استمتعوا
[ رغم أننا لم نلتقِ هذه المرة، إلا أنني أرغب بلقائك على انفراد لأشكرك.
إن لم يكن في الأمر حرج، فأتمنى ردك.]
كانت رسالة فابيان الأخيرة، إذ لم يكن مستعدًا لإنهاء الأمور هكذا.
فقد مكث أيامًا في قصر الماركيز، ورأى وجهها مرارًا. لم يشأ أن يضيع تلك الصلة.
وبما أنها المرة الثانية التي يتواصل فيها، فقد يحالفه الحظ هذه المرة.
لكن مرت الأيام، ولم يأتِ رد من سينا.
***
كانت المناسبة نادرة. لم يكن فابيان يشارك في الفعاليات الاجتماعية كثيرًا، لكنه قرر الحضور هذه المرة.
فقد كان زفافًا لصديق عمره، دوق غرينت.
أما بيرسي، فكان سيتزوج ديزي. لقد جرت المفاوضات بين العائلتين دون أن يعلم.
ربما كان لقاءه بها في قصر هاريسون هو السبب، إذ بدا أن والد بيرسي أعجب بها كثيرًا. أما بيرسي نفسه، فكان وجهه غير مبتهج على الإطلاق.
راقب فابيان ملامحه، وكان يعلم السبب.
فمنذ وفاة آنسة كوفنتري في حريق منزل الإيرل باركر، لم يعد كما كان. لقد أحبها حقًا.
كان أمرًا مؤسفًا. لم يكن وحده من بدا عليه الانزعاج.
حتى كلوي، كانت تبتسم بتكلف. وحدهما دوق غرينت وزوجته كانا مسرورَين.
اقترب الدوق من فابيان وقال.
“ لِمَ تقف هنا وحدك؟ أتيت لتُبارك لنا، أليس كذلك؟“
“ بالتأكيد. زفافك ليس حدثًا عاديًا.”
“ إذًا، لا تختبئ، وشاركنا.”
وجره إلى الأمام. وهناك، سمع صوتًا مألوفًا.
“ سينا، سأرميها، فكوني مستعدة!”
“ حسنًا! لا تقلقي، ديزي.”
سينا نيلسون.
هي، التي التقاها قبل عام.
حين لم تصله منها أي رسالة، قرر عدم الكتابة مجددًا. ظن أنها لا ترغب بلقائه.
لكن صورتها ظلت محفورة في ذهنه. كان قد رآها لبضعة أيام فقط في قصر الماركيز، ومع ذلك، لم تُمحَ ملامحها ولا صوتها من ذاكرته.
لِمَ يا ترى؟ أهو لأنها شريكة المصير التي دلّت عليها البئر السحري؟
لعلها حقًّا المرأة التي خُطَّ لها أن تكون قدَرَه؟
لا يزال خَدَمه يُلِحّون عليه بأمر الزواج، ويلاحقونه بإلحاح، فليس من الغريب أن تستحوذ على تفكيره.
والحقّ أن أحد أسباب حضوره اليوم كان من أجلها. فهي صديقة مقرّبة لديزي، ولا بد أنها ستأتي إلى العرس.
“آه …!”
ما إن تلقّت سينا باقة الزهور التي رمتها ديزي حتى علت الهتافات وتصاعدت التصفيقات.
كانت سينا تبتسم وسط تلك الحشود.
وعندما رفعت بصرها دون قصد، كان هو يقف في ذلك الاتجاه.
تلاقى نظرهما بعد عامٍ كامل.
حيّته سينا بإيماءة خفيفة، ويبدو أن الحرج انتابها، فلم تكن فرحتها بادية كما كانت فرحته.
سرعان ما صرفت نظرها وعادت إلى موضعها.
لم تسنح له الفرصة ليفرح حقًّا بلقائها، إذ انتقل الحفل إلى المرحلة التالية على الفور.
وبعد انتهاء الزفاف، قرر أن يقترب منها ويحادثها بعفوية.
كان يعلم أنها خجولة. فماذا عساه أن يقول لها؟ أخذ يفكر بكلمات التحية التي سيلقيها عليها بينما يشقّ طريقه بين الضيوف.
“ دوق هاريسون.”
“ سموك، هل يمكنني الحديث معك لحظة—”
“ لاحقًا.”
ردّ ببرود على من حاول الحديث معه. لم يكن أولئك هم من أراد محادثتهم في تلك اللحظة.
كانت سينا وحدها تملأ ذهنه.
المرأة التي لم تفارق تفكيره طيلة العام الماضي.
ولكن… أين ذهبت؟
اقترب من ديزي التي كانت تتلقى التهاني من الحضور. وما إن رأته حتى اتسعت عيناها.
“ سمو الدوق؟“
“ أين الآنسة سينا، ابنة ماركيز نيلسون؟“
خفض صوته حتى لا يسمعه أحد، وخفّضت ديزي صوتها بالمثل وهي تجيب.
“ لقد غادرت بالفعل. بعد أن التقطت الباقة، انتهى دورها.”
أيعقل أن تغادر بهذه السرعة، وهي الصديقة الأقرب للعروس؟
كان ذلك مفاجئًا له. لقد ظن أنها ستكون فرصته ليحادثها بارتياح. فشعر بخيبةٍ لا تُخفى.
***
كان زفاف بيرسي دليلاً كافيًا. وحده هو من ظلّ يفكر بها.
أما هي، فلم تكن تُبدي له أي اهتمام.
كيف له أن يقترب منها؟ ظلّ فابيان أيّامًا وليالٍ يفكر وحده، دون أن يبوح بشيءٍ لأي من خَدَمه.
حتى توصّل إلى فكرة.
ماذا لو تقدم لخطبتها رسميًّا عن طريق العائلة؟
هي صرّحت من قبل أنها ستخطب من يختاره لها والداها. وهذا يعني أنها لا تحب أحدًا بعد.
صحيح أنه لا يخطر لها على بال، ولكن ألم تكن تلك طريقة لرؤيتها على الأقل؟
حين أخبر مساعده جوستين بالأمر، تهلّلت أسارير الأخير.
“ أخيرًا، وجد سموك امرأة أعجبته!”
“ ليس الأمر كما تتصور.”
لكن يبدو أن كلماته لم تصل إلى جوستين أبدًا.
“ من أي عائلة هي؟ سأبدأ فورًا بترتيب إجراءات الخطبة!”
في تلك اللحظة راوده تساؤل.
ألَا يكون أنانيًّا إن تقدّم لها بينما هو يعلم أنها لا تفكر به أصلًا؟
سرعان ما تردد وأعاد كلامه.
“ انسَ ما قلته للتو، لم أقله قط.”
“ ماذا؟ كيف ذلك فجأة؟“
أصيب جوستين بخيبة أمل، لكن فابيان لم يكن قادرًا على المضيّ.
فليس من الحكمة أن يُقدِم على خطبة من لا يجمعهما حب، حتى لا يكرر خطأ والديه.
***
لكن ما لبث أن بدّل رأيه مرة أخرى.
فصورة سينا عادت تهاجمه بوضوح. بعد حفل الزفاف، لم يستطع كبح مشاعره أكثر.
استدعى جوستين مجددًا.
“ أرغب بخطبة الآنسة سينا، ابنة الماركيز نيلسون.”
“أخيرًا …!”
أخيرًا سيتزوج لوردي! ركض جوستين فرحًا خارج المكتب.
لكنّه ما لبث أن عاد بعد قليل ووجهه مكفهر.
“ يبدو أن الآنسة سينا قد خُطبت بالفعل.”
اتسعت عينا فابيان بدهشة لم يتوقعها.
“ لمن؟“
“ الإيرل بايج. كنت قد سمعت بأنه خطب مؤخرًا، ولم أعلم أنها هي.”
ليتك أخبرتني قبل قليل فقط. نظر جوستين إلى فابيان بأسى.
إلغاء الخطوبة أمر ليس بالهين.
“ فهمت… يمكنك الانصراف.”
لم يُظهر مشاعره، لكن في أعماقه ساد فراغ مرير.
‘ ترددت كثيرًا…’
وأدرك ذلك متأخرًا.
***
وصلت إليه أخبار زفاف سينا. لم تُرسل له دعوة، وهذا طبيعي، فلا صلة وثيقة بينهما.
بيرسي أخبره أنه حضر الزفاف رفقة ديزي.
لكن لماذا يشعر بالأسى رغم معرفته بزواجها؟
ظل يندم لأنه لم يُفصح عن رغبته برؤيتها حين سنحت الفرصة.
وفي إحدى محادثاته مع بيرسي، سأله.
“ هل بدت سعيدة؟“
“ عفوًا؟“
قطّب بيرسي حاجبيه، بينما بدا وجه فابيان جادًّا.
“ ألم تقل إنها تزوجت؟“
“ أجل. وقد بدت سعيدة فعلًا.”
همس فابيان كمن يخاطب نفسه.
“ بدت سعيدة…”
لكنّ البئر السحري قد دلّه عليها… رغم ذلك، أصبحت زوجة رجلٍ آخر.
تذوّق مرارة الخيبة، لكنه لم يكن يملك إلا أن يتمنى لها السعادة.
هكذا، بارك فابيان في نفسه لحظة لقائه القصير بمَن ظنّها شريكة القدر.
لكن حياة سينا لم تسرِ كما تمنى.
عائلة إيرل بايج سقطت.
وبعد زفافها، حاول فابيان جاهدًا نسيانها. حتى أنه تجاهل كل الأخبار المتعلقة بها.
ولم يكن هناك تواصل بين عائلة بايج ودوقية هاريسون، لذا تأخرت الأخبار أكثر.
“ منجم ألماس؟“
أن يستثمروا بكثافة في مشروع ألماس خارجي؟ فكرة تدعو للحسرة.
رأف بحالها. لم يرها منذ سنوات، ومع ذلك راوده شعور بأنه يريد مساعدتها.
فاستدعى جوستين وأمره.
“ أرسل لهم بعض المال دون أن تُفصح عن هويتك. واترك قيمة المبلغ لتقديرك.”
“ ماذا؟“
اتسعت عينا جوستين دهشة. لا صلة تجمع الدوق بعائلة بايج.
لمَ إذًا هذا الكرم المفاجئ؟ ثم خطرت له فكرة.
“ هل بسبب ان زوجة بايج… ؟“
كعادته، قرأه جوستين بسهولة. لكن فابيان لم يُردّ أن يبدو متعلّقًا.
فهي الآن متزوجة، فما نفع إظهار مشاعره؟
“ ليس الأمر كذلك. لا تهتم.”
“ لكنني أشك—”
“ اذهب إلى عملك.”
طرده فابيان بلطف، وقد لمعت في ذهنه فكرة. لعل غيره سيساعدها، لكنّ المساعدة الكثيرة خيرٌ من المعدومة.
عائلة نيلسون حتمًا ستساعدها، لكنها ليست عائلة ميسورة.
تمنى أن تكون هذه المساهمة مفيدة.
لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيًا.
انهارت عائلة بايج بالكامل. ولم يستطيعوا حتى المحافظة على قصرهم، فانتقلوا إلى منزل صغير.
ثم شاع خبر إصابة زوجة الإيرل بمرضٍ خطير، فجاء جوستين يخبره.
“ الكل يتحدث في البلاط. يُقال إن زوجة بايج أُصيبت بطاعون.”
الطاعون؟! لم يكن ذلك الخبر هيّنًا على فابيان، فقد ظل يتابع أخبارها سرًّا.
فنظر إلى جوستين بقلق وسأله.
“ هل تُرسل التبرعات كما ينبغي؟“
“ طبعًا، سيدي. كيف لي أن أُهمل أمرًا من حضرتك؟“
“ ارفع قيمة التبرعات.”
علّها تعينها على العلاج.
لقد أراد لها السعادة… لكن لِمَ كان ذلك عسيرًا إلى هذا الحد؟
شعر باضطرابٍ في قلبه.
***
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 145"