنهدت بارتياح ثم ابتسمت له قائلة:
“لا تمرض، حسناً؟”
“……حسناً، لن أمرض.”
ابتسم بخجل، فابتسمت هي الأخرى راضية وربّتت على كتفه.
كان ذلك الابتسام نادراً، لا يراه أحد سواها.
وشعرت بشيءٍ دافئٍ غريبٍ في صدرها وهي تبتسم له بدورها.
“هيا بنا.”
“حسناً.”
سارت وهي تمسك بيده، متسللة بخفة نحو المطبخ دون أن يلحظهما أحد.
كان الجميع منشغلاً بالتحضيرات، فلم يلتفت لهما أحد.
وبعد لحظات، وصلا أخيراً إلى المطبخ.
وقفت خلف الجدار تراقب آخر عربة طعام تغادر، ثم اندفعت إلى الداخل بخفة سنجاب.
“فوو…”
زفرت بارتياح وبدأت تفتّش في الأكياس المكدسة في الزاوية.
“هاه، كما ظننت! إنهم يخبئون الطعام هنا في كل حفلة!”
كان في رأيها أن سرقة طعامٍ مسروقٍ أصلاً لا تُعد خطيئة.
احتضنت رغيف خبزٍ طريّاً وعدداً من الفواكه الطازجة.
“هاك.”
مزّقت الخبز إلى قطعٍ وبدأت تدسها في جيوب دينزل واحدة تلو الأخرى.
“هذا يكفيك لعدة أيام، أليس كذلك؟”
أما لنفسها، فاكتفت بتفاحة وقطعة صغيرة من الخبز.
نظر إلى جيوبه الممتلئة مأخوذاً.
“……وأنت؟”
“أنا أكتفي بهذا القدر.”
قالت وهي تمضغ قطعة خبز رطبة، متلذذة بطعمها الذي كاد يكون حلواً من شدة الجوع.
“أنا صغيرة، لا أحتاج الكثير. لكنك فتى، ويجب أن تكبر جيداً.”
“ما الفرق بين الفتى والفتاة؟ قالوا إن الأطفال جميعهم يجب أن يكبروا جيداً.”
“……إن كان أحدنا فقط سيكبر، فليكن أنت.”
كانت تتحدث وهي تزدرد اللقمة تلو الأخرى، وجوعها لا يرحم.
“……لا أريد.”
“هاه؟”
ابتلعت الخبز بسرعة وحدّقت فيه بعينين ضيقتين.
“ألن تسمع كلام أختك الكبيرة؟”
كانت تعرف أن أخذ الكثير من الطعام سيُثير الشكوك، لذا كانت حذرة.
أما دينزل، فلم يكن يملك فرصة أخرى كهذه.
“أنت بالكاد تستطيع التسلل إلى هذا المكان.”
“أتسلل جيداً. لا أحد يهتم بي. لذا سنتقاسم بالتساوي.”
أخرج ما وضعته في جيوبه وأعاده إلى يديها.
“عنيد… حسناً كما تريد.”
لم تستطع إلا أن تبتسم بخفة.
لم يهمها كونه عبداً أو متسخاً؛ المهم أنه الوحيد في صفها.
“والآن بعد أن أكلنا، حان وقت الانطلاق.”
“إلى أين؟”
“أنت ستعود.”
“لا أريد…”
“لدي عمل، لذا سأذهب! أراك لاحقاً!”
لم تكن تريد أن تورطه في انتقامها.
لوّحت له بسرعة واتجهت نحو القاعة الكبرى.
كانت تعرف أن الحراس سيمنعونها إن حاولت دخولها بهذا المظهر، لكنها كانت تعرف سراً…
‘كان هناك ثقب صغير في الجدار، كجحر فأر.’
ضحكت بخبث ودخلت من الممر السري الذي يصل بين القصر وقاعة الحفل.
وحين كانت على وشك الخروج تماماً، سمعت الصوت العالى يعلن:
“ها هو شمس إمبراطورية كاينيس، جلالته الإمبراطور، والأمير بلوتو، والأميرة تيتيس، والأميرة كورديليا يدخلون!”
عندها، اتسعت عينا آيوديل وهي تحدق نحوهم، يتلألأ في عينيها بريق لم يُرَ من قبل.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"