استمتعوا
وصلت دفعة جديدة من النقود إلى ما يُفترض أنه قصر، لكنه لم يعد كذلك.
كانت سينا طريحة الفراش، ولم تكن تعلم شيئًا.
إيرل بايج كان أول من يتحقق من تلك الأموال، فقد قلّ عدد الخدم منذ الانتقال، وأصبح هو من يتولى ذلك.
ومنذ سنة، بدأت تأتي أموال من جهة مجهولة. من عساه يكون؟ ليس والدها، فهو يرسل المال بالفعل.
عدا عن أن هذا المبلغ أكبر بكثير من قدرة عائلة نيلسون.
وبمرور الوقت، تضاعف المبلغ المرسل.
ابتسم إيرل بايج ابتسامة جشعة وهو يعدّ الأوراق.
“كم هذا …!”
واحد، اثنان، ثلاثة… بلّل أصابعه بلعابه ليقلّب الأوراق.
ثم سمع صوتًا واهنًا خلفه.
“ أأنت هنا… ؟“
“ هم؟“
إنها سينا. ارتبك بايج، وسرعان ما أخفى الصندوق خلف جسده.
“ لا شيء. لا تقلقي.”
“ لم لم تخبرني أنك عدت… ؟“
بدا على وجهها الحزن، لكنّه لم يُعرها اهتمامًا.
فهي امرأة لا تنجب. وقد خانها مرارًا. ومريضٌة الآن. باختصار، عبء.
يبقيها معه لأن عائلتها ترسل له المال فقط.
لم تكن تدري ما يفكر به زوجها، فقالت.
“ أتيتَ مبكرًا اليوم… عشاء… كح! كح! نتعشى سويًّا؟“
قاطعها سعال حاد، فعبس وجهه بقرف.
لعلّها تنقل له العدوى!
أخبار مرضها انتشرت في البلاط، حتى هو صدّقها.
فقال ببرود.
“ لدي موعدٌ بالخارج. تناولي الطعام وحدك.”
لم تكن تلك المرة الأولى. فأومأت برأسها بخفوت.
“حسنًا …”
“ نانسي! خذي السيدة!”
صرخ، فجاءت نانسي وأخذتها برفق.
ثم استغل غيابهما ليُخفي المال في مكانٍ لا يعرفه سواه، وحمل بعضه.
كان ينوي الذهاب إلى الكازينو. قلبه يرقص طربًا طمعًا بمكسبٍ وفير.
لكنّه التقى بشخصٍ غير متوقع عند خروجه.
كانت هناك، برفقة خادمةٍ وحارس، دوقة غرينت، صديقة سينا، والتي اعتادت زيارتهم بلا سابق إنذار.
“ دوقة غرينت؟“
“ آه، لورد بايج. إلى أين أنت ذاهب في مثل هذا الوقت؟“
سألته مبتسمة، فأجاب بارتباك.
“ لدي أمر عاجل.”
“ فهمت. أنت مشغول على الدوام.”
تسلّل نظره ليتفحّصها خلسة، من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها. كانت متأنقة، مما زاد من بؤس سينا في عينيه.
ما زالت جميلة كما كانت.
احتفظت بجمالها منذ أن كان عمرها ثمانية عشر عامًا.
كانت خطيبته السابقة.
‘ كان ينبغي أن أتزوج بها.’ لم يكفّ عن الشعور بالندم. تمتم وهو يفترق عنها.
ثم دخلت ديزي، مبتسمة، إلى المنزل.
“ سينا، لقد أتيت!”
“ديزي …!”
تهلّل وجه سينا. كانت حزينة بعد مغادرة زوجها، فجاءت زيارة صديقتها لتزيح كآبتها.
أما ديزي، فنظرت إليها وفكّرت.
‘ كم تبدين بائسة.’
ألَا تخجل من نفسها حين تراني؟
لم تلبس فستانًا هادئًا كما يليق بزيارة مريضة، بل ارتدت فستانًا صاخبًا، وزيّنت نفسها بأغلى المجوهرات.
لتُشعرها بالدونية. كانت متعة ديزي في زيارتها، أن تُرِيها الفرق بينهما.
حتى لو لم تملك سينا طاقة للملاحظة.
“ كيف حالك؟“
“ كح! حسنًا… لستُ بأسوأ حال… أنام كثيرًا… كح! كح!”
‘ تدّعي أنها بخير؟‘ ابتلعت ديزي سخريتها.
كم كانت سينا سيئة الحظ. خسرت عائلتها، ثم أُصيبت بمرض خبيث.
صحيح أن ديزي كانت السبب في إفلاس بايج، لكنها لم تتسبّب بمرض سينا. حتى الدوقة لا تقدر على ذلك.
كانت مجرّد امرأة سيئة الحظ.
وكانت ديزي تستمتع بمراقبة انهيارها.
“ كح! كح! كنت أفكّر… هل تتعشين معي؟“
“ لا. تناولت طعامي بالفعل.”
أن تأكل هنا؟ بين العفن والمرض؟ كان مجرد النظر إلى الطعام يثير اشمئزازها.
ابتسمت وأخذت صندوق كعكٍ من خادمتها.
عرضت كعكة الكريمة وقالت.
“ قال لي أن آتي بها إليك. طاهينا أعدّها خصيصًا لك.”
“ الدوق؟“
“ بالطبع. ما زال يحبني كما كنا في بداية زواجنا.”
كذبت. صحيح أن بيرسي كان زوجًا جيدًا، لكنّه لم يقترب منها حقًّا، رغم إنجابهما طفلًا.
‘ أترى… ؟ لم ينسَ تلك المرأة بعد؟‘
حبه القديم التي ماتت منذ زمن. ما زال قلبه متعلقًا بها.
‘ سخيف! أيّ حب؟‘
كانت يومًا تطمع بقلبه، أما الآن، فلم تعد تبالي.
يكفيها أن يبدوا أمام الناس زوجين سعيدين.
فحب الزوج لا يهمّ… ما دامت دوقة لا يُشقّ لها غبار.
أمام سينا، رسمت ديزي ابتسامةً توحي بالسعادة.
“ يسعدني أنكِ تبدين بخير…”
لأن سينا كانت تحدّق فيها بعينين مليئتين بالحسد. فهي التي تحطمت علاقتها بزوجها منذ زمن، فلا عجب أن تُحسد ديزي.
أحيانًا كانت تتساءل…
في خريف عامها الثامن عشر، ماذا لو أنها أوصلت رسالة لوغان إلى سينا؟ ما الذي كان سيحدث حينها؟
في تلك الرسالة، عبّر لوغان عن رغبته في لقاء سينا.
ذلك الدوق الذي يشتهر بانعزاله عن الناس… هل كان يرغب فعلاً في رد الجميل إلى هذا الحد؟
ديزي لم تصدّق ذلك قط. كانت متيقنة من أن لوغان قد حمل مشاعر ما تجاه سينا.
لم يتبادلا الكثير من الحديث داخل قصر، ومع ذلك، لا تدري متى تسللت تلك المشاعر إلى قلبه.
وسينا، التي رفضت عرضه مرتين، لا بدّ أنها خرجت من دائرة اهتمامه.
حتى ذلك كان يبعث البهجة في نفس ديزي. ارتسمت ابتسامة على وجهها من تلقاء نفسها.
مدّت شوكة إلى يد سينا.
“ تذوقي هذا. هل تعلمين كم هو لذيذ؟“
جلبت نانسي شايًا رخيصًا من مكانٍ ما.
“ شيء كهذا يفسد الذوق فقط.”
همست ديزي وهي تكتفي بشم رائحته، ثم أعادته بهدوء إلى الطاولة.
سينا، التي نادرًا ما تبتسم، بدت وقد ذابت من طعم الكعكة.
“لذيذ …”
“ أليس كذلك؟ عليكِ أن تزوريني في القصر أحيانًا. لا داعي للتردد بيننا، أليس كذلك؟“
قالت ديزي بلطفٍ ظاهر، رغم علمها جيدًا بأن صحة سينا لا تسمح لها بالخروج من المنزل.
سينا ابتسمت ابتسامة باهتة.
“ لاحقًا… لاحقًا، سأزوركِ بالتأكيد…”
لكن فكّها ما لبث أن توقّف فجأة وهي تبتلع قطعة الكعك.
ديزي رمقتها بهدوء. بدأ فك سينا يرتجف برقة.
على ما يبدو، اجتاحها حزنٌ مفاجئ على حالها. وانهمرت الدموع في عينيها.
“ أنا ممتنة لكِ… أنت الوحيدة التي تهتم لأمري… كح كح! وحدكِ فقط… الجميع يتجنبونني وكأنني موبوءة… كح كح!”
هزّت ديزي رأسها بإشفاقٍ متصنّع.
“ أتعنين تلك الشائعة التي انتشرت مؤخرًا؟ لا تقولي هذا، سينا. وباء؟ هراء لا يُصدّق. أنا أعلم أنه ليس كذلك.”
‘ وأنا من نشرت تلك الشائعة أصلاً…’ كظمت ديزي ضحكتها بصعوبة.
متى أصبحت تكره سينا إلى هذا الحد؟ لقد بدأت الأمر من غيرةٍ صغيرة فقط…
ربما تحوّل إلى عادةٍ لا أكثر.
حين غادرت ديزي، خرجت سينا بنفسها لتوديعها.
“ شكرًا لقدومكِ ديزي… وشكرًا على الكعكة اللذيذة…”
قدّمت لها علبة صغيرة.
“ إنه الشاي الذي قدّمته. رائحته رائعة.”
“ أوه… لم يكن عليكِ… شكرًا لكِ يا سينا.”
قالت ديزي كلمات الشكر وكأنها ممتنّة بصدق.
لكنها، أثناء عودتها إلى العربة، رمت العلبة في كومة نفايات دون تردد.
***
“ كيف حال الكونتيسة؟“
في مكتب دوق هاريسون، وجّه فابيان سؤاله، فأجاب جاستن بوجهٍ متردد.
“ في الحقيقة… لا يوجد أي خبر من الخارج…”
لم تكن سينا تخرج من منزلها على الإطلاق. ومنذ أن انتشرت شائعة إصابتها بالوباء، اختفت أخبارها من مجتمع النخبة تمامًا.
‘ لو أنني ذهبت لزيارتها ولو للاطمئنان…’
فكر فابيان بذلك بعدما أعاد جاستن.
لكن لم يكن هناك أي صلة بينه وبينها. لا مع زوجها الكونت، ولا معها شخصيًّا.
كيف له أن يذهب لزيارتها؟ حتى سينا نفسها ستتفاجأ.
لقد انقطعت الصلة منذ زمن. لم يعُد بوسعه الاقتراب منها بعد الآن.
***
رغم تلقيه نفس الإجابة كل مرة، لم يتوقف فابيان عن السؤال.
“ كيف حال الكونتيسة؟“
“ هل هناك أي أخبار عن السيدة سينا؟“
“ هل وصل شيء اليوم؟“
لكن الجواب ظل كما هو دائمًا.
“ لا توجد أخبار جديدة.”
حتى جاءه أحد خدمه، البارون ستيوارد، برسالة واضحة.
“ لا يمكن تأجيل الأمر أكثر من ذلك.”
لم يكن من الضروري أن يسأل عن المقصود. فالبارون هو من كان يُلحّ أكثر من غيره على زواجه.
“ هل تدرك كم بلغت من العمر، سموّك؟“
“…”
ستة وثلاثون عامًا.
بفضله، تذكّر فابيان عمره فجأة. مرّت كل تلك السنوات؟ عندما التقى بها لأول مرة، كان في الرابعة والعشرين… وها قد انقضت اثنتا عشرة سنة منذ ذلك الحين.
شعر أن المسافة الزمنية لا تُحتمل، وتذكّر وجهها الخجول في تلك الأيام…
لكن البارون قطع عليه شروده.
“ لا يصحّ التأجيل أكثر من ذلك. هذا العام تحديدًا، يجب أن تُنجِب وريثًا قبل فوات الأوان!”
لقد جاء البارون بعزمٍ لا يتزعزع.
فالزواج بالنسبة لفابيان ليس أمرًا عسيرًا إن أراد. ليس فقط البارون، بل جميع خدمه يشاركون الرأي ذاته.
رغم تجاوزه السنّ المثالي، لا يزال فابيان يبدو شابًا يفوق عمره بكثير. ولم يكن هذا رأي أتباعه فقط، بل حتى كلوي كانت تتعجب من ذلك باستمرار.
ثم إن مكانته كدوق تكفي. لو حضر أي حفلة راقصة، ستصطف النساء منتظرات دورهن للرقص معه.
لو فقط غيّر رأيه، لأمكن ترتيب كل شيء. لكنّ عناده كان مدمّرًا.
ردّ فابيان ببرود.
“ كفى حديثًا عن الزواج. لست مهتمًا.”
“ حتى لو لم ترغب، لم يعُد من الممكن التأجيل أكثر. كل الخدم ينتظرون هذا اليوم!”
“ ليست هذه اللحظة المناسبة لهذا الكلام.”
كيف يُفكّر بالزواج وهو عاجزٌ عن النوم من القلق على مريضةٍ تحتضر؟ قطّب حاجبيه. وكاد أن يقترح تبنّي وريثٍ بدلًا من الزواج، لكن…
سبق البارون وقال.
“ سمعت من البارون هانكس أن سموّك تُكنّ مشاعر لامرأة ما.”
بدو أن البارون استنطق جاستن ليصل إلى هذه المعلومة، فاستمر في الحديث بوجهٍ متجهم.
“ أن تُعجب بامرأة متزوجة… سموّك تدرك أن هذا أمرٌ محرَّم.”
الرغبة في امرأة متزوجة… جرمٌ يعاقب عليه القانون. ولم يكن بوسعه أن يُنكر ذلك، فصمت.
“ لقد مرّ وقتٌ طويل. حان الوقت لأن تضع حدًّا لهذا.”
“ هذا لا يعنيك.”
“ ولا الكونتيسة كذلك، لن تقبل بمشاعرك. رجلٌ رأته مرة أو مرتين قبل اثني عشر عامًا، هل ستُسرّ إن علمت بأنه لا يزال يحمل مشاعر لها؟“
توهّجت نظرات فابيان بحدة، لكن البارون لم يتراجع.
“ حتى لو علمت بمشاعرك، فلن تتقبلها.”
“…”
كان يعلم ذلك. كانت ستهرب منه، كانت سترفضه.
لكن حتى مع نظراته الحادة، لم يستطع الرد.
تنهد البارون بعمق.
“ أعلم… لقد حملتها في قلبك اثني عشر عامًا. لا بدّ أن نسيانها صعب…”
ثم طلب منه أن يتخلّى عن مشاعره شيئًا فشيئًا. من أجلها، كان هذا التصرف أكثر احترامًا.
ومضى مغادرًا، تاركًا فابيان في اضطرابٍ داخلي.
‘ أن تحتفظ بها في قلبك يُعدّ إساءة… ؟‘
أغلق ملفًّا كان بيده، عاجزًا عن التركيز.
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 146"