“رجلٌ رأته مرة أو مرتين قبل اثني عشر عامًا، هل ستُسرّ إن علمت بأنه لا يزال يحمل مشاعر لها؟“
ترددت كلمات البارون في صدره كطعنة.
في تلك اللحظة، طُرق الباب، ودخل جاستن. بدا قلقًا، وكأنه عَلِم بما جرى بين فابيان والبارون.
“سموّك، لم يصل بعد أي جديد بشأن الكونتيسة–”
“يكفي.”
قاطع فابيان كلماته. اتسعت عينا جاستن.
“المعذرة؟“
“توقف عن تقديم نفس التقرير كل يوم.”
فجأةً، رأى المشهد من منظور آخر… كيف يُمكن لشخص لا يعرفه سوى من لقاءٍ واحد قبل اثني عشر عامًا، أن يستمر بالسؤال عنه؟ كم يبدو ذلك غريبًا ومقلقًا…
كأنّه سُكب عليه ماء بارد. استيقظ على صدمة الحقيقة.
لذا، قرر. لن يطلب أية أخبار عنها مجددًا.
سيكتفي فقط بمساعدتها سرًّا عبر الدعم المالي لعائلتها.
واعتبر مشاعره لها، التي ظنّها يومًا قدرًا، جزءًا من ماضٍ دفنه إلى الأبد.
***
لكن جاستن عاد لاحقًا بخبرٍ لم يكن فابيان يريده.
ولم تكن الإجابة ‘لا توجد أخبار‘ هذه المرة.
“الكونتيسة، سينا، توفيت.”
“……”
خيّم الصمت على مكتب العمل. انخفض رأس فابيان ببطء. ألقى بنظره على الأوراق، وجاستن واقفٌ حائر لا يعرف كيف يواسيه.
وأخيرًا، تكلّم فابيان.
“…هكذا إذًا.”
قالها بصوتٍ متهدج كمن اختنق بكلماته.
أراد جاستن أن يواسيه، لكن فابيان سبقه بطردٍ صريح.
“غادر.”
“…أمرك.”
غادر جاستن المكتب في صمت، بينما بقي فابيان وحده… غارقًا في تنهيدة طويلة، محمومة، متعبة.
كان يريد أن يبدو متماسكًا، لكنه فشل.
هل كان مرضها بتلك الخطورة…؟ رغم أن مرضها الطويل كان مقلقًا، إلا أنه لم يخطر بباله قط أنها سترحل عن هذا العالم.
لقد مرّت أربع سنوات منذ أصابها ذلك الداء اللعين. يا ترى، كم عانت وهي تقضي نصف عشريناتها في الألم؟
كان يرجو من أعماقه أن تتعافى تمامًا، لتبتسم بسعادة من جديد…
لكن شعورًا مريرًا بالفقد اجتاحه بقوة.
***
مرت سنةٌ كاملة على وفاة سينا. ومع رحيلها، لم يتغير شيء في هذا العالم.
لم تكن لها علاقات واسعة، ولم يهتزّ مجتمع النخبة لغيابها.
لكن… في قصر دوق غرينت، اندلعت عاصفة.
والسبب. الدوقة ديزي.
ذات ليلة، زارها بيرسي، زوجها، فجأة في غرفتها. كان غريبًا، لم تطأ قدماه هناك منذ ولادة ريموس.
ديزي كانت ثمله. عائدة من إحدى المناسبات، وقد شربت أكثر مما تحتمل. أتى بيرسي إثر قلق الخدم من حالتها.
وهناك، ثملت ديزي حتى فاض لسانها بالحقيقة.
“أليست هي الوحيدة التي ترغب في زيارتها ليلًا؟“
قالتها وكأنها تهمس بهذيان، ما جعل بيرسي يقطب جبينه.
“هي؟“
“نعم، كوفنتري… هل بدأت أخيرًا تشعر بشيء ناحيتي؟“
في الحفل، كانت السيدات يتفاخرن بأزواجهن، فاختلقت ديزي هي الأخرى أكاذيب. لكن الغيرة أكلت قلبها.
كانت تظن أنها لا تطمع في الحب، لكنها على ما يبدو، في أعماقها، كانت تغار من امرأة زوجها السابقة.
وربما لهذا السبب، قالت ما لم تكن لتجرؤ على قوله وهي في وعيها.
“كوفنتري المستلقية فوق السرير… بدت جميلة جدًا، وكأنها دمية هادئة.”
ابتسمت وهي تسترجع حريق قصر عائلة باركر.
فجأة، تبدّل وجه بيرسي.
“تتحدثين وكأنكِ رأيتِها.”
“بالطبع رأيتُها. كنتُ هناك. أشعلتُ النار بنفسي.”
“ماذا؟!”
“رأيتُها بعيني وهي مستلقية هناك… أنا من أشعل الحريق.”
في سُكرها، لم تعد تخشى شيئًا. قالت كل شيء.
“أردتك بشدة. أردتُ أن أصل إلى تلك المكانة… أن أكون دوقة.”
“لكنك كنتَ تبحث عنها دائمًا… هل أحببت تلك الطفلة الساذجة هكذا؟“
تراكم الألم سنينًا، فانفجر كبركان.
“هل ستظل تحب امرأةً ماتت منذ زمن؟ هل سيُعيدها حبّك للحياة؟!”
“كفى.”
“وأنت تعلم أنها لن تعود!”
“اصمتي!”
صرخ بيرسي، وقد تجمّدت نظراته بين الذهول والغضب.
همست هي، وقد أُنهكت.
“إذا كنتَ لا تستطيع نسيانها… فلا تُظهِر ذلك أمامي، على الأقل…”
كانت مرتاحة بعد هذا الانفجار، لكنها لم تكن تعلم أن الثمن سيكون باهظًا.
في صباح اليوم التالي، قدّم لها بيرسي وثيقة الطلاق. لم يُرد حتى أن يراها. أرسل الأوراق عبر الخادم.
“هذا كذب!”
صرخت باكية بعد أن أفاقت من سُكرها، لكن بيرسي لم يتراجع.
انتقلت حضانة ريموس إليه.
ولم يتوقف عند هذا الحد.
حوّل سخطه نحو عائلة ديزي نفسها. ومع مرور وقتٍ قصير، انهارت أسرة الكونت مور بالكامل.
كما صعدوا سريعًا بسبب مصاهرتهم للدوق، سقطوا أسرع بسبب طلاقهم منه.
نقل فابيان الخبر من كلوي، وذلك أثناء مأدبة عشاءٍ لم يكن له أن يرفض دعوة الملك والملكة إليها مرارًا.
“كيف تجرأت على ارتكاب أمر كهذا ثم دخلت إلى عائلتنا بكل وقاحة…!”
تفجرت كلوي بالغضب مجددًا، وكأنها كلما تذكرت اشتد احتقانها.
“كلوي… لقد مر وقت طويل منذ أن رأيتِ الدوق، لمَ لا نكفّ عن الحديث الكئيب؟“
هاري، الذي اعتاد التحدث بحرية في اللقاءات الخاصة، حاول تهدئتها، ولكن دون جدوى.
“حتى أنت لورد هاريسون، يجب أن تعرف الحقيقة!”
أن تكون ديزي قد ارتكبت شيئًا شنيعًا إلى هذا الحد…
كان من الطبيعي أن يعتاد فابيان على مثل هذه الأحاديث عن الآخرين، غير أن كون الطرف ديزي جعله يغوص في تأملٍ عميق.
كان متيقنًا الآن. ذلك المعروف الذي لقيه منها في لقائهما الأول في أراضي الماركيز لم يكن صادرًا عنها. وقد أدرك ذلك بعد أن لم يسمع شيئًا من سينا.
مرة أخرى، كانت سينا تهيمن على تفكيره.
عندما أنهى فابيان طعامه ونهض عن مقعده، حاولت كلوي وهاري الإمساك به، ففرصة رؤيته لم تكن متاحة بسهولة.
“لورد هاريسون، ما إن وصلت حتى هممت بالرحيل؟“
“نعم، ألم يكن من الأفضل أن تبقى قليلًا؟ لم أُكمل حديثي بعد!”
فأجاب فابيان بهدوء.
“أعتذر منكما، أرجو أن تحظيا بوقت مريح معًا.”
***
كانت عربة دوقية هاريسون تتجه نحو قصره. غير أن فابيان غيّر وجهته بعد لحظات.
“دعنا نذهب إلى هناك.”
“أمر سموك.”
لم يحتج السائق إلى السؤال عن المقصود، فقد اعتاد على تلك الوجهة مرارًا.
كانت وجهتهم مقبرةً تقبع فيها سينا. كان فابيان يزورها أحيانًا، يظهر فجأة أمام قبرها بصمت.
هي لن تعلم بوجوده هناك، بطبيعة الحال.
كان قبرها، كعادته، باهتًا خاليًا من آثار الزيارة، على خلاف القبور الأخرى.
وضع فابيان وردة على القبر، ثم وقف بصمت.
تمنّى من أعماق قلبه أن تكون الآن في مكان لا فقر فيه ولا مرض، وأن تحقق لها السعادة على الأقل في النعيم. صلّى لأجل ذلك.
عند عودته إلى القصر، كان المكان خاليًا وباردًا. فبعد زيارة قبر سينا، كان فابيان دائمًا يعاني من فراغٍ قاتل. حتى عمله لم يعد قادرًا على التركيز فيه.
مرت سنة كاملة على وفاتها، ومنذ رحيلها، بدأ الاكتئاب يزحف إلى قلبه أحيانًا. وبسبب قلق خدمه عليه، بدأ مؤخرًا في تناول الأدوية.
ومع ذلك، لم يفلح شيء في تبديد ذلك الشعور القاتل بالفقدان.
“لماذا؟” تساءل فابيان مع نفسه. هل كانت توأم روحه؟ تلك الفتاة التي ظهرت له عند البئر ولفتت اهتمامه؟
لم يتبادلا حديثًا يكفي لبناء علاقة مميزة. ولم تكن علاقة حب بأي حال.
فلماذا إذاً…؟
لماذا يتألم إلى هذا الحد؟
وكلما زادت الأسئلة، ازداد شعوره بالكآبة. وفي النهاية، تدخل الخدم.
“حتى لو لم تتزوج، سموك ، ستنهار صحتك بهذا الشكل!”
فاستجاب لرجائهم بأن يأخذ قسطًا من الراحة. وحين توقفت عجلة العمل فجأة، وجد نفسه تائهًا. لم يشأ أن يفعل شيئًا، وفكر بأن يبقى في غرفته طوال الإجازة، حتى خطرت له فكرة.
أن يعود إلى المكان الذي التقى فيه سينا أول مرة.
فاستدعى كبير الخدم دون تردد.
“أود زيارة أراضي ماركيز نيلسون.”
***
كانت أراضي نيلسون تحمل له ذكريات محفورة. مكان نجا فيه من إصابة خطيرة، وهناك تأكد من مصير قلبه.
كل ذلك كان بفضل سينا.
هذه الزيارة لم يعلن عنها رسميًا كما في السابق. لكن هذه المرة، اصطحب معه مرافقًا وحارسًا شخصيًا فقط.
استأجر فيلا كاملة كمقر إقامة، وبدأ يجوب أنحاء الأراضي.
زار الطريق المهجور حيث رأته أول مرة، والممشى الذي اقترحت ديزي أن يسير فيه مع سينا، كل زاوية وكل منعطف.
وآخر ما زاره كان البئر السحري.
في مياهه، انعكس وجهه هو فقط. كانت سينا قد قالت إنه لا يرى المرء توأم روحه إلا في منتصف الليل حين يكون القمر بدرًا.
ولم يكن متبقًى الكثير على تلك الليلة، فقرر أن ينتظرها.
حين جاء البدر، لم يرَ فابيان شيئًا في النبع.
أدرك حينها أن قدومه إلى هذه الأرض ربما لم يكن قرارًا حكيمًا. فرغم عودته إلى العاصمة، لم تغادرها صورتها.
هل لأنه لم يرَ وجهها في البئر؟ مع أنه يعلم تمامًا أنها رحلت عن هذا العالم. لكنه لم يتوقع أن يُظهر له البئر غيابها بهذه القسوة.
إلا أن الإحباط حمل في طياته نوعًا من التحدي.
‘لكنني رأيتها من قبل، أليس كذلك؟‘
ومن تلك اللحظة، بدأ فابيان بزيارة أراضي نيلسون في كل ليلة يكتمل فيها القمر.
لكن النبع لم يظهر له سوى وجهه، مرة بعد مرة.
وحين أصبح عدد الزيارات أكثر من أن يُحصى، ظهر له شخص.
“تبدو وكأنك تبحث عن توأم روحك، أليس كذلك؟“
قالت فتاة بشعرٍ أحمر وعيون ذهبية. أول شخص يلتقيه هنا.
أومأ فابيان برأسه.
“أجل، هذا صحيح.”
“لكننا في ليلة بدر، ويبدو أنك لا تراها.”
ابتسمت بخفة.
كيف لها أن تعرف عن سر البدر؟ فقد قيل إن ذلك من أسرار البئر. تساءل في نفسه.
تأمل الفتاة مجددًا، كانت وحدها، وتتحدث معه بلا تردد. ما الذي جاء بها في هذا الوقت؟
“هناك أسباب تمنع ظهور شخصٍ ما في البئر السحري، حتى في ليلة بدر.”
صمتت قليلًا، ثم تابعت حديثها.
“إذا شكك المرء في البئر، أو لم يكن له توأم روح أصلاً، أو…”
توقفت لبرهة ثم قالت.
“إذا كانت توأم روحه قد فارقت الحياة. فلن يظهر له أحد.”
أيعقل أن غيابها سببه أنها لم تعد على قيد الحياة؟
حين قالت ما كان فابيان يرفض تصديقه، أجابها ببرود.
“ليس من شأنك.”
“قلت ذلك لأنك تكرّر المجيء…”
همست ضاحكة. يبدو أنها أدركت أنه كان يأتي منذ أشهر.
ثم سألته بشيء من الفضول.
“هل رأيت أحدًا هنا من قبل؟“
نظر إليها بحذر ولم يجب، لكنها ابتسمت وكأنها تعرف كل شيء.
“كانت شخصًا تحبه، أليس كذلك؟“
“……”
“ما دمت لا تستطيع نسيانها، فلا بد أنها كانت حبيبتك.”
ابتسمت ابتسامة حزينة.
هل كان حبًا؟ تساءل فابيان.
هل التفكير المستمر بشخص ما هو حب؟ لم يسأله أحد من قبل إن كان يحبها. فقط إن كانت في باله.
لم يكن يهتم بتلك الفروقات، لكنه الآن… الآن عليه أن يواجه الأمر بجدية.
لم يستطع التوقف عن التفكير بها. قلبه ينبض، وداخله خواء مؤلم.
هل أحببتها؟ شعر وكأن صدمة اجتاحت كيانه.
لطالما ظن أن ما يشعر به مجرد اهتمام. أن يتحول هذا إلى حب…!
فمتى، يا ترى، بدأ ذلك؟
استعاد صورتها حين التقى بها أول مرة، وهي تبتسم له بخجل.
ثم… توقف فجأة.
لم يعد يتذكر صوت سينا.
كان يظن أنه حفظ كل شيء عنها، لكن السنوات الطويلة أضاعت حتى صوتها.
تأمل صورته في البئر، ولم تظهر سينا مجددًا.
النسيان سيأخذها منه في نهاية المطاف.
وقد أدرك حبه أخيرًا… لكن بعد فوات الأوان.
زفر تنهيدة طويلة.
“يبدو أنك أحببتها كثيرًا.”
قالت الفتاة بصوتٍ يشبه المواساة.
مرر فابيان يده على وجهه. كان خائفًا من نسيانها، فقط لو ظهرت مجددًا، فلن ينساها.
ثم أجاب للمرة الأولى.
“رأيتها هنا… لكنني عرفت حقيقة مشاعري بعد فوات الأوان.”
كان غارقًا في الندم. والفتاة أصغت إليه بوجهٍ جاد.
“آه… رغم أنك كنت تعلم أنها توأم روحك.”
“لم أكن أعلم… أن ذلك هو الحب.”
أصبح صوته أسرع. لم يعرف ما يفعل بتلك المشاعر، فتحدث إلى فتاة غريبة. لم يكن من عادته فعل ذلك.
“لو أنني فقط اقتربت منها أكثر، ربما لم تكن لتموت. لقد كانت… تعيش حياة حزينة. وكنت أنا… أراقب فقط…”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 147"