66.
ما إن عادت بيكسان إلى العاصمة حتى تخلّت عن زيّها النسائي وتوجّهت إلى المعبد الكبير.
“من الأفضل أن أذهب معكِ.”
قال إكسارش ذلك، وركب العربة معها.
كانت بيكسان تودّ سؤاله عن أمر ما على أي حال.
“لديكِ صلة بالمعبد، أليس كذلك؟”
“إلى حدٍّ ما.”
“كيف هو رئيس الكهنة الحالي؟”
جلس إكسارش مستقيمًا بابتسامة خفيفة.
“إنه شخص جيّد يهتم بالشعب.”
لم يكن هناك أي تفسير إضافي، مجرد تقييم مقتضب: “شخص جيد”.
‘لكن بما أنّ إكسارش قال ذلك، فمن السهل تصديقه.’
كان هناك شيء مميز في إكسارش. الإحساس بأن التملّق السطحي لن يجدي معه، بل إن الأشرار قد يتجنبونه تلقائيًا.
‘لكن كون المرء شخصًا جيدًا لا يتعارض مع سعيه وراء المكاسب.’
العلاقة بين البلاط الإمبراطوري ومعبد أوركينا الحالي واضحة تمامًا؛ السلطة الإمبراطورية في الأعلى، والسلطة الدينية في الأسفل.
لم يكن الحال كذلك دائمًا، لكن مع بدء الحكم الإمبراطوري المطلق خلال “عصر الابتهاج”، أصبحت السلطة الدينية خاضعة للإمبراطور بشكل متزايد.
لم تكن بيكسان بحاجة إلى الاهتمام بمكانة المعبد، لكن…
‘لقد جلبت الكوارث الماضية السمّ والمجاعة.’
وإذا ما انتشر الطاعون لاحقًا، فلن يكون ذلك مستبعدًا.
سيكون الاعتماد على دعم المعبد أسهل من مواجهة كل شيء بمفردها.
‘لهذا السبب، ليس سيئًا أن أقدم ساق جرادة عملاقة كهدية للتودد إليهم.’
عند وصول العربة إلى المعبد الكبير، كان المبنى الأبيض الشاهق يبدو وكأنه يحاول بلوغ السماء الواقعة خلف الأفق.
أمام بوابة المعبد، وقف شخص ذو مكانة رفيعة في انتظارهما.
“صاحب السمو دوق زاهيغ.”
ما إن نزل إكسارش من العربة حتى ابتسم الرجل بحرارة.
“تلقينا إشعارًا مسبقًا. سمعت أنك ترغب في لقاء رئيس الكهنة.”
“شكرًا لك.”
“وهذه السيدة هي…؟”
نظر الكاهن إلى بيكسان، التي كانت ترتدي رداءً يغطّي وجهها، بنظرة ذات مغزى.
“إذاً، أنتِ الحكيمة المذكورة في الشائعات.”
“…تشرفتُ بلقائك.”
كان من المحرج أن تصف نفسها بـ “الحكيمة” كما ورد في الشائعات.
لكن الكاهن اكتفى بالابتسام بلطف، رغم إدراكه أنها تجنبت تأكيد اللقب.
“سأرافقكما فورًا إلى رئيس الكهنة.”
كان الكاهن الذي أرشدهم من كبار المسؤولين على ما يبدو، إذ حظي بالتحية من الكهنة الآخرين أثناء مروره في الممرات.
سارت بيكسان خلفه، تراقب محيطها خفية.
في الظاهر، بدى الكهنة غير مبالين، لكن أنظارهم كانت مركزة عليها تحديدًا.
[يكنّون لكِ إعجابًا كبيرًا لنجاحكِ في منع المجاعة.]
[ينظرون إليكِ بازدراء لأنكِ سلبتِ الفضل في شفاء الإمبراطور.]
ضيّقت بيكسان عينيها من تحت غطاء ردائها.
‘إعجابٌ من جهة، وعداءٌ من جهة أخرى.’
لم تكن بحاجة لكسب ودّ الجميع، كما أن آراء
الكهنة العاديين لا تهم.
‘الأولوية لرأس الهرم.’
في نهاية الممر، ظهرت أمامهم بوابة مقوّسة مزينة بإطار معدني.
وما إن فُتحت، حتى برزت امرأة طويلة القامة وكأنها كانت تنتظر.
“أهلًا وسهلًا، صاحب السمو دوق زاهيغ، وأنتِ أيضًا، أيتها الحكيمة.”
كانت رئيسة الكهنة امرأة شابة على عكس المتوقع، ربما في أواخر الثلاثينات من عمرها.
شعرها البني الكثيف، ورداؤها الأبيض الناصع، وانطباعها الهادئ… كانت تمثل صورة رئيسة الكهنة المثالية.
لكن نظرتها الرمادية، التي تنم عن قوة وشراسة، أثبتت أنها ليست مجرد شخصية وديعة.
إلا أن عينيها أصبحتا لطيفتين للغاية عندما التقتا بإكسارش.
“صاحب السمو دوق زاهيغ، مضى وقت طويل منذ آخر لقاء لنا. لماذا لا تزورنا أكثر؟”
“كنت مشغولًا بالعمل، أرجو تفهّم ذلك.”
‘يبدوان مقربين.’
بعد انتهاء حديثها مع إكسارش، التفتت رئيسة الكهنة أخيرًا إلى بيكسان.
“لقد كان من غير اللائق أن نترك ضيفتنا واقفة طوال هذا الوقت. أنا رئيسة الكهنة إلينوار.”
“تشرفتُ بلقائكِ. أنا ميني.”
مرّت لحظة من التوتر بينهما، لم تكن عدائية، بل مجرّد توتر.
‘تشبه إلى حدٍّ ما حيوانًا عاشبًا.’
تخيّلت بيكسان في ذهنها صورة غزال أو أيائل، ثم جلست على الأريكة بناءً على الإرشادات.
قُدّم الشاي، لكن الصمت حلّ مع قدومه.
لم يبدُ أن إكسارش ينوي التحدث، إذ اكتفى برفع كوبه بهدوء.
أخيرًا، بعد أن شبكت يديها بقوة، فتحت رئيسة الكهنة فمها.
“…سأكون صريحة. هل أنتِ ’حكيمة ريتور‘؟”
توقفت بيكسان للحظة.
‘عاجلًا أم آجلًا سيُكشف الأمر، وإن كذبت الآن، فلن يؤدي ذلك إلا إلى تقويض الثقة.’
نزعت ردائها وأجابت بهدوء:
“نعم.”
شهقت إلينوار قليلًا.
“…إذًا، لقد ظهرتِ أخيرًا، بعد مئة عام.”
“يبدو أن الأمر كذلك.”
“…….”
خفضت رئيسة الكهنة نظراتها الرمادية وبدأت الحديث.
“سمعتُ أنكِ جلبتِ جثة ’الوحدة‘.”
“صحيح.”
“كما تعلمين، اللعنة والنِعَم هما نقيضان تامان. لكن بسبب قوة ذلك الوعاء، فإن الشيء الملعون يمكن استخدامه بسهولة كحامل للطاقة المقدسة.”
‘هكذا إذًا؟’
نظرت بيكسان إلى إكسارش، لكنه بدا غير متفاجئ كما لو كان على دراية مسبقة.
“لهذا السبب قررت ميني التبرع بها لفرسان المعبد.”
لم ينسَ إكسارش أن ينسب الفضل لها.
‘لا عجب أن الجميع يحبونه. رينات، تعلّم منه قليلاً.’
لكن رئيسة الكهنة بدت متضايقة قليلًا.
“أرجوك، استخدم أسلوبًا أكثر احترامًا، صاحب السمو. لقد نلت بركة .”
“كان مجرد حظ.”
“مهما كان السبب، فالنتيجة لم تتغير.”
لم يرغب إكسارش في الجدال أكثر، فالتزم الصمت.
يبدو أنها لم تكن المرة الأولى التي يتناقشان فيها حول هذا الموضوع.
بعد لحظات، وجهت رئيسة الكهنة أنظارها إلى بيكسان.
“ما أحضرتهِ لا يقدّر بثمن. لذا، أريد أن أسألكِ، ما المقابل الذي تريدينه؟”
“ماذا؟”
“كما تعلمين، ليس للمعبد أي نفوذ. حتى لو رغبتِ في استعادة لقب عائلة ريتور البارونية، فلن نتمكن من مساعدتكِ…”
“لحظة، انتظري.”
رفعت بيكسان يدها، إذ بدا أن هناك سوء فهم كبير.
“لا شيء.”
“ماذا؟”
“لا أريد شيئًا.”
“…….”
بدت إلينوار مذهولة، ثم تلعثمت قليلًا قبل أن تسأل:
“هل هذا يعني أنها مجرد تبرع بلا مقابل؟”
‘إذا طرحتِ السؤال بهذه الطريقة، فسيكون من الصعب الإجابة.’
“المعبد يقدم المساعدات للفقراء، أليس كذلك؟”
“نعم، بالطبع.”
أضافت إلينوار بصوت خافت، وكأنها تشعر بالحرج:
“لكن بسبب نقص التبرعات، نطاق مساعدتنا محدود.”
“هذا يكفي.”
“عفواً؟”
“هذا كافٍ. لا أطلب مالًا، ولا دعمًا سياسيًا.”
“إذًا…”
“فقط استمري في مساعدة الناس كما تفعلين. كل ما أريده هو ألّا يُستخدم ذلك السلاح ضد الأبرياء.”
اتسعت عينا إلينوار الرماديتان، وأظهرت تعبيرًا نقيًا وصادقًا لأول مرة.
‘إنها شخص جيد حقًا.’
حين غادرت بيكسان، نظرت إلينوار إلى العربة المغادرة عبر النافذة، متذكرة ملامحها الواضحة وشعرها الأزرق البنفسجي وعينيها الزجاجيتين الوردية الفاتحة.
‘هل كانت صادقة حقًا؟’
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 66"