كانت كارين تسحب حقيبتها عبر الممر، وابتسامة حزينة ترتسم على وجهها وهي تتذكّر حديثها مع سيستيا في وقتٍ سابق من النهار.
‘لا تذهبي، كارين. أرجوكِ؟’
لم تكن سيستيا ذكية فحسب، بل كانت ناضجة أيضًا، ولم تكن تتدلّل أو تسبب المتاعب قط.
لذا، عندما توسّلت إليها ألا تذهب وتعلّقت بها، شعرت كارين بانقباضٍ مؤلم في صدرها.
شعرت أنّ سيستيا تكنّ لها محبة صادقة، وأنها تعاملها بما يفوق مجرد كونها خادمة مجيدة في عملها، وكان ذلك يسعدها كثيرًا.
“أنا أيضًا لا أريد أن أرحل. أريد أن أبقى طويلًا إلى جانب السيدة سيستيا.”
همست كارين بالكلمات التي كانت تتمنى قولها أمام سيستيا، لكنها لم تستطع التفوّه بها آنذاك، خشية أن تنفجر مشاعرها المكبوتة من حزنٍ وامتنانٍ وذنبٍ دفعةً واحدة.
لم تكن كارين تنوي ترك خدمة سيستيا لتذهب إلى فاليريا، لكنها لم تستطع أن تردّ طلب فاليريا بقسوة، وهي تعلم كم كانت أمّها، بيني، قد أذاقت فاليريا من القسوة والحرمان.
‘لا تشعري بالذنب على شيءٍ لم ترتكبيه، ولا تحاولي تحمّل ما ليس لكِ.’
‘لكن، يا سيدتي سيستيا…’
‘حتى وإن كان الأمر صعبًا ومؤلمًا، فإن تجاوز ذلك وتقبّله مسؤولية تقع على عاتق فاليريا. إذا لَبَّيتِ كل ما تطلبه بدافع الشفقة، فسوف تفسدينها. ثم إنها ستُجري طقوس البلوغ بعد يومين، أليس كذلك؟’
لم يكن ما تمر به فاليريا ذنب كارين.
والتفريغ عن الغضب في الآخرين حين تكون النفس مجروحة، ليس أمرًا صائبًا.
كانت كارين تعلم كل هذا، ومع ذلك تنهدت بعمق وتوقفت أمام بابٍ ضخمٍ فاخر.
كان هذا هو الطابق الثاني من المبنى الداخلي، حيث تقيم فاليريا.
طرقت مرتين، فانفتحت الباب لتظهر فاليريا بابتسامة مشرقة.
“كارين! أهلاً بكِ! كنت بانتظارك! هل جلبتِ لي الهدية؟”
“آسفة… كان عليّ أن أُحضِرها مسبقًا… لم أكن أعلم أن طقوس بلوغك ستكون بعد غدٍ. لا أدري إن كان بين أشيائي ما قد يروق لكِ.”
“لم تُحضري شيئًا؟”
تطلعت فاليريا إلى الحقيبة التي تجرّها كارين بعينٍ خافتة اللمعان.
كانت الحقيبة تضمّ فقط ما اعتادت استخدامه يوميًا، إذ خرجت برفقة سيستيا، دون أية مقتنيات فاخرة أو باهظة الثمن.
ولم تدرك كارين كم سيبدو ذلك محرجًا ومؤلمًا إلا الآن.
خفضت فاليريا رأسها بحزنٍ مصطنع بعد لحظة صمت.
“طقوس البلوغ لا تُقام سوى مرةٍ واحدة في العمر، وأنا الوحيدة التي لم تتلقّ هديةً لها.”
كان صوتها يطعن الضمير ببطء.
ارتجفت كارين وردّت بصوتٍ خافت: “آسفة.”
“لقد غيّرتُ موعد الطقوس على عجل حين علمتُ أنكِ ستأتين… لكن لا بأس، فأنا ابنة فرعٍ منسيٍّ من العائلة، لا أحد يهتم بي.”
لم يكن من الممكن أن تعلم كارين أنها غيّرت الموعد فجأة.
عادةً ما يُجري أفراد عائلة شافيل وأنواع النمور الأخرى طقوسهم في منتصف الشتاء، حين لا تتقاطع مع طقوس عائلة غلادوين.
لكن فاليريا، بصفتها ابنة القيّم على القاعة، تحقّقت من موعد وصول سيستيا وكارين، ثم غيّرت طقوسها لتكون بعد يومين فقط.
ابتسمت فاليريا وهي ترى الحزن على وجه كارين، ثم تشبثت بذراعها بلطفٍ مصطنع.
“لا بأس، لقد اعتدتُ على الأمر. أنا سعيدة جدًا لأنكِ جئتِ خصيصًا لأجلي، هذا أعظم هدية بالنسبة لي!”
“إن كان الأمر كذلك، فأنا مطمئنة.”
ضحكت فاليريا بخفةٍ ناعمة، ثم أسندت رأسها على كتف كارين هامسة:
“شكرًا لكِ، أختي الكبرى.”
ارتجف جسد كارين من القشعريرة.
***
اختفت كارين.
رحلت ومعها كلّ أمتعتها.
“إلى أين يمكن أن تكون ذهبت؟”
لقد قضت تسع سنواتٍ كاملة ملازمةً لها صباحًا ومساءً، ولم يحدث قط أن اختفت بهذه الطريقة.
فتّشت سيستيا الطابق الثالث الذي تقيم فيه، والطابق الأول الخالي، والحديقة، لكنها لم تجد لها أثرًا.
وكلّما زاد بحثها، ترسّخ في ذهنها أنها ذهبت إلى فاليريا.
‘لقد توسّلتُ إليها ألا تذهب، لكنها لم تستمع إليّ.’
شعرت بمرارةٍ ممزوجةٍ بالقلق.
بعد أن جابت الحديقة كاملة، صعدت إلى مدخل الطابق الثاني حيث تقيم فاليريا وطرقت الباب.
“السيدة فاليريا، هل أنت بالداخل؟”
لم تأتها إجابة، لكنها أحسّت بحركةٍ خفيفة من الداخل.
فتشبثت سيستيا بعزمٍ وبدأت تطرق الباب بقبضتها.
“فا! لي! ريا! أنا سيستيا! أرجوكِ افتحي الباب قليلًا، لديّ أمرٌ عاجل! افتحي! افتحي الآن! إن لم تفتحي فلستِ نمِرةً حقيقية! حريق! هناك حريق!”
صرخت بصوتٍ عالٍ يكفي أن يُسمع من آخر القاعة، لكن الباب لم يُفتح.
‘حسنًا، يبدو أنّ هناك شيئًا لا تريد أن تريني إياه.’
‘وماذا أفعل الآن؟’
وبينما كانت تتلفّت حولها، لمحت ثقبًا صغيرًا في الجدار.
ثقب لا يمكن لنمرة أن تُدخل فيه حتى مخلبها، لكنه مناسب تمامًا لهامستر صغير مثلها.
كان مثقوبًا بعناية ومزيّنًا حول الحواف، وحتى أن هناك كتابةً صغيرة بجانبه:
[من أجل محبوبتنا الصغيرة التي تحبّ استكشاف المتاهات]
‘…من يسمّيني محبوبة صغيرة؟!’
لكنها لم تُطِل التفكير، فبفضل مبالغة توأميها في العناية بها، تمكنت بسهولة من الدخول إلى غرفة فاليريا.
***
“أأنتِ تعتبرين هذا القذر هدية؟”
صرخت فاليريا وهي تلقي بالحذاء الذي كانت تمسكه نحو كارين.
أصاب الحذاء صدر كارين وسقط على الأرض بإهمال.
جلست فاليريا على الكرسي بانحراف، تسند ذقنها إلى يدها وتشبك ساقًا فوق الأخرى.
“أنتِ ابنة الفرع الرئيسي لعائلة شافيل، أليس كذلك؟ كيف تكون أشياؤكِ أقل شأنًا ورداءة من أشيائي أنا؟ رائحتها كالعفن!”
“…آسفة. السيدة سيستيا طلبت أن أحمل ما يُناسب الحياة البسيطة والمريحة…”
“وهل هذه الأشياء مريحة بالنسبة لكِ؟”
سخرت فاليريا وهي تلوّي شفتيها.
“استوليتِ على كل ما تملكه العائلة ولم تتركي لنا شيئًا، ثم تتباهين بأنكِ من السلالة الرئيسة وتحتقرين الآخرين، لكن ما أراكِ إلا بلا قيمة.”
ارتجفت كارين وهي تنحني لالتقاط الحذاء عن الأرض وتضعه في الحقيبة.
كان ذلك الحذاء هدية من سيستيا في عيد ميلادها.
وقد أزالا منه الزينة كي لا تتعثر، وصنعه صانعٌ بارع مما جعله مريحًا وغاليًا، لكن تكرار ارتدائه جعله يبدو باليًا.
سألتها فاليريا بنبرةٍ متغنّجة: “هل فكرتِ في عرضي؟”
ازدادت كارين قلقًا، فحين تكون فاليريا في مزاجٍ جيد، يحدث أمرٌ سيئ لا محالة.
“أعني سيستيا. طرقت الباب بضع مرات ثم رحلت. أليس هذا إذنًا ضمنيًا بأن تصبحي خادمتي؟”
“نادِيها بالسيدة سيستيا. وهي لم تتركني، بل خرجت لتبحث عني في مكانٍ آخر.”
“لا تقولي هراءً. أظنّ أني لم ألاحظ؟ عندما جاءت سيستيا، تعمّدتُ إحداث ضجةٍ لتدرك أني هنا. لكنها تجاهلتك وغادرت. أهذا ما تفعل النمرة الكبرى؟ كم هي غبية!”
“ذلك غير صحيح…”
“كانت تعلم أنك هنا، لكنها سلّمتكِ لي وغادرت.”
“لا، مستحيل! السيدة سيستيا لن تفعل ذلك!”
رغم ردّها القاطع، شعرت كارين بغصّةٍ مؤلمة في صدرها.
النمور ضخام الأجساد أقوياء، لكنهم بطيئو الملاحظة.
أما سيستيا فهي هامستر، شديدة الحذر، تسمع حتى صوت حبة بلوطٍ تتدحرج، ولا يفوتها شيء.
وكانت كارين متيقّنة أنّها، بذكائها المعتاد، لا يمكن أن تفوّت مثل ذلك الصوت.
‘هل غادرتِ حقًا؟ هل تركتِني هنا؟’
عضّت كارين باطن شفتيها بحزنٍ وهي تُخفض رأسها، حين فُتح الباب فجأة بعنف.
دخل خادم فاليريا مذعورًا.
“السيدة فاليريا! هناك طارئ!”
“ما هذا؟ من سمح لك بالدخول هكذا؟ أتريد الموت؟”
“أعتذر! لكن… الأمر عاجل… السيدي نيكولاي…!”
“أبي؟ ما به أبي فجأة؟”
“إنه…!”
وما إن سمعَت فاليريا كلامه حتى نهضت من مقعدها بسرعة.
***
“السيد نيكولاي، أهذا ما تضعه كزينة؟!”
ألقيتُ بفصّ ثومٍ متعفّن نحو نيكولاي.
اصطدم بجسده وارتدّ إلى الأرض.
ركع نيكولاي على ركبتيه، منحنٍ بعمق.
“…أرجو عفوك، سيدتي سيستيا.”
“هذه القاعة تحت إشراف عائلة غلادوين مباشرة، أتعلم كم يُنفق عليها؟ ثم تضعون ثومًا فاسدًا على طاولة الطقوس؟ رائحته كريهة!”
“لقد أخطأت، سيدتي… خُزّن بشكلٍ سيئ خلال موسم الأمطار الأخير فتعفّن… لم نشهد مثل هذه الأمطار من قبل في هذه المنطقة…”
“لا أريد سماع الأعذار.”
قطعت كلامه بجفاء.
أن يجهل طريقة حفظ الثوم بعد عشر سنواتٍ من العمل هنا؟ هذا تقصير واضح.
ومنذ يوم الطقوس، راودني شعور غريب.
كانت هناك أعشاب ذابلة وثوم فاسد وخضروات مسوّسة موضوعة كزينة على الطاولة، ظننت الأمر عارضًا آنذاك، لكني أدركت الآن أنه لا يُغتفر.
فجأة، ظهرت فاليريا وسط العاملين المرتبكين، وانحنت تحتضن كتفَي أبيها والدموع تترقرق في عينيها.
“أرجوكِ، سامحيه! لم يكن يعلم، حقًا! سنحضّر خضرواتٍ جديدة ونُعيد الطقوس فورًا، فقط توقفي عن هذا!”
“حسنًا.”
أجبتها بهدوء، ثم التفتُّ إلى كارين التي تبعتهم.
“لكن بدلًا من والدك، اجثي أنتِ واطلبي الصفح، وسأسامحه.”
“س… سيستيا…”
اتسعت عينا فاليريا وارتجف جسدها، فيما رفع نيكولاي رأسه غاضبًا.
“سيدتي سيستيا، الخطأ خطئي، لا علاقة لفاليريا به!”
“لكنّ رأي فاليريا يختلف، أليس كذلك؟”
“ماذا…؟”
حدّقتُ بثبات في عيني فاليريا التي تهرّبت من نظري، وقلت ببطءٍ واضح:
“فاليريا شافيل، أنتِ ممن يؤمنون بأن الأبناء يجب أن يدفعوا ثمن خطايا والديهم، أليس كذلك؟”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات