استمتعوا
كانت ملامح هايدي تشعّ بالبهجة، حتى إنّ من يراها لا بدّ أن يظنّ أنّ أمرًا سعيدًا قد حدث لها.
سألتها سينا، التي كانت تحتسي الشاي برفقتها.
“ آنسة كوفنتري، هل من أمر مفرح حصل معك؟“
“ لا، ليس كذلك.”
أجابت هايدي بابتسامة مشرقة، غير أنّ ابتسامتها تلك لم تكن لتُخفي أنّ أمرًا ما يملأ قلبها فرحًا. وفيما كانت كونتيسة بيدفورد تميل برأسها حيرةً، قالت كلوي ضاحكة.
“ على الأرجح، السعادة في طريقها إليها.”
وهنا أطلقت الآنسة كروز، فجأة، صوتًا.
“آه !”
جذبت ردة فعلها الانتباه، وكأنّها اكتشفت شيئًا ما. وفورًا، خطرت فكرة لسينا أيضًا.
‘ أوه، أليس الغد هو ذلك اليوم؟ كيف لي أن أنساه؟‘
وكانت هايدي هي من نطقت بما كانت سينا تفكر فيه.
“ سيكمل على خطوبتنا أنا والسيد غرينت عامان قريبًا.”
كانت قد حصلت على موافقة الزواج بشرط أن يظل الحب ثابتًا بينهما لعامين بعد الخطوبة. وها هو الذكرى الثانية تطرق الأبواب، ولهذا كانت هايدي بهذه السعادة.
“ تهانينا الحارة، آنسة كوفنتري!”
سينا كانت أول من قدّم التهاني، وتلتها البقية، لتتوهّج ملامح هايدي بسعادة غامرة.
“ سيُسعد شقيقي كثيرًا أيضًا.”
قالت كلوي وهي تبتسم، ناظرة إلى هايدي.
بعد انتهاء جلسة الشاي الهادئة، عادت سينا إلى قصر الدوق. كان لوغان يتلقى تقريرًا من جاستن في المكتب.
“ هل أنت مشغول؟“
“ أبدًا.”
أجاب لوغان بلا تردد.
مرّ في عيني جاستن لمحة شك، لكنه تجاهلها وتظاهر بعدم الملاحظة.
خرج جاستن، فجلس لوغان وسينا جنبًا إلى جنب على الأريكة وتبادلا الحديث. وحين أخبرته عن خبر خطوبة هايدي، قال لوغان.
“ مرّ عامان منذ ذلك الحين؟ أشعر وكأنّه حدث البارحة فقط…”
“ أليس كذلك؟“
حين تدخّلا لمساعدة هايدي وبيرسي، لم يكن بينهما شيء بعد. وكانت سينا تنظر إلى لوغان آنذاك كصديق لا غير.
قال لوغان كمن يستعيد الذكريات.
“ ظننت في تلك الفترة أنّني أواعدك.”
قهقهت سينا بخفة.
“ ولهذا ما زالت الآنسة غرينت تسخر منك بسببه، أليس كذلك؟“
“ لقد كنت في علاقة من طرف واحد، كما تقول.”
كانت كلوي تتطرق لذلك أحيانًا. وكان لوغان يشعر بالخجل كل مرة، غير أن مرور الوقت جعله يتقبّل الأمر بهدوء.
مع ذلك، لم يستطع كتم تنهيدة خرجت من صدره.
“ لكن لا بأس.”
قال وهو يمرر يده على وجنة سينا بلطف.
“ فنحن الآن زوجان، أليس كذلك؟“
وهذا كان صحيحًا. فبينما لم تتزوج لا هايدي ولا كلوي بعد، كانت سينا قد ارتبطت بلوغان بالفعل، رغم أن علاقتهما بدأت مؤخرًا فقط.
“ كنا أول من أتمّ الأمر، وهذا يكفي.”
قالها لوغان ثم قبّل خدها. سينا ردّت بتقبيل شفتيه، ثم سألت وقد لمعت في عينيها فكرة.
“ هل يعني هذا أن الأفضل هو من يُنهي الأمور بسرعة؟“
رفع لوغان حاجبيه في اندهاش من سؤالها.
***
بعد أن افترقت هايدي عن مجموعة كلوي، توجّهت برفقة كونتيسة بيدفورد إلى المكان الذي شهد في السابق معركة نرد شرسة بين عائلتي هاريسون وبيدفورد.
وهناك، كان ينتظرها موعدها مع بيرسي.
قالت كونتيسة بيدفورد بقلق.
“ آمل ألا يُزعج زوجي السيد غرينت.”
لكن بيرسي لم يكن منزعجًا أبدًا، بل كان يستمتع بمباراة النرد مع كونت بيدفورد، بل ويهزمه بتفوق.
“ لا أصدق!”
هتف الكونت ممسكًا برأسه، بينما علق بيرسي قائلًا.
“ سمعت أنك ماهر في النرد، سيدي… ولكن؟“
كان صوته ينضح بالمزاح، مما جعل الكونت يومئ برأسه يائسًا.
“ لا سبيل سوى استدعاء دوق هاريسون فورًا!”
“ كفى، يا رجل.”
قالت الكونتيسة بتأنيب وسحبته معها، ليبقى بيرسي وهايدي وحدهما على الطاولة.
كان بيرسي يلوح بالنرد ضاحكًا.
“ يبدو عليكِ الفرح، هايدي.”
“نعم .”
انغرست غمازتاها بعمق في وجهها الضاحك، مشهد رآه بيرسي آسرًا دومًا.
“ لقد تلقيت التهاني من الجميع!”
“ لذكرى عامين من خطوبتنا؟“
“ تمامًا!”
أومأت برأسها، فابتسم بيرسي وأوصل يده ليلمس خدها حيث تتوسد الغمازات.
“ إذًا حان وقت زيارتنا لـ ‘ ذلك المكان‘ ، أليس كذلك؟“
“ نعم، هل تظن أنه سيكون بحالة جيدة؟“
كانت هايدي متحمسة حدّ الامتلاء.
وفي اليوم التالي، تمامًا في الذكرى الثانية لخطوبتهما، استقلت هايدي العربة برفقة بيرسي.
اتجها إلى ريديج، المكان الذي أعلنا فيه خطوبتهما أمام سينا ولوغان بعد هروبهما.
لم تزر هايدي ذلك المكان منذ عامين، فغمرها الحنين.
“ لم يتغير شيء.”
قالت وهي تتأمل محيطها. وكان بيرسي يشاركها ذات الإحساس.
سار الاثنان، متشابكي الأيدي، نحو التلة الصغيرة حيث كتبا رسائلهما قبل عامين، تمامًا كما فعلا يومها.
كان بيرسي يحمل مجرفة صغيرة، ثم توقف عند شجرة كبيرة.
“ هل هي هذه؟“
“ أظن ذلك، هيا احفر يا بيرسي.”
ركع بيرسي وبدأ الحفر. وفيما كانت هايدي تشكّ في الموقع، اصطدمت المجرفة بشيء صلب.
تبادلا النظرات، وظهرت علبة خشبية مدفونة.
“ها هي !”
هتفت هايدي بفرح. فتحها بيرسي باستخدام المفتاح، فوجدوا بداخلها رسالتين وبندنتًا.
رسالتان كتباها لبعضهما بعد الخطوبة، بالإضافة إلى صورة داخل البندنت تعود لسن الخامسة عشرة.
ضحكت هايدي وهي تنظر للصورة وتقارن بين بيرسي الأمس والحاضر.
“ كبرت كثيرًا، بيرسي!”
ضحك بدوره ورد وهو يلمس خدها بلطف.
“ وأنتِ أيضًا.”
ثم قال، وهو يحدق بها.
“ جميلة جدًا.”
ابتسمت هايدي بسعادة.
جلست على الأرجوحة المعلقة على أحد فروع الشجرة، وبيرسي إلى جوارها. تبادلا الرسائل.
“ من يبدأ بالقراءة؟“
سألت هايدي وهي تبتسم، فتردد بيرسي قليلًا.
كان خجولًا من قراءة ما كتبه قبل عامين. فسلّمها الدور.
“ ابدئي أنتِ.”
فتحت هايدي رسالتها، التي كتبتها بعد حصولها على الموافقة.
“ إلى بيرسي…”
صوتها رنّ عذبًا، وابتسمت وهي تنظر إليه. ضحكت قائلة.
“ لا أستطيع التوقف عن الضحك!”
“ إن لم تنتهي، فلن أقرأ رسالتي!”
قال مازحًا، فتماسكت هايدي وأكملت القراءة.
“ هل ستظل تحبني بعد عامين؟“
“ سؤال بديهي.”
ضحك بيرسي، وواصلت هايدي.
“ بفضل الآنسة نيلسون والدوق هاريسون، تمّت خطوبتنا. وبقدر بركتهم، سأعيش حياتي بجد واجتهاد…”
ثم أنهت قراءتها، وحان دور بيرسي.
لكنه تردد.
“ هل يجب أن أقرأها فعلًا؟“
“ بالطبع!”
صرخت هايدي، فتنهد وبدأ يقرأ.
“ إلى حبيبتي هايدي…”
لمّا نطق بالمقدمة، غطّت هايدي فمها وضحكت بصوت مكتوم.
“ أكمِل، أرجوك، أنا أستمع.”
ولأنه أراد إنهاء الأمر بسرعة، اصبح يقرأها بسرعة، غير أنّ طول الرسالة أدهشه.
‘ لماذا كتبت هذا الطول كله؟‘
ومع ذلك، حين بلغ الجملة.
“ حتى لو فرّقتنا المنيّة، سأحبكِ إلى الأبد، هايدي.”
توقف بيرسي ورفع نظره إليها ببطء.
“ تبكين؟“
كانت عينا هايدي مغرورقتين.
“أوهه …”
هزّت رأسها ولم تنكر. فاقترب بيرسي وأخرج منديلًا.
“ دعيني أنظر إليكِ.”
“لا أريد …”
ركع بيرسي أمامها، وبلطف نزع يديها عن وجهها.
“ أتتهربين؟ رغم أنكِ بكيتِ أمامي مرارًا؟“
“ولكن …”
“ دعيني أراكِ.”
بكلمات دافئة، طمأنها.
وحين كشفت وجهها، ظهرت عيناها الحمراوان، فابتسم.
“ تبكين كثيرًا.”
“ لا أبكي!”
“ بلى، تفعلين.”
مسح دموعها بمنديله، ثم قال بلطف.
“ هل تعلمين؟ لقد… تغير قلبي.”
“ هاه؟“
نظرت إليه متعجبة، فضحك وقال.
“ أنا أحبك أكثر مما كنتُ أحبك حين كتبتُ هذه الرسالة.”
ثم قبّل شفتيها، فضربته بخفة.
“ كنت سأصدق شيئًا آخر…”
“ هل تكرهينني؟“
“أجل !”
ضحك بيرسي، وبعد أن هدأت هايدي، نزلا التلة سويًا.
أعادا وضع رسائل جديدة في العلبة ودفناها من جديد.
ثم قال بيرسي.
“ قال لي الدوق ذات مرة إن لكلّ شخص نصفه الآخر.”
“ أعلم. حتى السيدة هاريسون والآنسة كروز تحدثتا عن ذلك.”
“ وأنا، نصف روحي هو أنتِ.”
“ هاه؟“
التفت إليها مبتسمًا.
“ ألا يبدو واضحًا؟ لا حاجة لأن أرى، فأنا أعلم أن ذلك النصف هو أنتِ.”
أومأت هايدي مؤيدة، وأيديهما المتشابكة تمايلت بسعادة.
هكذا، استرجع الاثنان الذكريات في المدينة التي خطبا فيها، ونالا أخيرًا بركة العائلتين.
ولم يمضِ وقت طويل حتى علما بأن سينا حامل.
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 151"