الفصل 58

بعد أن ساعدت أخي على الاستلقاء في السرير بسبب الجرح أسفل فكه وتبعات السُبات الشتوي، ذهبتُ أبحث عن ميليا وويلوبيري.

ما إن رأتاني، وأنا أدخل غرفة الاستقبال الصغيرة المخصصة للضيوف حيث كانتا تتحدثان، حتى تهلّل وجهاهما.

“أهلاً بكِ يا سيستيا. هل تحدثتِ جيداً مع تيغريس؟”

“تحدثنا، لكن قلبي يغلي غيظاً.”

ألقيت بجسدي على طرف الأريكة، وأسندت مرفقي على الطاولة ووضعت وجهي في كفّي.

لم أحب أبداً هذه الوضعية التي تجعل وجنتَي الممتلئتين تبدوان كعجين منضغط، لكن اليوم لم يكن بوسعي تفاديها.

“مهما أراد تكبير الأمر، كيف يمكنه إخفاء المجرم الذي جرح فكه بهذه الطمأنينة لأيام عديدة، وهو يعلم من هو؟!”

“إنه تيغريس. لا يليق به أن ينفجر غضباً ويعاقب على الفور كما لو أن نملة صغيرة عضت إصبعه وصاح: ‘أيها الوغد!’ ذلك ينقص من هيبته.”

“لكن زوي ليس نملة، إنه قط بري.”

“كلها قطط في النهاية.”

تنهدت بعمق عند ردّ ويلوبيري الهادئ.

يبدو أنني الوحيدة التي ضاق صدرها لرؤية ندبة على فك تيغريس أخي.

رفعت ميليا فنجانها برشاقة وقالت:

“إذاً، ما الذي تنوين فعله الآن؟”

“وما الذي يمكن أن أفعله؟ سأعاقبه طبعاً.”

“ومن تقصدين؟”

كان سؤالاً يحمل مغزى عميقاً، فأطبقت شفتيّ وأسقطت يدي عن وجهي.

ولما لم أجب فوراً، ارتشفت ميليا رشفة من شايها وتابعت:

“زوي فعل ما لا يُغتفر. وهذا ليس أول مرة. لكن، سيستيا، لا تظنين أن الأمر سينتهي عنده فقط، أليس كذلك؟”

هززت رأسي ببطء وثقل.

“أعرف السبب الذي دفع زوي لفعل ما فعل.”

كنت قد بدأت أحقق في عائلة القطط البرية التي ينتمي إليها زوي بناءً على نصيحة من كونروا ورينغ.

بالمظهر الخارجي، كانت القطط البرية أضعف وأصغر مقارنة بالنمور، وزوي لم يكن مثل وانشين في البروز أو التفاخر بنفسه.

لكن حين غصتُ في التحقيق، تكشّف لي أن أفعال زوي تحمل نقاطاً غامضة، وفهمتُ حينها لماذا لجأ إلى ذلك.

“لكن هذا لا يعني أنني سأغفر له أو أُخفف العقوبة. على العكس تماماً. وجود أسباب لا يجعل الخيانة أو الأفعال الدنيئة مقبولة.”

“تفكير ناضج.”

“ولهذا السبب قررت أن أعاقب الاثنين معاً.”

شددت على لفظة ‘الاثنين’.

ابتسمت ميليا ابتسامة خفيفة، فأومأت برأسي تأكيداً.

“أين هو ذلك السوين الآن؟”

“هنا. وإن أردتِ، يمكننا إحضاره إليكِ حالاً.”

“ليس الآن. ليس بعد. أريد أن تحضروه عند حلول المساء، حين يكون مطمئناً تماماً. ويجب أن يكون من يحضره هو كونروا بالتحديد.”

“لحظة، قلتِ كونروا؟”

تدخّلت ويلوبيري فجأة، بعد أن كانت صامتة تستمع لحوارنا، وقد عقدت حاجبيها.

“لا! أنا من سيفعل! أريد أن أكون من يدخل ببراعة في اللحظة التي تسقط فيها الشريرة على يديك يا سيستيا!”

“لا. يجب أن يكون كونروا.”

“لماذا؟ لماذا لا نكون نحن؟”

رفعت إصبعين أمامها وقلت:

“لأنه يجب أن يُضرب الشرير مرتين.”

***

جرت التحقيقات بسرعة أكبر مما توقعت.

لأن زوي لم يُحاول حتى إخفاء جريمة الاغتيال.

فبناءً على اعترافه، عُثر على خطة الاغتيال فوق مكتبه، والسكين المستخدم كان موضوعاً في الدرج.

نظر زوي بازدراء إلى محققي قصر بايل وكأنه يقول: ‘أخيراً وجدتم ما كان أمامكم منذ البداية؟’

أما وانشين فقد كانت تصرخ بيأس.

“لا! ليس صحيحاً! صحيح أنني أردت أن أصبح الأقوى بين فصائل القطط الكبيرة، لكن لم أفكر أبداً في استخدام وسيلة كهذه! صدقوني!”

لكن لم يصدقها أحد.

فقد جعلت تيغريس يقف لساعات وسط الثلج قبل النزال، ثم جاء اعتراف زوي الصريح ليحكم عليها أكثر.

وحين اجتمعت كل الأدلة، التقينا مجدداً لتحديد العقوبة.

اجتمع سوين عائلة بايل وأنا وزوي في الغرفة التي كان يرقد فيها أخي تيغريس.

جلسنا حول زوي، الذي كان راكعاً على الأرض، في دائرة حوله.

كان يؤلمني أن رينغ كانت ترى ما سيحدث، لكن رينغ جلست بهدوء قائلة إنه نصيبها الذي يجب أن تتحمله.

لا مفر من ذلك.

على الرغم من أنني كنت قلقة على رينغ ذات القلب الرقيق، إلا أنني لا أستطيع أن أملي على بالغة من عائلة أخرى ما يجب عليها فعله.

خيم صمت ثقيل على الغرفة حيث اجتمع كل المعنيين.

وكانت رينغ أول من تكلم، بصوت مرتجف:

“سيدتي سيستيا. من المستحيل أن تكون أمي قد أرادت إيذاء السيد تيغريس. صحيح أنها متشددة أحياناً، لكنها ليست من يؤذي أحداً بلا سبب. هذا بالتأكيد افتراء.”

ثم عضّت على أسنانها بشدة وهي تحدق في زوي بغضب.

“زوي! كيف تجرؤ أن ترتكب جريمتك ثم تلصقها بأمي؟ كيف يمكنك فعل ذلك؟!”

ابتسم زوي ببرود وردّ:

“بل أنتِ من يجحف في حقي يا سيدة رينغ. أنا لم أفعل سوى تنفيذ ما أمرتني به سيدتي وانشين بكل إخلاص، مخاطراً بحياتي.”

ليس يكن ذلك كلاماً خاطئًا.

فمحاولة وضع السكين على أخي تيغريس كانت حقاً فعلاً يهدد حياته.

لقد كان من حسن الحظ أن أخي تغاضى عن الأمر، وإلا لكان قد قُبض عليه أو قُتل في ذلك المكان، ولم يكن ليكون لديه ما يقوله. 

إذن، كان زوي يريد دفع وانشين إلى الزاوية، حتى لو كلفه ذلك حياته.

في المرة الأولى عندما أرسل وي وباربا إلى جلادوين، والآن.

لهذا السبب كره زوي موقفي عندما سامحت وي وتعاطفت معه. لأنه كان يتوقع مني أن لا أسامح وي وأن أغضب بشدة وأحاسب وانشين.

تجاهلت محادثة زوي ورينغ، وسألت وانشين التي كانت ترتجف غضبًا منذ فترة. هذا ما كان زوي يود معرفته في هذه اللحظة بالذات.

“يا سيدتي وانشين. كيف هو شعوركِ الآن؟”

“شعوري؟ إنه مثل ♬ تمامًا.”

عند إجابتها الصريحة، ارتجف كتفا زوي.

سمعت صوت شهيق خافت، مما يشير إلى أنه كان يضحك على الأرجح.

قفزت رينغ فجأة من مقعدها، وركلت كتف زوي بساقيها النحيلتين كالعيدان.

“أيها الشرير…! انظري يا سيدة سيستيا. من الواضح أن كل هذا من تدبير زوي! إنه بالتأكيد دبر هذا ليوقع أمي في مأزق!”

“صحيح. أنا مظلومة حقاً. لم أرغب أبداً في موت السيد تيغريس. رجاءً، أحكموا بحكمة واسمحوا لي بتمزيق هذا القط البرية إرباً!”

استمر توسل رينغ ووانشين لفترة طويلة.

انتظرت بصبر حتى انتهاء توسلهما، ثم سألت وانشين مرة أخرى.

“هل تتوقعين سبب حدوث هذا؟”

“هذا واضح! أليس هذا القط الغبي قد أساء فهم كلامي ودبر هذا الأمر من تلقاء نفسه؟!”

كانت إجابة خاطئة.

ما فعله زوي كان خاطئًا بالتأكيد.

ولكن بعد سماع ما عرفته أثناء التحقيق في ماضي زوي، بالإضافة إلى إجابة وانشين، شعرت ببعض التفهم لزوي.

نظرت سريعًا إلى أخي تيغريس، فأومأ برأسه بخفة.

كانت إشارة للبدء.

استدرت وجلست باتجاه وانشين.

أرجعت ذقني، وأنزلت كتفي، وبرزت صدري، وفردت ظهري، وجلست بوضعية صحيحة وواثقة، ثم فتحت فمي ببطء.

“من الآن فصاعدًا، سأتحدث عن أمور قد تكون مزعجة لكِ يا سيدة وانشين. هل أنتِ مستعدة لقبول الواقع؟”

“قبول الواقع؟”

“إذا لم تكوني مستعدة بعد، فمن الأفضل أن تستعدي الآن.”

“ماذا يعني هذا…….”

“كونروا، ادخل الآن.”

“لماذا تستدعين كونروا في هذا الموقف؟”

فُتح الباب ودخل كونروا. ورأيت ميليا وويلوبيري، اللتين كانتا تقفان خلف الباب المغلق، يغمزان لي.

كان يجلس على الكرسي المتحرك الذي يدفعه كونروا سوين لم أره من قبل، لكنني عرفت هويته بالفعل من خلال القصة.

كان جزء من ساق السوين العجوز الجالس على الكرسي المتحرك مجوفًا.

كان زوي الأكثر دهشة من ظهور السوين الجديد.

“ه… هذا! كيف استطاعت السيدة سيستيا…!”

“ما الذي يدهشك إلى هذا الحد؟”

‘يبدو أن زوي لم يعجبه ردي الهادئ، فجز على أسنانه وأخفض رأسه.’

“ما هذا……. لقد وضعتُ سكيناً على رقبة تيغريس جلادوين، وكانت وانشين هي من تقف وراء ذلك. أليس من الأفضل أن تُقطع رقابنا وينتهي الأمر ببساطة؟” 

“هل تريد أن ينتهي الأمر بهذه البساطة حقاً؟ أنا هنا لأحقق لك أمنية حياتك التي راهنت عليها. حسناً، إذا كنت لا تريد، يمكننا إنهاء الأمر هنا.” 

“لِماذا… لِماذا تفعلين هذا يا سيدة سيستيا….”

“لأنني لستُ مجرد سيستيا، بل سيستيا ‘جلادوين’.”

وفوق ذلك، حان الوقت كي أنال أنا وتيغريس أخي من أولئك الذين تجرأوا علينا.

رمشت وانشين بعينين حائرتين، ولم تستوعب بعد ما يجري.

“سيدة سيستيا. من يكون هذا السوين؟”

أجابت السوين الجالسة على الكرسي المتحرك على سؤال وانشين.

“كنتُ أتوقع أن يحدث هذا، لكن يبدو أنك لا تذكريني.”

“هل أنتِ شخص يجب أن أتذكره؟”

“يا للأسف. أنا وعائلتي لم ننسَكِ أبداً يا سيدتي وانشين طوال حياتنا، ومع ذلك فقد نسيتِني أنتِ.”

رفعت السوين، التي كانت تحدق في وانشين التي كانت تحاول جاهدة تذكرها وهي تعقد حاجبيها، قطعة القماش التي تغطي ساقها المجوفة.

“أقدم لكِ تحياتي بعد غياب طويل. كنتُ في يوم من الأيام مساعدة لكِ يا سيدتي وانشين، ورئيسة عائلة بينغ، التي قُطعت ساقها من قِبلكِ بعد هزيمتها في مبارزة، وأم زوي الذي يجلس راكعاً هناك، أنا ياوين بينغ.”

“ماذا…… ماذا قلتي؟”

تراجعت رينغ وهي تسد فمها من الدهشة بيديها، وصمتت وانشين.