بعد عودتنا أنا وكيا إلى بلدتنا، أحضرنا إيديل، الذي كان يلعب مع الأطفال، إلى غرفتنا.
“يا إلهي، توقعت ذلك، لكنه كان أصعب مما ظننت.”
بعد أن اغتسلت وارتديت ملابس النوم، انهرت على السرير من شدة الإرهاق. جلس إيديل، مرتديةً بيجامة الكاروهات التي صنعتها له ، وسألني:
“ألم تكوني غاضبة في الحفل؟ لم تبكي، وبدا عليكِ الهدوء أكثر مما توقعت.”
“كنتُ غاضبة. لكن التعبير عن ذلك بالصراخ أو الشتائم لن يغير شيئًا.”
ربما سيفهم، بعد أن رأى نوبات غضب فاسيلي السريعة. رفعت ساقيّ المتصلبتين نحو السقف وتابعت:
“لقد عبرت عن غضبي بطريقة مختلفة.”
قال إيديل، وهو مستلقٍ إلى جانبي، وهو ينكز خدّي بإصبعه:
“لا يليق هذا بعمركِ. تبدين كراشدةٍ عاشت طويلًا.”
وهل هذا كلام يُقال من طفل؟ يا له من مشاكس.
ربتُّ على رأس إيديل وابتسمت ابتسامةً خفيفة.
“الجميع يصبحون بالغين وهم يمرّون بمثل هذه الأمور.”
في الحقيقة، لم أرغب أن أُريه مظهري وأنا أُهان أو أُنبذ… بل أردت أن أُريه كيف يمكن للمرء أن يتجاوز ذلك بثبات، وأن أعلّمه كيف يصبح بالغًا بحق. فمثل هذه الأمور قد تحدث لإيديل يومًا ما، وبأيّ شكلٍ كان.
“أنا أعرف هذا أصلًا.”
مرّ طيفٌ من الوحدة على وجه إيديل وهو يتحدّث.
“لكن اختبار العائلة… إذا حصلتِ على المركز الأول، هل تصبحين الوريثة؟”
هززتُ رأسي نفيًا.
“هناك سحرة أرواح أعلى مرتبةً منّي، لذا فالمركز الأول صعب. يكفيني أن أُثبت أنّني ساحرة أرواح، وأن أستعيد مكانتي.”
“أريد أن أصبح زوجكِ حين تصبحين الماركيزة.”
يا له من طموحٍ هائل لطفل! والأسوأ أنّه يفكّر فعلًا بالزواج منّي… لطيف على نحوٍ مُضحك.
حتى أنا في حياتي السابقة كنت أتمنّى الزواج من مدرّب التايكواندو في الأكاديمية.
“هيا نم، قالوا إنهم سيُعلنون موضوع الاختبار في صباح الغد أثناء الإفطار.”
بمهارة، سحب إيديل ذراعي وأسند رأسه عليها واستلقى.
هل سأتمكّن فعلًا من النجاح؟
تقاطعت أفكاري المثقلة فوق السقف المعتم، ثم بدأت تتلاشى تدريجيًا.
فجأة، تذكّرت الورقة التي أخذتها من المتسوّل، فأخرجتها من جيبي.
لماذا أعطاني ورقةً فارغة؟
ثم خطر ببالي طلبه الغريب… كان قد سألني عن ليمونة.
تأكّدتُ من أنّ إيديل قد غفا، ثم ناديتُ دوسيكي وأشعلت نارًا صغيرة بحجم عود ثقاب.
سِرْخ—
ظهرت فوق الورقة حروفٌ بنّية خفيّة.
كما توقّعت، رسالة سرّية مكتوبة بعصير الليمون.
[ في الآونة الأخيرة، أُطيح بزعيم نقابة المعلومات السرّية، وظهرت قيادة جديدة استولت على النقابة. وقد كان هناك دعمٌ من قوّةٍ مجهولة الهوية.]
هل هذه… معلومات عن فيليب كيلوسيكوس أرسلها الجد جان؟
أن يصبح زعيمًا لنقابة المعلومات… أمرٌ خطير.
لكن، هل يمكن لمنفيةٍ مثلي أن تتواصل أصلًا مع نقابة العالم السفلي؟
تشابكت الأفكار في رأسي واحدةً تلو الأخرى، حتى غمرني النعاس.
❈❈❈
وبينما كنت في نومٍ خفيف، ظهر أمامي يوري سنكلير مجددًا.
كان مستلقيًا إلى جانبي، واضعًا ذراعه تحت رأسي.
“سأساعدكِ على الاستيلاء على عائلة ماركيز بيلمور.”
“ماذا؟”
ابتسم وهو يغمض عينيه بتراخٍ وقال:
“لكن بالمقابل، أمنحيني منصب زوج الماركيزة.”
“ماذاا؟”
في الحلم، لم أكن أقول سوى “ماذا؟”.
ففي موقفٍ عبثي كهذا، حيث يظهر شرير الرواية الأصلية ويطالب بمنصب الزوج، لم يخطر ببالي أي ردّ آخر.
“وكيف تنوي السيطرة على العائلة أصلًا؟”
كان هذا كلّ ما استطعت التفكير فيه.
أيام كوني قارئة، كان لديّ الكثير من الأسئلة…
مثل: “لماذا ترك البروكلي في الفصل 87؟ أشريرٌ متكبّر ويعاني انتقائية الطعام؟” أو “هل سيظهر في قصة جانبية من نوع if؟”
بصرف النظر عن شخصيّته الشريرة… هو وسيم بشكلٍ غير معقول.
“سأقضي على كل من يملك حقّ الوراثة، وأقمع المعارضين بالقوّة، ثم أبدأ باحتلال أرض الأرواح، وأشعل تمرّدًا عسكريًا يُسقط العائلة الإمبراطورية، لأستعيد حقّ الحكم…”
لكن مهما كان وسيمًا، فما الفائدة؟ إعجابي به كان حين كنتُ مجرّد قارئة لا أكثر!
ما إن سمعت خطّته الإجرامية، حتى قرصت ذراعه دون وعي.
“تبًّا لك أيها الإنسان! ألم تفق بعد؟ وما ذنب شعب الإمبراطورية؟ أتريد أن تُلعن في كتب التاريخ؟”
وكأنّ ستارًا قد أُزيح، اختفت ابتسامته دفعةً واحدة، وتحول وجهه إلى قناعٍ جامد.
“أولئك هم من بدأوا بشقائكِ. أليس هذا جزاءً عادلًا؟”
“حتى لو كان الأمر كذلك، ألا ترى أنّك متطرّف منذ البداية؟”
“من دون التطرّف، لا يتغيّر العالم. تلك هي الحقيقة.”
“وحتى إن تغيّر، فلن يدوم طويلًا.”
إجابةٌ حفرتها في ذاكرتي أيّام الدراسة في حياتي السابقة، وهي أيضًا خلاصة آلاف السنين من التاريخ.
“أنتِ… فيلسوفة؟ أم حكيمة من هذا النوع؟”
سأل يوري باشمئزازٍ واضح.
لا، لستُ حكيمة.
كلّ ما في الأمر أنّني أعيش حياتي الثانية، ورؤيتي للبشر والعالم صارت مختلفة قليلًا.
في حياتي السابقة، لم أكن شخصًا طيبًا إلى هذا الحد.
وحين مُنحت فرصةً أخرى للحياة… قرّرت أن أعيشها بشكلٍ مختلف.
“وقد سنحت لك فرصةٌ نادرة لتبدأ من جديد، فهل ستكرّر الأمر ذاته مرّةً أخرى؟ العنف لا يُهزم إلا بعنفٍ أشدّ منه.”
نظرتُ إليه بعينين يملؤهما الخيبة، وأطلقتُ زفرةً طويلة.
قد يشتمني البعض لأنني أُدافع عن شريرٍ وأقف في صفّه، لكنّ هناك أمورًا لا بدّ أن يُصلحها أحد.
يوري سبق أن لقي موتًا بائسًا، ثم عاد طفلًا فاقدًا للذاكرة، وإن تجاهله الجميع، فلن يتكرّر سوى الشقاء من جديد.
“إذًا… تدمير مصنع ذلك الرجل الذي هدّدنا في إيلانيه كان أيضًا مثالًا على أن العنف يُهدم بعنفٍ أكبر؟”
ارتسمت على وجهه ملامح إعجابٍ واضح.
“بالطبع. هو من تجاوز الخطّ أولًا.”
حتى أنا، رغم ميولي السلمية، هناك أشياء لا أستطيع تحمّلها.
“لكنّه عاد لينتقم مجددًا. هذه هي سلسلة الشرّ.”
تحدّثتُ ببطء، وبنبرةٍ واضحة.
“وأنا لستُ إنسانةً طيّبة على الدوام. بالكاد أستطيع النجاة بنفسي، ولا أحبّ أن أُقحم في مشكلاتٍ مزعجة، ولا أملك القوّة ولا المال لهزيمة خصمي فورًا. لكن إن عشتُ حياتي جيّدًا، فستأتي فرصة الانتقام من تلقاء نفسها.”
“وما هو الانتقام الذي تفكّرين به؟”
أومأتُ برأسي وابتسمتُ بعينيّ.
“أكثر ما يخشاه الناس ليس الموت، بل أن يفقدوا كلّ ما يملكون، وأن يُعزلوا دون أن يعترف بهم أحد.”
ظلّ يحدّق بي بصمت. فأمسكتُ بكلتا يديه، وتكلّمتُ بصدق.
“أتمنّى ألا تكون هذه الحياة بائسة أو وحيدة.”
ومع انخفاض صوتي، ضاقت عيناه البنفسجيتان ببطء.
لكن… هل يوري يعرف فعلًا ما رآه إيديل؟
ولِمَ هذا الشرير مستلقٍ معي في السرير أصلًا؟ هل هذا حلم؟
حين أدركتُ الواقع متأخّرة وشعرتُ بالغرابة، سألتُه بحذر:
“بالمناسبة… هل استعدتَ ذاكرتك؟”
إن كان قد استعادها وعاد رجلًا شريرًا، ألن يذهب كلّ هذا سدى؟ حتى القدّيسة، بطلة الرواية، فشلت في إصلاحه.
“ولماذا تسألين؟”
“أه… لأني كنت سأهرب؟”
اتّسعت عيناه البنفسجيتان قليلًا، ثم مدّ يده وغطّى بها عينيّ.
اليد الكبيرة التي كادت تحجب وجهي بالكامل صغرت فجأة، وعاد جسده إلى هيئة طفل.
سأل إيديل بوجهٍ حزين:
“نونا… هل ستتخلّين عني؟”
“لا؟”
ذلك التعبير الشبيه بجروٍ متروك… هذا غير عادل إطلاقًا!
“إذًا كفّ عن الهذيان، ونَم.”
قالها ببرود، ثم استدار واستلقى.
آه… كان حلمًا إذًا. يبدو أنّني كنت أهذي أثناء نومي.
“هاها… أكان حلمًا سخيفًا؟”
حتى في المرّة السابقة، ظهر لي شريرٌ وسيم في الحلم وأجبرني على النوم على ذراعه. كان شريرًا بحق.
ظللتُ أحدّق في السقف المظلم بذهول، ثم أغمضتُ عينيّ وغرقتُ في النوم من جديد.
❈❈❈
في الصباح الباكر، ولعلّ ذلك كان بفضل نفوذ الماركيز الأكبر، جاءت الخادمة على غير العادة بأدوات الغسل ومنشفة.
غرفتنا لم تكن تضمّ سوى مرحاضٍ بسيط، بلا حمّامٍ حقيقي للاستحمام.
ليتهم يبدّلون الغرفة أيضًا.
“سيُعلن موضوع الاختبار الأوّل في الساعة العاشرة. احرصي على الحضور في الوقت المحدد.”
قالت الخادمة بلهجةٍ غير ودّية وهي تُسقط المنشفة.
“أتمزحين؟”
سألتُها فورًا، لكنها حدّقت بي ببرود، ثم خرجت ناشرةً هواءً باردًا خلفها.
قالوا إن الإعلان سيكون وقت الإفطار، فمن الذي يتناول فطوره في العاشرة؟
لا بدّ أنّ الماركيز العجوز أو الإخوة غير الأشقّاء دبّروا هذا.
وأنا أربط شعري عاليًا، قلت:
“إيديل، الإفطار سيكون في الثامنة. أسرع واذهب لتغتسل.”
ظلّ ينظر إليّ وكأنّه غارقٌ في أفكاره، ثم أومأ برأسه وأخذ المنشفة.
بعد قليل، ذهبتُ إلى حمّام الخدم وعدتُ، فوجدتُ الغرفة خالية.
“ألم ينتهِ بعد؟”
جلستُ على حافة السرير أنتظر عودته.
لكن وقت الإفطار اقترب، وإيديل لم يظهر.
بدأ شعورٌ سيّئ يتسلّل إليّ، فقفزتُ من مكاني.
***
قبل ساعة.
كان إيديل في طريقه إلى حمّام الخدم ليستحمّ، فتوقّف فجأة ورفع بصره إلى السقف.
كان يتذكّر كلمات سييلا التي تمتمت بها أثناء نومها.
“أتمنّى ألا تكون هذه الحياة بائسة أو وحيدة.”
“…هل سييلا تعرفني؟”
راوده شعورٌ غريب بأنها تعلم شيئًا عن حقيقته.
إن عرفت ماضيه، حين كان شريرًا قاسيًا لا يرحم… كيف سيكون ردّ فعلها؟
“ستشمئزّ وتهرب.”
كما فعل الزوجان الدوقيان اللذان تبنّياه في صغره، ثم تخلّيا عنه في النهاية.
التعليقات لهذا الفصل " 28"