1
الفصل 1
كانت عائلة الدوق فريا من السلالة الإمبراطورية.
كان الدوق فريا شقيق الإمبراطور الحالي، ورجل أعمال عبقري يقف على قمة طبقة النبلاء.
لكن حتى ذلك القصر الذي بدا مثالاً للكمال، كان يحمل وصمة عيب واحدة.
“أوه…”
اصطدمت طفلة بظهر إحدى الخادمات التي كانت منشغلة في إعداد فطور القصر، فهوت على الأرض.
“يا إلهي! ماذا تفعلين هنا يا آنسة آيوديل! أزعجتيني حقاً!”
صرخت الخادمة عندما رأت شعر الطفلة البنفسجي المتسخ المليء بالرماد.
اصطدام أنفها بالأرض جعل شعيرات دموية دقيقة تنفجر، وسال الدم من أنفها بخط أحمر طويل.
ورغم مناداتها بـ”الآنسة”، لم يمد أحد من الموجودين في المطبخ يده ليساعدها على النهوض.
بدت آيوديل معتادة على هذا، فمسحت الدم بكمّها البالي، ثم نهضت وحدها ومدت كفها.
“أعطني خبزاً.”
“لقد أكلتِ قبل قليل.”
“أنا جائعة. أعطني خبزاً.”
“يا لهذه البنت! كأن في بطنها متسول!”
رمقوها بعيون متجهمة ثم رموا إليها خبزاً أسود قديماً قاسياً كما لو أنه قمامة.
في تلك اللحظة، تلألأت عينا آيوديل الذهبيتان ببريق حاد كعينَي وحش.
نظرتها القاسية غير الطفولية جعلت الخادمات يرتجفن للحظة، لكنهن صحنَ بصوت أعلى.
“وإن رمقتِنا بتلك النظرة، ماذا ستفعلين؟ لستِ سوى ابنة غير شرعية!”
“هيا، لنذهب. لا عجب ألا يحبها أحد.”
“انظري إلى تلك العينين الذهبيتين المقززة.”
“ونظرتها المفترسة تلك، يا للرعب.”
دفعن العربة المليئة بالأطعمة الدسمة وخرجن تباعاً من المطبخ.
التقطت آيوديل الخبز المتدحرج على الأرض، ثم عضّت عليه بقوة.
كان قاسياً بطعم كريه يلتصق في فمها، لكنها لم تملك خياراً آخر.
فحتى طعام كهذا يسد رمقها.
“طعمه سيئ…”
أنهت قطعة الخبز وهي تضرب يديها ببعضهما وتعضّ على أسنانها بإصرار.
“حين أكبر… لن أترك أحداً منهم وشأنه.”
كانت كلماتها الغاضبة بلا معنى، لكنها جعلتها تشعر ببعض الراحة.
حتى بعدما أنهت كلامها، رمقت الباب بحذر.
فالتحسب والحذر كانا وسيلتها للبقاء على قيد الحياة.
الجميع هنا يكرهونها.
‘من الأفضل أن أعود إلى غرفتي.’
أخذت زجاجة ماء وغادرت المطبخ.
رغم مظهرها البائس المتّسخ، لم يلتفت إليها أيّ من خدم القصر أثناء مرورها.
كانت آيوديل الشفافة في بيت الدوق فريا، كأنها لا وجود لها.
ذلك لأنها كانت الابنة غير الشرعية الوحيدة للدوق، عيبه الوحيد.
لكنها فضّلت أن تُتجاهل على أن تُهان.
‘هاه، حتى لو كرهتموني، هذا لا يهمني.’
لم تكن تعرف تفاصيل ولادتها، لأن أحداً لم يتحدث معها كثيراً، لكنها سمعت أن امرأة مجهولة سقت الدوق دواءً غريباً، فكانت هي ثمرة ذلك.
ثم تُركت أمام بوابة القصر مع رسالة قصيرة فقط.
‘حتى لو كنتُ والدتي، لكنتُ كرهت طفلاً مثلي.’
ارتسمت مرارة في نظراتها وهي تنظر نحو قاعة الطعام.
من الباب المفتوح قليلاً، تسللت أصوات عائلتها والدها واختها غير الشقيقة وهي تتحدث بود.
“أنا متحمسة جداً لحفل الخطوبة، يا أبي!”
“ستصبحين قريباً أنبل سيدة في الإمبراطورية يا ابنتي.”
توقفت قدماها رغماً عنها.
‘أنبل سيدة؟’
صحيح، بعد أيام قليلة فقط سيكون حفل خطوبة أختها غير الشقيقة، شينيل.
والحفل الاحتفالي بذلك كان اليوم تحديداً.
انفلتت منها ضحكة قصيرة ساخرة دون وعي.
فالإمبراطور الحالي هو شقيق الدوق، أي أن ولي العهد ابن خال شينيل.
‘سحقاً، أن تتزوجي ابن عمك لتصيري إمبراطورة؟ مقزز!’
زمّت حاجبيها بازدراء وهمّت بالمغادرة، لكن حينها سمعت كلمات جمدت خطواتها.
“بالمناسبة، أثناء الحفل اليوم… سنحبس آيوديل في العلية، صحيح؟”
ارتج رأسها عند سماع اسمها، فالتفتت نحو الصوت.
“من؟”
عبس الدوق كأن الاسم لطّخ سمعه.
“آيوديل، تلك القذرة.”
“آه، لا يمكن أن نُظهرها أمام الضيوف. ألا يكفينا العار؟”
“أعرف! كنت قلقة أن تسمح لها بالتجول بحرية، يا أبي.”
ضحك الجميع بسعادة بعد كلام شينيل.
مشهدهم بدا في غاية الانسجام… إلى حد يدعو للغثيان.
‘سخيف! كأنني كنت أريد الذهاب إلى حفلكم البائس!’
لو سمعهم أحد لظن أنها ترجّت أن تُدعى.
قطّبت حاجبيها وسارت نحو العلية في الطابق الأعلى من القصر.
بمجرد أن دخلت غرفتها، ألقت بنفسها على السرير البالي.
صرير مزعج اخترق الغرفة، لكنها اعتادت على ذلك منذ زمن.
تمدّدت وضمّت كفيها معاً ثم أغمضت عينيها بإحكام.
بدأت أنفاسها تهدأ تدريجياً، كأنها تُركّز بشيء ما.
وعندما فتحت عينيها فجأة، تفتّحت على راحتيها زهرة جليدية صغيرة متلألئة بضوء أزرق.
“هيهي.”
تراقص الضوء الأزرق في عينيها. كان هذا سرّها الذي لا يعرفه أحد.
فمنذ بدأت تدرك العالم حولها، كانت قادرة على استخدام السحر.
كانت المانا أو القوة السحرية من أندر الموارد في إمبراطورية كاينيس.
وكانت العائلات الإمبراطورية والنبلاء الأثرياء يحتكرونها عبر عقود مع برج السحر.
وبسبب قيمتها، كان النبلاء يزوّجون أنفسهم بساحرات بغضّ النظر عن النسب، طمعاً في توريث تلك القوة.
لذلك لم تخبر أحداً بقدرتها.
لأنها لم تكن تملك ما يكفي من القوة لحماية نفسها بعد، ولو كُشف أمرها فقد تُستغلّ بطرق لا يمكنها تخيلها.
وفوق ذلك…
‘الدوق لا يحب السحرة.’
كانت قد سمعته ذات مرة يشتم برج السحر بشراسة وهو يعمل في تجارة أحجار المانا.
لم تفهم كل ما قاله، لكنها أدركت أنه يكرههم بشدة.
لهذا آثرت الصمت.
عزمت أن تُخفي سحرها حتى يوم تهرب فيه من هذا القصر اللعين حين تبلغ سن الرشد.
نظرت إلى كومة كتب خبأتها تحت مكتبها — كتب عن السحر سرقتها خلسة من مكتبة القصر أثناء تأدية المهام.
ويبدو أن لديها موهبة حقيقية، فحتى دون معلم، كانت تزداد قوة يوماً بعد يوم.
حتى إنها بدأت تشعر بتدفق المانا داخل جسدها بوضوح.
‘ربما… أنا عبقرية؟’
رفعت زاوية شفتيها بثقة حين سمعت فجأة:
“آنستي.”
طرق خفيف على الباب جعلها تقفز من مكانها مذعورة، فجمعت كفيها بسرعة.
اختفت الزهرة الجليدية الجميلة التي كانت تتلألأ على كفيها في لحظة.
“أ… ماذا هناك؟”
“كما تعلمين، اليوم حفل مهم جداً، حتى العائلة الإمبراطورية حضرت. سأقفل الباب عليك الآن.”
رنّ صوت قفل الحديد وهو يُدار في القفل الخشبي.
“انتظري…!”
لم تأكل اليوم سوى قطعة خبز يابسة بالكاد، فكيف ستصمد حتى الصباح؟
“افتحي الباب! على الأقل أعطني شيئاً آكله!”
طرقت الباب بعنف تصرخ، لكن لم يجبها أحد.
“آه…”
بعد أن أرهقت ذراعاها، سقطت على الأرض منهكة.
لو أرادت، كان بإمكانها كسر هذا الباب الخشبي الهش بسحرها.
لكن كل استخدام للمانا يترك أثراً، وقد يكتشفه أحد.
‘يبدو أنني سأتضور جوعاً الليلة.’
تمنت لو أنها أخذت مزيداً من ذلك الخبز السيئ.
دفنت وجهها بين ركبتيها وهي تندم بلا طائل.
‘الكبار لا يمكن الوثوق بهم أبداً.’
أغمضت عينيها وعضّت شفتيها.
منذ أن كانت رضيعة، عاشت متنبهةً لكل حركة لتحمي نفسها، فاختفت منها براءة الطفولة منذ زمن بعيد.
وكانت تكره نفسها لذلك أيضاً.
‘أكره الجميع. أكرههم جميعاً.’
في الظلام خلف جفنيها، تخيّلت وجه أمها التي تخلّت عنها.
من تكون؟ ولماذا تركتني هنا؟
هل ظنّت أن القصر سيعتني بي جيداً؟
‘هل كانت تحبني؟’
ربما لم تتخلّ عني كرهاً، بل رغبة في حمايتي.
حتى إن كانت مجرد امرأة عادية، فلا بد أنها أدركت أن حياة ابنة غير شرعية في بيت الدوق أفضل من حياة طفلة فقيرة في الشوارع.
‘نعم، لا بد أنها أحبّتني.’
لم تتذكر وجهها، لكنها أرادت أن تؤمن بذلك على الأقل.
وبينما كانت تهدئ غضبها وحزنها بتلك الفكرة الواهية…
“آي…”
رنّ صوت خافت مألوف، كأنه همسة.
رفعت رأسها ببطء.
ثم بدأ الباب يرتجف ويفتح شيئاً فشيئاً.
توسعت عيناها بذهول وهي تحدّق في الشقّ الذي يتّسع تدريجاً.
ومن خلاله، التقت عيناها الذهبيتان بعينين زرقاوين عميقتين بلون البحر.
أشرقت ملامحها في لحظة.
وحين فُتح الباب تماماً، ظهر فتى يحمل القفل بيده، وجهه هادئ خالٍ من التعبير.
“دينزل!”
ابتسمت آيوديل بفرح عارم وارتمت عليه لتعانقه بكل قوتها.
التعليقات لهذا الفصل " 1"