80
“…….”
كان فيليكس يحدق بصمت في الرواق الهادئ، حيث تسللت أشعة القمر الفضيّة عبر النوافذ، تلقي بظلالها الباردة على الأرضية.
رفع رأسه ببطء، تطقطق رقبته المتصلبة مع الحركة، قبل أن يرفع بصره نحو القمر المتناقص، عيناه الخاويتان كأنهما تعكسان فراغ السماء.
“مينيرفينا، إذا عدتِ بسلام… هناك شيء أود قوله لك.”
لقد فكر في ذلك مرارًا، لكنه لم يتمكن في النهاية من البوح بالكلمات الأهم.
كيف له أن يفعل ذلك؟ هو، الذي لم يكن سوى ظلٍ باهت مقارنةً بمينيرفينا، التي عادت منهكة بعد أن تصدّت لذلك الطوفان من الجراد، بينما لم يكن هو سوى وجودٍ ضئيل بجانبها.
تلاشى الضوء في عينيه تدريجيًا.
“مينيرفينا… ما الجدوى من كل هذا في النهاية؟”
كانت بيكسان تشعر بتوتر متزايد مؤخرًا.
“ما هي الكارثة القادمة بحق السماء؟”
على عكس الطاعون، لم تكن هناك أي علامات تحذيرية. لا شيء كان معلومًا. لا موعد، لا نبوءة، لا أدنى خيط يقود إلى الإجابة.
وفي خضم هذا القلق، استمر انعقاد الحفلات الراقصة يومًا بعد يوم. كان الوقت أسوأ ما يمكن لمثل هذه الأجواء.
ومما زاد الأمر تعقيدًا، أن فيليكس بدأ بمرافقتها إلى هذه الحفلات.
“مينيرفينا، هل نذهب؟”
“آه… نعم.”
عظلت بيكسان ملامحها قبل أن تدخل وحدها إلى قاعة الحفل. سرعان ما غمرتها أصوات الأحاديث المليئة بالتكلف والتظاهر.
“كونتيسة، كيف كانت أحوالك مؤخرًا؟”
“أشعر ببعض التوعك، لذا كنت أبحث عن علاج للمعدة…”
“سمعتِ عن الفنان الصاعد غايسا؟ لقد ظهر كالشهاب في سماء الفن!”
“أوه، السيدة الحكيمة!”
بمجرد أن لاحظوا وجودها، تحولت نظراتهم إلى خليط من الترقب والطمع، كلٌّ ينتظر منه نبوءة أو إشارة سماوية.
“…مرهق.”
كانت بيكسان تملك دومًا ابتسامة دبلوماسية جاهزة لمثل هذه المناسبات، لكنها وجدت نفسها، دون قصد، تتجول بينهم بوجه جامد هذه المرة.
“إكسا… هل هو غائب اليوم أيضًا؟”
شعرها بذبول خفيف داخلها.
“الوضع في راجافوت يزداد اضطرابًا، وإكسا مسؤول عن وزارة الدفاع… لا بد أنه مشغول.”
لقد تفهّمت ذلك، لكن مع ذلك، شعرت بأن زاوية شفتيها تتجه للأسفل. زفرت بهدوء ثم التفت إلى فيليكس وهمست:
“صاحب السمو، أشعر ببعض الإرهاق. سأذهب لأستريح قليلًا في الحديقة الخلفية.”
كان فيليكس، الذي بدا متوترًا بنفس القدر، ينظر إليها بقلق.
“هل تريدين أن أرافقكِ؟”
“لا داعي، سموك.”
“…حسنًا.”
تركته بيكسان واتجهت نحو الحديقة الخلفية.
ما إن عبرت الباب وأحاط بها سكون الحديقة حتى شعرت وكأنها استعادت أنفاسها من جديد.
وبلا سبب واضح، تردد في ذهنها آخر ما قاله ل٦ه إكسا حين التقيا:
“أنا ببساطة… أستمتع بوجودي معكِ. وربما أيضًا…”
ضحكت بيكسان بسخرية، هامسة لنفسها:
“ربما، بدلًا من كونه ودودًا مع الجميع بدرجة تُثير سوء الفهم، فإن آليات التفكير لديه كدوق زاهيغ تتصدر أولوياته؟”
ثم ضحكت بصوت أعلى، ضحكة ساخرة تكاد توصف بالجنون، حتى لو رآها أحد الآن، لظنها فقدت عقلها تمامًا.
عندها—
“السيدة الحكيمة؟”
خرج صوت ناعم من درب المشاة المخفي بين الأشجار.
التفت بيكسان بسرعة، لتجد أمامها الكاهنة الكبرى، إلينيوا.
“…الكاهنة الكبرى؟”
كانت تبدو مذهولة بدورها، وإن لم يكن بنفس درجة اندهاشه.ا
“لماذا… أنت هنا؟”
عند سؤاله، ابتسمت إلينيوا بمرارة.
“لقد استدعاني جلالة الإمبراطور.”
“آه.”
قطبت بيكسان حاجبيها فورًا.
“الإمبراطور يستدعي الكاهنة الكبرى متى شاء، ليفرض سلطته على المعبد؟”
يبدو أن لكلٍّ منهما معركته الخاصة.
“قتال مع الإمبراطور، صراع مع النظام… ولا يبدو أن هناك نهاية لهذا كله.”
في تلك اللحظة، تذكّر مذكرات سوفوس.
“تجربة تمهيدية.”
كل ما تمر به الآن قد يكون مجرد مقدمة، مجرد تمهيد للعبة الحقيقية التي لم تبدأ بعد.
تسربت تنهيدة من شفتيها دون وعي منه.
عندها، سألت إلينيوا بصوت هادئ:
“هل هناك ما يشغل بالك؟”
استفاقت بيكسان فجأة من شرودها.
“أعتذر. لقد كنت شاردة الذهن…”
“لا بأس. لكن يبدو أن هناك ما يثير قلقك.”
“…هل يبدو ذلك علي؟”
ابتسمت بيكسان.
كانت ابتسامة ساخرة في البداية، لكنها سرعان ما خبت، ليحل محلها وجه بلا تعبير.
“…بما أنك ذكرت ذلك، أود أن أسألك عن أمر. فقدان ذكرياتي هو ما يدفعني للسؤال، لذا أرجو ألا تعتبرني حمقاء.”
“لن أفعل. تفضلي واسألي بحرية.”
“هل يؤمن مذهبكم بالحياة الآخرة؟”
أمالت إلينوا رأسها قليلًا.
“تتكرر الحياة إلى الأبد حتى نصل إلى الاستنارة.”
“الاستنارة… تقصدين؟”
“بلغة أبسط، يُقال إنها اللحظة التي نعبر فيها الأفق. كل كائن حي محدود بحدود ولادته، لكن هذه الحدود يمكن تجاوزها عبر تحقيق مرحلة من السمو الروحي.”
“لابد أنه أمر صعب، أليس كذلك؟”
“بالطبع.”
ترددت بيكسان قبل أن تسأل:
“…لكن كيف يمكن للمرء أن يكرس نفسه للحياة، وهو يعلم أن كل شيء قد يعود إلى نقطة الصفر؟”
عندها، ارتسمت على وجه إلينوا ابتسامة هادئة.
“ههه… هل يمكن أن يكون هذا سؤالًا من شخص قد ألقى نظرة على ما وراء الأفق؟”
“آه…”
شعرت بيكسان بالحرج. صحيح، فهي في النهاية تحمل لقب الحكيمة.
“…لا زلت بعيدة عن الكمال.”
“ههه، لا بأس. لكن السيدة الحكيمة…”
رفعت إلينوا يدها، فلامس طرف إصبعها ورقة قيقب حمراء صغيرة.
“هل العمل الذي لا يؤدي إلى نتيجة، عديم المعنى؟”
“ماذا؟”
“هذه الورقة ستسقط قريبًا عندما يحل الشتاء، ولن يبقى منها شيء. فهل هذا يجعلها بلا معنى؟”
“……”
“إذا لم تكن هناك نهاية، ولا نجاح، ولا نتيجة، فهل تصبح الحياة بلا معنى؟”
خفتت ملامح وجه بيكسان فجأة، إذ تذكرت حياته السابقة.
عناء بلا جدوى، ثم موت لا معنى له.
لكن… هل كان ذلك حقًا بلا معنى؟
“…لا، لا أعتقد ذلك. وحتى إن كان كذلك، فعلينا أن نؤمن بغير ذلك.”
أنزلت إلينوا يدها وأومأت برفق.
“صحيح. ولهذا، نمضي قدمًا. لا نُعاق بالماضي، ولا نُعلق بالمستقبل، بل نعيش الحاضر فقط.”
اتسعت عينا بيكسان، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة خافتة.
“…أجل. في النهاية، ما علينا فعله لا يتغير.”
“بالضبط.”
“هاها.”
كان مجرد حديث قصير، لكنها شعرت وكأنها تخلصت من حمل ثقيل.
لقد كانت كلمات صائبة.
“سواء كان هذا مجرد تدريب تمهيدي أو اللعبة الحقيقية، فإن دوري لا يتغير.”
استجمعت بيكسان أفكارها، ثم غيرت الموضوع بارتياح.
“لا بد أن المعبد الكبير مشغول هذه الأيام، أليس كذلك؟”
أطلقت إلينوا ابتسامة متعبة.
“بالطبع. صحيح أنكم، يا السيدة الحكيمة، حللتم مشكلة الجفاف، لكن انتشار الطاعون أدى إلى سقوط الكثير من الضحايا.”
“……”
توقفت بيكسان للحظة.
كان هناك شيء ما يثير قلقها.
“لابد أن الجثث… كانت كثيرة؟”
“هذا صحيح.”
ابتسمت الكاهنة الكبرى إلينوا دون أن تدرك شيئًا.
“لكن، لولا أنكم أوقفتم الجفاف، لكان هناك العديد من الموتى جوعًا أيضًا. لذا، إنه لأمر مريح أن الوضع لم يكن أسوأ.”
“……!”
تجمد جسد بيكسان تمامًا عند سماع تلك الكلمات.
في البداية، كانت تعتقد أنه لا تعرف شيئًا عن الوحوش التي ستظهر لاحقًا.
فهي بالكاد تذكرت أن هناك مهمة في اللعبة تتعلق بها، وكان هذا بحد ذاته معجزة.
“لكن… هل حقًا لا توجد طريقة لمعرفة ذلك؟”
لم تكن الوحوش شائعة إلى هذا الحد.
وفوق ذلك، كانت هناك حدود تُعرف بـ”الناموس” داخل النظام.
مرت جميع المهام السابقة في ذهن بيكسان بسرعة، مما رسم أمامها صورة شاملة.
أولًا، انتشار العفن، مما أدى إلى موت النباتات.
ثم الجفاف، فاختفاء مصادر المياه.
ثم اجتياح الحشرات، مما أدى إلى مجاعة كبرى.
والآن، مع إضافة الطاعون…
لم يكن من الصعب تخمين أن الملايين سيموتون.
“في مثل هذا الوضع، فإن أكثر وحش يمكن أن يظهر بشكل طبيعي هو…”
“هاه!”
رفعت بيكسان صوته فجأة.
اتسعت عينا إلينوا من المفاجأة.
“السيدة الحكيمة؟”
“هذا هو! لقد فهمت الأمر!”
استدارت بيكسان بسرعة نحو إلينوا.
“شكرًا لكِ، أيتها الكاهنة الكبرى. لقد منحتني لحظة استنارة!”
“ماذا؟”
“حان الوقت لأفعل ما يجب علي فعله.”
“ما الذي تعنيه…؟”
ابتسمت بيكسان بثقة.
“أيتها الكاهنة الكبرى، أما زلتِ ترغبين في رفع مكانة معبدك؟”
كان هذا يومًا نادرًا خرج فيه الإمبراطور للتنزه في الحديقة.
ورغم أن الأطباء تبعوه من بعيد، إلا أنه كان راضيًا لمجرد قدرته على المشي، ولو مترنحًا.
كان بجواره الدوق شولتز، المشرف على شؤون القصر.
نظر الدوق إلى الأشجار ذات الأوراق الحمراء في الحديقة وابتلع ريقه.
اليوم، بدا مزاج الإمبراطور جيدًا على غير العادة. ربما يكون اليوم هو الفرصة المناسبة…
“جلالتك.”
ناداه بحذر، فابتسم الإمبراطور قليلًا ورد عليه.
“نعم، دوق شولتز… ما الأمر؟”
أخذ الدوق نفسًا عميقًا قبل أن يقول:
“الوضع في البلاد مضطرب داخليًا وخارجيًا، والقلق بدأ يتفشى بين الناس.”
─── ・ 。゚✧: *. ꕥ .* :✧゚. ───
التعليقات لهذا الفصل " 80"