عندما سأل فاسيلي إيدِيل، أجابه هذا الأخير بنبرة فاترة خالية من الاهتمام:
“ليست مارسييلا، بل سييلّا.”
“سيّان.”
وبالنسبة لطفل لا يبدو أنه بلغ التاسعة من عمره بعد، فإن تعاليه وهيئته المتزنة كانا كافيين ليجعلا منه، من النظرة الأولى، ابنَ أسرةٍ نبيلة. عيونٌ مختلفة الألوان، وملابس أنيقة فاخرة.
لماذا يعيش مع مارسييلا التي تقيم في مكانٍ أشبه بمكبّ نفايات يُدعى يودِيس؟
وأيُّ أسرةٍ نبيلة قد تسلّم طفلها لفتاةٍ كهذه؟
“سأسألك مجددًا، أيها الصغير. من أنت؟”
“شريك سكن… وخطيبها المستقبلي.”
قالها إيدِيل رافعًا ذقنه بثقة.
ضحك فاسيلي بسخرية خافتة. زواج؟ في النهاية هو مجرد طفل. ومع إظهار واضح للضجر، أمسك بذراع إيدِيل وهو يحاول تجاوزه.
“فقدتَ والديك مثلًا؟ أو شيء من هذا القبيل؟”
ربما يكون وريثًا ثمينًا لعائلة معروفة. لا شك أن تلك الفتاة الوقحة تحتفظ به طمعًا في تعويضٍ ما.
عند كلمات فاسيلي الممزوجة بالسخرية، انقبضت ملامح إيدِيل قليلًا.
“عزيزي، الطفل الذي أحضرناه كان ساحرًا أسود… أحببناه كأنه ابننا الحقيقي، فماذا نفعل الآن؟”
“لا بد أن هناك طريقة.”
ارتسمت بوضوح في ذهنه وجوه دوق ودوقة سينكلير، أولئك الذين تبنّوه في طفولته ثم تخلّوا عنه، مزيجٌ من الخوف والاشمئزاز.
ليته ظلّ طفلًا فاقدًا للذاكرة.
“سآخذك إلى مكانٍ تصله الشمس.”
بشكلٍ ساخر، كانت كلمات سييلّا اللطيفة هي ما أيقظ ذكرياته الوحيدة.
إن كُشف أمره، فستقع سييلّا في مأزق… وكذلك هو. لذلك تمالك إيدِل نفسه وقال بهدوء:
“لا داعي لأن تقلق. سأتدبّر الأمر بنفسي.”
“أنت؟ مجرد طفل؟ اسمع جيدًا، مارسييلا ليست فتاةً ساذجة عادية. بوجهها البريء قد تخطط لأسوأ الأمور خلف ظهرك.”
وعلى نحوٍ غريب، ما إن سمع إهانته لسييلّا حتى اندلع الغضب من أعماق إيديل ِ. قبض على يده حتى ابيضّت مفاصله.
كان يودّ لو يقتل ذلك الفتى الذي يضايق سييلّا، أو على الأقل يعطّله إلى الأبد.
“إيدِيل، لا تدع أحدًا يكتشف سرّك أبدًا.”
استحضر وصية سييلّا وكبح غضبه. وفي تلك اللحظة، أمسك فاسيلي بمعصمه حين حاول تجاهله والمضيّ قدمًا.
“إذا كانت الأم كاذبة، فابنتها مثلها تمامًا. الدم القذر لا يتغيّر.”
خيّم ظلٌّ قاتم على وجه إيدِيل.
“هل تريد أن تموت؟”
كان سؤالًا منخفضًا، لكن اليقين الكامن فيه مرعبًا.
أمام الضغط والنية القاتلة التي لا تليق بطفل، تراجع فاسيلي خطوة، ثم افتعل ضحكة ساخرة متحدّية:
“طفل مثلك؟ يا للهول، كدت أموت رعبًا.”
ومع ذلك، فهو في النهاية مجرد طفل. أمسك فاسيلي بطوق ثياب إيدِيل وأضاف بلهجة خشنة:
“كما أنك عاجز عن حماية أيّ شخص، فهذه الفتاة كذلك. كائنات عديمة القيمة وعديمة الحيلة.”
نظر إيدِيل إليه بوجهٍ خالٍ من التعبير، ثم رفع زاوية فمه قليلًا وسأله:
“يبدو أنك مهتمّ بها كثيرًا؟ لو كانت حقًا تافهة، لما أعرْتها أي اهتمام.”
أُصيب فاسيلي في مقتل، فشدّ قبضته على ملابسه أكثر.
“أمثالكم يجب أن يعيشوا بصمت. لكنكم تتصرّفون بطريقة مستفزّة. لا أحد سيهتم لو متّم دون صوت.”
وفجأة، انقبضت يدٌ بقوة على خدّ فاسيلي.
“آه…!”
كان أمام عينيه قلم حبرٍ حاد، رأسه موجّه نحوه كأنه سيطعنه في أي لحظة. بدأت حدقتاه ترتجفان.
“إذًا أنت.”
ذلك الذي استأجر قاتلًا لاغتيال سييلّا.
وقد بلغت عينا إيدِيل المختلفتا اللون حدّهما الأقصى من القسوة.
“مـ… ماذا…؟”
ارتجف فاسيلي وهو يرمش بعينيه.
حتى لو كان خصمه طفلًا، فإن زلّةً واحدة في هذا الوضع قد تكلّفه بصره.
كانت نظرة إيدِيل تخترقه. وبما أنه شخص لن يكون إلا عائقًا في طريق سييلّا… هل يقتله هنا بصمت؟ راودت الفكرة إيدِيل وهو يبتسم ابتسامةً خفيفة.
وفي تلك اللحظة—
“فاسيلي! ماذا تظن نفسك فاعلًا؟”
دوّى صوت سييلّا الغاضب من الخلف.
شعر إيدِيل بحضورها، فأعاد القلم بهدوء وقال محذّرًا:
“من الأفضل لك أن تكون أكثر حذرًا من الآن فصاعدًا.”
ثم أزال تعبيره المرعب فورًا والتفت إلى سييلّا. عندها شعر فاسيلي، الذي كان يراقب، بنفورٍ غريب.
هذا… ليس طفلًا عاديًا.
وقد نجا بصعوبة من الخطر، فحدّق فاسيلي في سييلّا بامتعاض:
“أحسني إدارة الطفل الذي تصطحبينه معك، مارسييلا.!”
“تصرفٌ يليق بك، تتباهى بقوتك أمام طفلٍ ضعيف.”
نهرَتْه سييلّا وهي تنقر لسانها بضيق.
“ضعيف؟ هذا الفتى هو من هدّدني أولًا بسلاحٍ أبيض.!”
حاول فاسيلي الاعتراض، لكن كلامه لم يكن مقنعًا على الإطلاق.
“تفضل، جرّب أن تقول إن طفلًا في الثامنة هدّد حياتك. من سيصدقك أصلًا؟”
بهذا التعبير الساخر، استهزأ إيديل بفاسيلي. وبنفس القدر، ارتسمت على وجه سييلّا ملامح عدم التصديق.
“أيّ كلامٍ فارغ هذا؟ ثم إنني لم أعد مارسييلا. نادني سييلّا.”
هزّ فاسيلي رأسه وهو يبتسم ابتسامة ماكرة.
“لا حاجة لي باستخدام الاسم الذي منحته عائلة الأرواح، ولا نيّة لي أصلًا في الاستماع إلى كلامك.”
كان إيدِيل قد اقترب من سييلّا بخطواتٍ صغيرة، وأمسك يدها بإحكام، مرتديًا ملامح طفلٍ بريء وضعيف كأي طفلٍ في سنّه.
“كنتُ فقط مارًّا من هنا، لكن ذلك الأخ فجأة هدّدني. وأظن أنني أُصبت هنا.”
قالها إيدِيل متذمّرًا، وهو يُريها ظاهر يده.
“أين؟ أين؟”
قلبت سييلّا يده ذهابًا وإيابًا بذعرٍ مبالغ فيه.
“إذا دقّقتِ النظر، فهناك شيء… هنا، احمرارٌ خفيف.”
قال إيدِيل رافعًا ذقنه بإصرار. لم يكن هناك شيء يُذكر، ومع ذلك أومأت سييلّا برأسها على أيّ حال.
حدّق فاسيلي فيهما بوجهٍ مصدوم.
يا له من فتى كريه. ما حقيقته؟ يُجيد التظاهر بالبراءة أمام مارسييلا ويُخفي طبيعته الحقيقية. وعندما أدرك ذلك، ارتسمت ابتسامة ملتوية على شفتي فاسيلي.
“فاسيلي، هل كان من الضروري أن تتعرّض لطفلٍ أصلًا؟”
كانت سييلّا بدورها غاضبة حتى الثمالة.
“جرّب فقط أن تلمس إيدِيل مرةً أخرى.”
أمام تحذيرها، حاول فاسيلي أن يضحك كعادته ويتجاوز الأمر.
“وماذا تستطيعين أن تفعلي—”
ما الذي يمكنك فعله أصلًا؟ كانت فكرة راسخة في ذهنه منذ زمن، لكنه ابتلع الكلمات قبل أن تخرج.
خطوة. كان لخطواتها المتجهة نحوه ثِقلٌ واضح، وتبعها صوتها الخفيض:
“أستطيع.”
“ماذا؟”
“قلتُ: أستطيع.”
نظرتها الخضراء الهادئة، الغارقة في البرود، كانت مرعبة على نحوٍ غير مريح.
“منذ اللحظة التي توفيت فيها أمي، كيف تظن أنني نجوتُ وأنا وصمة العار وشوكة العين في هذا البيت؟”
لأنني عنيدة. ولهذا كبّلني الماركيز بلقب المنفية وطردني، كي لا أنتقم، ولا أستعيد حقي. لكن ذلك كان على افتراضٍ واحد فقط—أنني لن أستيقظ كمتعاهدة مع الأرواح.
هبّت ريحٌ دافئة حرّكت خصلات شعرها الذهبي.
هوووش.–
اتّسعت عينا فاسيلي عندما رأى ألسنة لهبٍ تندلع عند قدميها ثم تختفي.
كان الأمر لحظة خاطفة، لكن… استدعاء نار من دون أيّ طقسٍ سحري؟
“أنتِ… ما الذي فعلتِه للتو؟”
سأل فاسيلي وهو يتراجع خطوة وقد شعر بالخطر.
“عمّ تتحدث؟”
عقدت سييلّا حاجبيها بملامح من لا يعرف شيئًا. هل يُعقل أنه لا يعلم؟ عضّ فاسيلي شفته بخفة.
“مارسييلا” التافهة التي “لم تستيقظ بعد”. ذلك كان سبب تفوّقه عليها… وكان سببًا لا بدّ أن يكون.
لكنّه أدرك أن هالتها قد تغيّرت على نحوٍ غريب.
في تلك اللحظة القصيرة التي ظهرت فيها النيران، شعر منها بضغطٍ غامض ونفورٍ غير مفسّر.
وبغضّ النظر عن كون العائلة لا تعترف بها حتى الآن، تسلّل إليه شعورٌ بالأزمة—كأن منصب الوريث قد يُنتزع منه.
فالعائلة ستخضع لاختبارٍ رسمي، وسيحضر أشخاص من المركز ومن القصر الإمبراطوري. وفوق ذلك، فإن الماركيز الأكبر السابق، ايزاك بيلمور، الذي ظهر فجأة، كان يقف في صفّ مارسييلا.
من الواضح أنهم يريدون إقصاءنا لأننا لسنا نبلاء أنقياء الدم.
وبهذا القلق، ثبّت فاسيلي نظره على إيدِيل.
هل يكون ذلك الطفل شرط تفعيل قوة مارسييلا… ونقطة ضعفها أيضًا؟
ربما بسببه تتخلّى عن الاختبار، وعن منصب ربّة العائلة، وترحل.
وقد تأكّد من وجود أمرٍ مريب، فدارَتْ عيناه بخبث.
يجب أن أبدأ أولًا بكشف هوية ذلك الطفل المقزز… إيديل
التعليقات لهذا الفصل " 29"